هل من يُصدِّق أن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان بهذه الطريقة الغامضة والسريعة كان بريئاً، وأنّ الأمريكيين لم ينتبهوا إلى ما ستؤول إليه الأمور من سيطرة «طالبان» أو تمدد «داعش»؟
كلّ هذا التداخل أو التشابك في المسرح الأفغاني، من المفترض أن المخابرات الأمريكية تعرفه بشكل كبير.
تسارعت الأحداث في أفغانستان بشكل دراماتيكيّ، بشكل لم يترك للقوى الغربية، وعلى رأسها الأمريكيَّة، أي فرصة لالتقاط أنفاسها، فبمجرد أن أعلن الأمريكيون بدء الانسحاب من أفغانستان، حتى تدفَّقت وحدات «طالبان» وسيطرت على أغلب الولايات وكامل الحدود مع الدّول المحيطة.
ومع وصول وحدات الحركة إلى مشارف كابول بشكل فاجأ أيضاً الوحدات الغربيَّة، بقيت الأخيرة تعتقد أنَّ وحدات «طالبان» سوف تلتزم كلمتها وتعطيها المجال للانسحاب الهادئ وإنهاء إخلاء كل الوحدات العسكرية والمتعاملين معها من الأفغان، ليتفاجأ الجميع أيضاً، وبشكل مخالفٍ لتصريحات مسؤوليها، بدخولها الصاعق إلى العاصمة كابول، منهية آخر نفوذ وتواجد رسمي للحكومة (الميتة أصلاً)، والتي بقيت مدة 20 عاماً تعيش على أوكسيجين دعم الأمريكيين ورعايتهم، ولتتبخّر هذه الحكومة بسحر ساحر، وكأنها لم تكن موجودة، وكأنها لم تكن تقود وتأمر حوالي 300 ألف جندي مدرَّبين ومجهّزين أمريكياً.
أيضاً، ومع استمرار مسلسل مفاجآت «طالبان» بعد سيطرتها على العاصمة، بقي مسؤولوها يصرّحون بموافقتهم على إعطاء المجال لإكمال الغربيين والمتعاملين معهم إخلاء وحداتهم حتى نهاية الشهر الحالي (آب/أغسطس). ومع تسرّب بعض الغموض في تصريحات المعنيين وقراراتهم بالانسحاب حول صعوبة اكتمال إخلاء وحداتهم والمتعاونين معهم في المهلة المذكورة، تفاجأ الجميع بتفجير انتحاري مزدوج على أحد مداخل مطار كابول، له طابع وأسلوب تفجيرات «داعش» بامتياز.
لم يتأخّر التنظيم كثيراً ليتبنّى التفجير بصراحة، ومع صياغة مماثلة بشكل كامل لبياناته التي عودنا عليها منذ نشأته، وبعبارة: «مقاتل من الدولة الإسلامية تمكَّن من اختراق كل التحصينات الأمنية، واستطاع الوصول إلى تجمع كبير للمترجمين والمتعاونين مع الجيش الأمريكي عند مخيم باران قرب مطار كابول، وفجّر حزامه الناسف وسطهم»، أطلقها التنظيم عبر وكالة أنباء «أعماق» التابعة له، مفتتحاً مرحلة جديدة من العمليات، وانطلاقاً من مسرح مناسب وصالح لكلِّ أنواع الرسائل الدموية.
لم تتأخَّر حركة «طالبان» – كما هو مفترض مبدئياً – فدانت «بشدّة الانفجار الَّذي استهدف مدنيين قرب مطار كابول مساء الخميس»، ونقلت قناة تلفزيونيّة تركيّة عن عبد القهار بلخي، أحد أعضاء اللجنة الثقافيّة في «طالبان»، قوله إنَّ الهجوم على مطار كابول «عملٌ إرهابيّ يستحقّ التنديد العالمي»، مضيفاً أنَّ سببه هو وجود القوات الأجنبية في البلاد، ليتابع بلخي قائلاً في حديث إلى قناة «خبر ترك» التركية: «بمجرد الوقوف على الحقائق في المطار ومغادرة القوات الأجنبية، لن تقع مثل هذه الهجمات بعد ذلك».
