مواقع التواصل الاجتماعي والنشر الأدبي وصناعة النجومية

أحمد الأغبري

لا يمكن بأي حالٍ من الأحوال تجاهل ما صارت تقوم به مواقع التواصل الاجتماعي، أو ما تُعرف بالإنكليزية بـ(الإعلام الاجتماعي -Social Media)، على صعيد إتاحة التواصل والتفاعل الحيوي وتبادل المحتوى بين الأفراد والجماعات من مختلف المجتمعات والثقافات؛ فسقطت –بواسطتها- معوقات التواصل والاتصال والوصول إلى الناس في أي زمان ومكان.
لقد شهدت منصات الإعلام الجديد -بما فيها المدونات والشبكات مثل: فيسبوك، تويتر، يوتيوب، ولينكدإن، وغيرها، والتي بدأت في توسيع حضورها منذ مستهل الالفية الثالثة- طفرة كبيرة في تقنيات وأدوات التواصل؛ وتطورت، من خلالها إمكانات إرسال ونشر المحتوى والتفاعل مع المتلقي؛ فضاقت بواسطتها المسافات بين زوايا العالم، وفُتحت جسور التواصل بين المنتمين لاتجاهات الاختلاف الثقافي والحضاري العالمي، ومكّنت الجميع من الاطلاع على نتاج الآخر، وتبادل المعلومات.
ووفقاً لإحصاءات حديثة عن استخدامات الإنترنت في منطقة الشرق الأوسط فإن 88% من مستخدمي الإنترنت في هذه المنطقة يستخدمون الشبكات الاجتماعية بشكل يومي ولديهم حساب واحد على الأقل في أحد تلك المواقع، كما تشير تلك الإحصاءات إلى أن موقع “فيسبوك” يحتل المركز الأول بعدد 172 مليون مستخدم شهرياً وفق إحصاءات vapulus.
لقد استطاعت منصات الإعلام الاجتماعي أن تتجاوز التواصل الاجتماعي لمجالات التواصل الأخرى: سياسة واقتصاد وثقافة وغيرها…فبالإضافة إلى ما صارت تقدمه، هذه المنصات على صعيد نقل وتبادل الأخبار متجاوزة بذلك التلفزيون؛ فإنها على الصعيد الثقافي- وبخاصة في الأدب- أصبحت تقدم خدمات تراجعت معها ما تقدمه وسائل الإعلام التقليدية في هذا المجال، فبعدما كان النشر الأدبي في الصحف والظهور في التلفزيون والإذاعة حكراً على أسماء معينة من الأدباء؛ فإن فضاء الإعلام الجديد صار يقدّم لنا كل يوم أسماء جديدة؛ وهو ما ظهر معه عددٌ كبير من الأدباء الشباب، علاوة على ذلك مازال يتبلور في هذا الفضاء أدب جديد تتجلى بعض ملامحه فيما ينشره بعض رواد هذه المنصات، ممن صارت رؤاهم تتجاوز بيئاتهم المحلية وتتقاطع بنتاج علاقاتهم ببيئات أخرى ورؤى أوسع.
دخل الأدب ضمن استخدامات الإعلام الجديد منذ وقت مبكر، فبعد تراجع الصحافة الورقية والمطبوعات؛ وما تفرضه وسائل الإعلام القديمة من معوقات في النشر كانت هذه المنصات بديلاً متاحاً للأدباء وبخاصة الشباب ينشرون من خلاله أعمالهم، ويصلون بأصواتهم إلى من يريدون، وكذا التواصل مع أدباء في بلدان أخرى، والاطلاع على ثقافة الآخر، كما أتاحت لهم هذه المنصات الوصول للمواقع الإعلامية ودُور النشر والمسابقات ومؤسسات الترجمة وغيرها.
