كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم – إذا شرع في قراءة القرآن شأنه التدبر والخشوع والتفكر، والدلائل على فعله ذلك وصحابته وسلف هذه الأمة أكثر من أن تحصر، والحث على ذلك من الله -سبحانه وتعالى- أجلى وأظهر، فبه تنفتح القلوب، فتدرك المقاصد الصحيحة، والآيات العقلية الصريحة، قال تعالى” كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ” [ص:29].
وصفة ذلك أن يشغل القارئ قلبه بالتفكر في معنى ما يقرأ، ويتجاوب مع كل آية بمشاعره وعواطفه، ويتأمل الأوامر والنواهي، ويعتقد قبول ذلك.
فإن كان ممن قصّر فيه فيما مضى اعتذر واستغفر، وإن كان ممن وُفق للعمل به شكر وكبر، وإذا مر بآية رحمة استبشر وسأل، وإذا مر بآية عذاب أشفق وتعوذ، إلى غير ذلك من معاني الآيات.
ويُستعان على كشف هذه المعاني وإبانتها بأحد كتب التفسير، فإنّ تفاوت الإدراك بين الناس أمر لا مراء فيه.
فعن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- قال:”صليتُ مع النبي ﷺصلى الله عليه وآله وسلم- ذات ليلة، فافتتح البقرة، فقلتُ: يركع عند المائة، ثم مضى، فقلتُ: يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلتُ: يركع بها، ثم افتتح النساء، فقرأها، ثم افتتح آل عمران، فقرأها، يقرأ مترسلاً، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ…” [مسلم (772)].
وهكذا ينبغي لتالي القرآن أن ينظر كيف لطف الله بخلقه في إيصال معاني كلامه إلى أفهامهم، وأن يستحضر عظمة المتكلم سبحانه، ويتدبر كلامه، ويتفهم معانيه، وما أراد الله منا بهذا القرآن، ويطبع نفسه على قبول ما جاء به قبولاً ينعكس أثره، ويظهر في العمل والتنفيذ، وأن يستوضح من كل آية ما يليق بها، ويتفهم ذلك.
فإذا تلا قوله تعالى: “خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ” [البقرة:164] فليعلم عظمته -سبحانه وتعالى-،يتلمّح قدرته في كل ما يراه، فهذه السماء من ذا الذي رفعها بلا عمد؟! ونثر فيها النجوم بلا عدد؟! وهذه الأرض من ذا الذي سطحها ومهدها، وشق فيها البحار والأنهار، وأخرج من بطنها الثمار والأزهار؟ فأيّاً كان حظ الإنسان من العلم، فهذه المشاهد يمكن أن يدركها، فتحرك قلبه ووجدانه وجوارحه نحو الخالق المبدع -سبحانه وتعالى-.
وهذا منطق واضح بسيط يدركه كل إنسان أياً كان حظه من العلم، فالنظرة الواعية، وتدبر الآية وحدها تكفي، وليتخل التالي لكتاب الله تعالى عن موانع الفهم، والتي من أعظمها الذنوب والهوى، فالعلم نور في القلب ونور الله لا يهدى لعاصٍ، ومن موانع الفهم كذلك ما سبق وأن أشرتُ إليه حين حذرتُ من المبالغة في النطق بالحروف، مثل أن يخيل الشيطان للقارئ أنه ما حقق تلاوة الحرف ولا أخرجه من مخرجه، فيكرره التالي، فيصرف همته عن فهم المعنى.