كثير ممن قرأ اليوميات السابقة (الحلقة الأولى) في ذات الموضوع عبّروا عن ارتياحهم لما جاء فيها وتفاعلوا معها وأبدى البعض اهتمامه بأهمية البحث عن السمات الأساسية للإعلام القضائي لما تُحدثه دائماً الكتابة عن القضاء من ردود أفعال مختلفة في صفوف القضاة وفي أوساط الرأي العام، ومنهم من عانى ويعاني من تدني مستوى أداء الأجهزة القضائية وبعض مظاهر الفساد في القضاء ، ومعلوم أن عدداً من القضاة يخلط بين الصالح والطالح المصلح والمفسد فيرى أن القضاء مقدس بالمطلق لا يجوز تناوله بأي مستوى من النقد وهذا بالتأكيد موقف خاطئ وغير ذكي إذا أُخذ على علاته ، أما فريق منهم فإنه على العكس من ذلك لا يجيز فقط نقد حالات الفساد في مؤسسة القضاء بل ويعتبر ذلك شكلاً من أشكال الجهاد بالكلمة الصادقة كونها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والسكوت عليها خيانة للمجتمع ولكل قاض شريف حريص على تنقية المؤسسة القضائية من الفاسدين ، وقد سمعتُ من هذا الفريق – وبالذات القضاة الشرفاء – إشادات بما قرأوه وإطراء ، وأرى أن ما كتبته ليس سوى جهد المُقل ، وما أبدوه إنما يُعبر عن كرم أخلاقهم ، وقد طلبوا الاستمرار لإشباع الموضوع لأهميته – حسب قولهم – ولتوضيح ملامح العلاقة المفترضة بين القضاء كمؤسسة لها مكانة أساسية في حياة الناس وقضاة هم موضع التبجيل والاحترام وأقصد منهم من يقدرون قيمة العدالة ويحترمونها ويسعون بكل طاقتهم لتحقيقها يدفعهم الإحساس بالمسؤولية والحرص المستمر على أن تبقى صلتهم بالعلم والعمل في المرتبة الأولى بين تفاصيل حياتهم، وهذا شأن كل إنسان حي ومسؤول في مختلف مجالات الحياة ، أما من تسببوا في كل هذا السخط والأنين والغضب الذي تقتض به صدور من عانى من أحكامهم وإجراءاتهم الظالمة فوضعهم مختلف !؛
واستجابة لهذا الطلب، أو الدعوة الكريمة المُقدرة لقيمة العلم رأيتُ أنه من الواجب والمهم أن يكون من بين الإشارات والأسس الأولية التي قد تبدو من البديهيات في الدول التي تضع للقانون مكانه الطبيعي من الاحترام يفتقدها في بلادنا ، إنها إشارة يتأسس عليها عمل الإعلام القضائي وتقع في مقدمة ما يُبنى عليه هذا العمل وكل عمل يتعلق بالشأن العام في إطار ما يُعرف بـ (مبدأ سيادة القانون) باعتبار أن كل المؤسسات العامة بل والخاصة يجب أن تعمل وفق قواعد وأحكام يصدر بها قانون، وأي قانون يخص أي مؤسسة أو فئة مهنية ينظم العلاقات المباشرة وغير المباشرة بين الجهات أو الأشخاص أو الفئات وبين الجهات والفئات الأخرى ، والسلطة القضائية بالذات مؤسسة ذات طبيعة خاصة بما تتحمله من واجب حراسة مبدأ سيادة القانون ، لذا كانت الأكثر صلة بكل المؤسسات والقوانين التي تنظمها ، وموضوع الإعلام القضائي ينظمه بصورة أساسية قانونان هما: قانون السلطة القضائية، وقانون الصحافة والمطبوعات، وبصورة غير مباشرة قانون الإجراءات الجنائية وقانون العقوبات والقانون المدني وأي قانون آخر ينظم جرائم النشر أو قضايا التعويضات المترتبة عليها ، هذه المحورية للاهتمام بالقانون مبعثه أن القانون مجموعة من الأحكام والقواعد والالتزامات، فمثلاً يلخص قانون السلطة القضائية حقوق وواجبات كل من القاضي والقضاء عموماً ومن له صلة بهما من إداريين وفنيين وكذا آداب التقاضي إضافة إلى مواضيعه الأخرى ، وفي المقابل يحدد قانون الصحافة والمطبوعات حقوق الصحفي ومن يعمل في المجال الإعلامي عموماً وواجباته وممنوعات النشر ونطاق حرية التعبير والمبادئ التي يجب الالتزام بها، ومعلوم أن مبدأ (كل حق يقابله واجب) يشمل كل عمل وكل نشاط، وخلاصته يحث على ضرورة إدراك أن من يمارس حرية الفكر والتعبير يجب عليه التفريق بين الحرية المسؤولة والحرية المنفلتة ، وأن الحرية المسؤولة هي الحرية المشمولة بالحماية وأن للانفلات عن ضوابط النشر تبعات ونتائج نظمها القانون أيضاً، وحين نقول نظمها القانون فهذا معناه أن ممنوعات النشر لا ينبغي أن تخضع لمزاج المسؤول التنفيذي أو القاضي لأن الدستور حينما نص على أن القضاء مستقل وأنه لا سلطان عليه قد قيد هذا الحكم بما بعد كلمة (إلا) فقال (لا سلطان عليه إلا سلطان القانون) ، فلكل قاعدة استثناء أو نطاق أوحد تقف عنده، وإلا كان ذلك مدخلاً لتمادي وطغيان صاحب السلطة وسوء استغلالها أو التجاوز في استعمال الحق ، ومعلوم أن سوء استغلال السلطة من القاضي جريمة وسوء استخدام الحق أو حرية التعبير قد تصبح جريمة نشر وقد ينتج في الحالتين ضرر يترتب عليه مسؤولية مدنية بالتعويض ، لهذا فإن هناك قاعدة يمكن أن يطلق عليها بالقاعدة الذهبية في قضايا الإعلام والنشر كما في كل القضايا هي الموازنة بين الحقوق والواجبات وهي في موضوعنا هذا متعلقة بحقوق وواجبات كل من القاضي وهو يمارس الحكم ومن يمارس حرية الفكر والتعبير عنه، إذ لا يعاقب على التفكير والنوايا وإنما على الأفعال والفكر لا يكون فعلاً مجسداً إلا بالنشر أو التعبير عنه بأي وسيلة من وسائل التعبير والحرية هي الأصل في هذه القضايا والاستثناء هو تقييد حرية الإنسان بما يجاوزها إلى المساس بحرية غيره وبالطبع الواقع الذي فرضه التطور التكنولوجي يفرض التفكير في معالجة حرية الفكر والتعبير بشكل أكثر ذكاءً ومواكبة لهذا التطور المذهل !.
خاطرة:
كلما أيقظ الناس أحلامَهمْ
حلماً. حلماً.. أجهشت بالبكاء
وعادت إلى البحر أصدافها
لتحط أناملها في فم المستحيل!.