الأنصار وأخلاق الانتصار

نجيب باشا

 

 

(فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِين) ..
بهذا المبدأ التسامحي الإيماني تعامل المصطفى -صلوات الله عليه وعلى آله- مع كل نصر مبين أيد الله به جموع المسلمين ..
ولأن انتصارات الأنبياء، ثم الأمثل ُفالأمثل هي في الأصل انتصارات لمنهج الله في الوجود، الذي يتضمن واجبية الانتصار للمظلومين من الظالمين والطغاة في الأرض، إذ أنه مبدأ تعبدي لله، قائم على رفض الطغاة، والخروج عليهم، لإخراج الناس من عبوديتهم للناس، إلى عبادة رب الملك والملكوت مالك السموات والأرض وما فيهن ومن فيهن ..
ولأن الانتصار على الظالمين هو في حد ذاته توحيد ًلله، لأن الظالم، وهو يتمادى في ظلمه وطغيانه دون وازع أو رادع أو مقاومة لطغيانه، ينتابه مرض الاستكبار والتعالي على الخلق، وتترسب ُلديه حالة الشعور بالقدرة المطلقة، وما ذلك إلا وَهْمٌ من عند نفسه، فمنهم من يشرك نفسه بقدرة الله، فينطق بأنا الربوبية، وهي حالة استكبارية لمنازعة الله في مُلكه كما قال فرعون: (أنا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)، ومنهم اليوم من يمارس هذه الحالة النمرودية الفرعونية سلوكاً، ًمتمادياً في ظلمه واستكباره، فلا تقدر عليه الدول، ولا تثور عليه الشعوب لكبح جماحه، ولا تنتقده الجماعات فتقوِّم سلوكه. ثم أنه
باستبداده
المالي يكمم الأفواه ويخرس الألسن عن قول الحق، ويستميل الدول العظمى لمؤازرته على الظلم، ويسكت المنظمات الإنسانية، بل ويمسخها في كثير ٍمن الأحوال، ويسيطر على دور النشر حتى لا تطرح الحقائق كما هي، وبالمال يسيطر على مواقع التواصل والصحف، حتى لا يتم فضح جرائمه التي تفوق جرائم الحرب.
يصنع ذلك تارة بالمال وأخرى بالصولجان، وبين هذا وذاك يستمر هذا الطاغية في ظلمه حتى أبلغ مدى، قتلا ً للملايين من البشر، وتدمير بلدانهم ونهب ثرواتهم، فيُشبِع من يريد أن يُشبِعه، ويضرب الجوع على من يشاء، ويقتل ُهذا الفريق من الناس ليغض الطرف عن الآخر، دون أن يردعه أحد من البشر.
وحينئذ تتملكه الحالة الفرعونية (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) .. وهي في الأصل حالة شيطانية، أسسها مُظهر الشر الأول إبليس، الذي أستكبر وظن أنه من العالين.
المثال على فرعونية هذا العصر هو أمريكا الإسرائيلية، وقارونها تمثل بالمال الخليجي الذي يُوظّف من قبل مملكة إسرائيل الكبرى (السعودية).
والمسُتهدف والمسُتضعف في هذه الحرب هو اليمن واليمنيون.
لقد دارت رحى المعارك منذ سبع سنوات عِجاف أُهرقت فيها أنهار من الدماء الزكية لشعب ٍقال (ربي الله)، ولفتية آمنوا بربهم واهتدوا فزادهم الله هدى، ًوثبت أقدامهم ونصرهم على القوم الظالمين، وحين انتصروا في مواطن شتى ومعارك متعددة، بعد أن حرروا القرى والعزل والمحافظات، لم يتملكهم الخُيلاء، ولم يصبهم العُجب بأنفسهم، ولا تخلل إيمانهم وعقيدتهم الغرور بما أنجزوا، بل ازدادوا انكسارا ًبين يدي الله وتواضعاً لمنن الله عليهم، وسبحوا الله تنزيهاً له عن أن يشركوا أحدا معه في هذه الانتصارات، واستغفروه من أن يكون لأنفسهم حظاً في تلك المعجزات التي أيدهم الله بها، فازدادوا بذلك السلوك عبودية ًلله وتواضعا ًبين يدي قدرته، فزادهم الله استئماناً على عباده واستخلافاً لهم ًفي الأرض .. حينئذ ٍاطلقوا مبادرات السلام الواحدة تلو الأخرى،
ورحبوا بحوارات السلام العادل والمنصف، وتنازلوا عن كثير من الشروط، رغبة في خروج شعبهم من المحن، وتجنيبه المؤامرات والإحن،
ومنحوا تلك المحافظات المحررة سلطات أوسع لبنيها، وسارعوا في إطلاق السجناء، وأصدروا العفو العام عن كل من غرر بهم، وشكلوا اللجان المتعددة لحل قضايا الثأر والخلافات المزمنة المستعصية، وعالجوا بتلك الأخلاق كل التمزق النسيجي للمجتمع، وبلسموا الجراحات، ووحدوا الصفوف بين الفئات المجتمعية المختلفة، ترجمةً حقيقية لقول الله عز وجل: (فمن عفا وأصلح فأجره على الله) .. ولم يمُنوا على أحد ٍبهذه الأخلاق المصطفوية والعلوية، بل ازدادوا تواضعاً وانكساراً بين يدي الله، ينتظرون بفارغ الصبر اللحظات التي ينعم بها شعبهم بالأمن والأمان والاطمئنان والاستقرار، كمقدمة حتمية لرخاء أبناء هذا الشعب المجاهد المؤمن.
ومن غرائب وعجائب أخلاقهم أنهم يصنعون تلك المعجزات ويسلكون تلك الأخلاقيات بدمائهم الطاهرة الزكية وتضحياتهم الجسيمة وفدائهم العظيم، ثم لا ينتظرون من أحدٍ جزاء ًولا شكوراً، إنما يرجون رضا ربهم وأجورهم من خالقهم، لا يطمعون في رُتبٍ تُعلق على أكتافهم، ولا أوسمة أو نياشين تُطرز بها صدورهم.
عرفوا حقيقة الرتب وماهية الأوسمة ..
فكانت الشهادة في سبيل الله أعلى الرتب والمراتب عندهم، وكانت الأوسمة لديهم هي التفاني في خدمة امتهم لإخراجها من ربقة الظلم إلى آفاق التحرر والانعتاق .. دخلوا ميادين الانتصارات بقوةِ وإقدام أولي البأس الشديد، وانتقلوا منها شوقاً لبارئهم بهدوء الربانيين إلى العِندية الربانية (عند ربهم يرزقون) .. ليأنسوا بجوار ربهم، هؤلاء هم الأنصار، وهذه هي أخلاق الانتصار.
السلام عليكم يا أنصار الله يوم ولدتم، والسلام عليكم يوم جاهدتم، والسلام عليكم يوم استشهدتم، والسلام عليكم يوم تجيئون مع الأنبياء والصديقين والصالحين وحَسُن أولئك رفيقاً.
يا أنشودة قدسية لحنَّها الأزل
ويا معجزات الله في أرضه وسماواته ..
يا أنصار الله.

قد يعجبك ايضا