في الواقع، وانطلاقاً من حساسيَّة الموضوع، والتي تستحقّ التوقف عندها، إنَّ أغلب أجهزة مخابرات القوى الغربية المعنية بالانسحاب من أفغانستان حذّرت مسبقاً من التفجير، وأشارت إلى أن «داعش» سوف ينفّذه. كما أنَّ هناك الكثير من الوقائع والمعطيات غير المفهومة التي تدعو إلى الاستغراب، والتي ظهرت مع بدء الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وما سبقها من مسار التواصل المباشر وغير المباشر بين «طالبان» والأمريكيين، ولاحقاً مع سيطرة «طالبان» على كلِّ أفغانستان تقريباً، ما عدا ولاية بنجشير شمال كابول، من دون مقاومة تُذكر.
من هنا، هناك الكثير من الأسئلة التي تطرح نفسها، ومن الضَّروري إيجاد أجوبة واضحة لها أمام هذا التسارع والتداخل والتناقض في أحداث مهمة، قد تشكّل نقطة تحول كبرى في المنطقة وشرق آسيا، وفي العالم ربما، وهي:
هل لحركة «طالبان» مسؤولية عن التفجير؟ ولماذا جاء لخدمة أجندتها بالضغط على الغربيين لإنهاء الانسحاب قبل نهاية آب/أغسطس؟ وخصوصاً أن الحركة تحتاج، وبشكل كبير ومؤكّد، لإثبات صدقيتها وجديتها أمام الشعب الأفغاني من جهة، وأمام الدول الخارجية من جهة أخرى، وذلك لناحية التزامها المهلة التي أعطتها للوحدات الأميركية للانسحاب، وذلك من ضمن بنود اتفاق الدوحة، والَّذي كان واضحاً لجهة هذه المهلة، وهي (أي الحركة) لا يمكنها أن تتراجع أو أن تظهر بموقف المتردد وغير القادر على حماية مواقفها وقراراتها، في الوقت الذي تجهّز نفسها لإدارة البلاد وقيادتها، في ظلّ نظام – قال مسؤولوها عنه – إنه سيكون خاص وجديد؛ فمن جهة يحمل ويحترم مفاهيم «طالبان القديمة» قبل الاحتلال الأميركي منذ 20 عاماً، لناحية البعد الإسلامي في الحكم. ومن جهة أخرى، يحمل رؤية حديثة تأخذ بعين الاعتبار التغيير الَّذي أصاب المجتمعات بشكل عام، والمجتمع الأفغاني بشكل خاصّ، كما تأخذ بعين الاعتبار ما يطلبه الغرب بالحد الأدنى لناحية حقوق الإنسان والمرأة والعلاقة مع المجتمعات والدول الأخرى.