لكن بقدر ما أتاحته مواقع التواصل الاجتماعي من أدوات وتقنيات وما قدمته من خدمات للأدب والأدباء على صعيد النشر والتواصل والتفاعل والانتشار والانفتاح وكسر كثير من القيود وتجاوز أشكال عديدة من الرقابة وغيرها من الإيجابيات، إلا أنها تسببت في عدد من الإشكالات الناجمة عن سلبيات استخدامها، وفي مقدمة هذه السلبيات أن متابعة هذه المنصات صار يأخذ من وقت الكتَّاب والأدباء الكثير؛ وهو ما يأخذ من أوقات القراءة وعلاقتهم بالكتاب المطبوع؛ وبالتالي فإن استخدام هذه المنصات بات من أسباب تراجع العلاقة بالكتاب المطبوع علاوة على تراجع وقت الكاتب والأديب المخصص للطمأنينة والتأمل؛ وهو وقت يحتاجه الكاتب كضرورة لاستعادة طاقته للتفكير واستئناف علاقته بالكتابة؛ ونتيجة لتراجع وقت القراءة والطمأنينة يتراجع مستوى ما تتم كتابته في هذه المنصات من قبل هؤلاء الأدباء، وهو واقع يتكرس سلباً في محدودية ثقافة كثير من متابعي هذه المنصات، إذ يكتفون بقراءة كلمات براقة ليمنحوا إعجابهم بما يقرأوه، على الرغم من أن تلك المنشورات قد تكون- أحياناً- خالية من أي فحوى ثقافية أو معرفي، أو قيمة فنية، وأحياناً تكون مليئة بالأخطاء الإملائية والنحوية، لكنها على الرغم من ذلك تحظى بـ”لايكات” وتعليقات ومشاركات.
بمعنى أن منصات هذا الإعلام بقدر ما تكرّس مواهب حقيقية تعمل على تكريس مواهب غير حقيقية أيضاً؛ لأن المتابعين ليسوا، في معظمهم بمستوى يمنحهم القدرة على الحكم والتمييز، في ظل عزوف النقاد وكبار الكتَّاب عن استخدام هذه المنصات والمشاركة في التقييم… بل إن “النفاق الاجتماعي” السائد من الواقع الحقيقي قد انتقل إلى الواقع الافتراضي؛ إذ تجد كثير من المتابعين مضطراً للنفاق (من خلال الضغط على زر أعجبني) بمبرر “التشجيع” أحياناً وتفادياً للخصومة أحياناً أخرى، وهذه المشكلة -أي النفاق الاجتماعي- تتجلى كثيراً في علاقة المتابعين بالنصوص التي تكتبها امرأة؛ وهو ما يمكن أن نسميه (نفاق اجتماعي على أساس النوع)؛ فتجد أن ما تحصل عليه نصوصهن من “لايكات” يكون أضعاف ما يحصل عليه أديب له تاريخ مع الأدب الجيد، وأحياناً تجد أدباء بارزين يشاركون في هذا النوع من النفاق للأسف؛ وهو ما بات يستدعي إخضاع هذا النفاق لدراسة نفسية اجتماعية ثقافية، وفق ما ذهبت إليه إحدى الدراسات.
كما أن النشر الأدبي على مواقع التواصل الاجتماعي بقدر ما أتاح فرص التواصل والتفاعل والاطلاع. أتاح فرصاً سهلة للسرقات الأدبية وإعادة نشر نصوص ونسبها لغير أصحابها، بالإضافة إلى الكتابة بأصوات أدباء ونشرها منسوبة لهم، بينما هي غير ذلك، ومَن يقومون بذلك يستغلون هذه المنصات في سرعة النشر والانتشار، لإيصال رسائلهم عبر نصوص ينسبوها لأسماء مؤثرة، وهي ليست لهم، فهؤلاء يدركون جيداً أن بلداننا مازالت أضعف في معاقبة مرتكب ذلك أو معرفته والوصول إليه أو لنقل انها لا تولي ذلك اهتمامها.
كل تلك المشاكل التي نعاني منها في علاقتنا بتقييم المحتوى الأدبي في المنصات الاجتماعية تعكس مدى تخلف واقعنا الثقافي والاجتماعي؛ وهو تخلف – وفق دراسات- ينعكس في علاقتنا بتقنيات وأدوات النشر الإلكتروني والإعلام الجديد، لاسيما مع محدودية مساحة النقد البنّاء والسليم في هذا العالم الإلكتروني في ظل بقاء ثقافة الخصومة حاضرة إزاء ثقافة الاختلاف؛ لتحضر ثقافة النفاق في واجهة نسبة كبيرة من وعينا بقيمة (التمييز) الثقافي الإبداعي للأدب؛ وهي مشكلة سبق وتناولتها دراسات إعلامية، ومازالت تستحق دراسات أخرى تواكب جديد إشكالات واقعها.

قد يعجبك ايضا