هل «داعش» مسؤولة وحدها عن الأمر دون «طالبان»؟ إذا كان الأمر كذلك، وهو ما يحمل أيضاً نسبة غير بسيطة من الصحة، فهل يعمل التنظيم لوحده؟ وهل قضت الصدفة بأن يستهدف الغربيين والأمريكيين بالتحديد الذين تأخروا بالانسحاب، تماماً كما حذرت «طالبان»؟
وفي حال تحمّل «داعش» المسؤولية لوحده من دون تسهيل أو تدخل أو غضّ نظر من «طالبان»، فإلى ماذا تؤشر قدرة «داعش» على الوصول إلى مداخل المطار وإلى أمكنة تجمّع الغربيين الذين يقومون بعملية الإخلاء، بعد أن كانت «طالبان» قد وعدت وتعهَّدت (شفهياً) على الأقل، للأمريكيين والروس والغرب بشكل عام، بأنَّها لن تسمح لـ”داعش” بالعمل انطلاقاً من أفغانستان، فكيف إذاً يمكن تفسير قدرة «داعش» على القيام بتفجير إرهابي هو الأعنف والأصعب ضد الوحدات الأمريكية التي تحمي وتدير أكبر عملية إخلاء في تاريخها، على مداخل المطار الَّذي لم يبقَ غيره أمام تلك الوحدات لحمايته، وعلى القسم الأمريكي منه بالتحديد، في الوقت الَّذي كانت قد وصلت معطيات مسبقة عن احتمالية التفجير لأغلب الغربيين، ولكنهم فشلوا في تفاديه، ليسقط العشرات منهم بين قتيل وجريح، فإذا كانت «طالبان» متواطئة مع «داعش»، فإننا مقبلون على قيام «الدولة الإسلامية» في أفغانستان، والمماثلة لدولة البغدادي بالتمام والكمال. ويكون الأمريكيون قد ساهموا عبر مسار طويل من الرعاية والتخطيط المباشر، تجاوز 20 عاماً، في خلق هذه الدولة في منطقة هي الأكثر حساسية وقدرة تأثير في مثلث خصومهم الأقوى: روسيا – الصين – إيران.
وإذا كانت «طالبان» صادقة بتمايزها ومعارضتها تنظيم «داعش»، ومع ذلك استطاع الأخير تنفيذ هذا العمل الإرهابي بصعوبته وحساسيته، والذي كان متوقعاً ومنتظراً من الجميع، فإنَّ «طالبان» حكماً سوف تعجز عن ضبط عمليات «داعش» في المناطق الرخوة أمنياً داخل أفغانستان، وما أكثرها حالياً! وأيضاً سوف تفشل في منع تسلل التنظيم خارج الحدود، وفي كلّ الاتجاهات، وسنعود أيضاً إلى النتيجة نفسها، لناحية نشوء نواة إرهابية قوية وقادرة على العمل في أغلب اتجاهات مناطق الاهتمام الأمريكي في العالم.
بماذا يفسّر الأمريكيون قيام «طالبان» بإطلاق كلّ السجناء الموقوفين والمحكومين من السجون الأفغانية بطريقة عشوائية وبشكل جماعي، في الوقت الَّذي لم يتم التأكّد من أنَّ من بين هؤلاء المسجونين الذين أُطلق سراحهم، لا يوجد أفراد تابعون لتنظيم «داعش» أو «القاعدة»؟
مع تصرف كهذا غير مسؤول وبعيد كل البعد عن المهنية الأمنية والاستعلامية، كيف يمكن أن تكون حركة «طالبان» قادرة على تنفيذ تعهداتها بمنع تمدّد «داعش» أو «القاعدة» وانتشارهما؟
كلّ هذا التداخل أو التشابك في المسرح الأفغاني، من المفترض أن المخابرات الأميركية تعرفه بشكل كبير، تماماً كما من المفترض أن تكون هذه الأجهزة على اطلاع واسع على قدرة “طالبان” و”داعش” من كل النواحي العسكرية والأمنية، والإرهابية حتى، فهل من يُصدِّق أن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان بهذه الطريقة الغامضة والسريعة كان بريئاً، وأنّ الأمريكيين كانوا غير منتبهين إلى ما ستؤول إليه الأمور في تلك البلاد بعد تنفيذ انسحابهم هذا من سيطرة كاسحة لـ”طالبان” أو من تمدد فعال ومؤثر لـ”داعش”؟
وهل دفعوا في انفجار الأمس دفعة أولى – ستتبعها حتماً دفعات أخرى – من ثمن تواطؤهم مع «طالبان»، بعد أن مكَّنوها من السيطرة على أفغانستان، متجاهلين كوكبة واسعة من الشعب الأفغاني ومن المسؤولين الذين ارتهنوا لهم طيلة 20 عاماً من الاحتلال؟
* عميد لبناني متقاعد