البيئة التنافسية للقطاع العام عنوان المرحلة

أحمد ماجد الجمال

 

 

يعرَّف النشاط الاقتصادي والإنتاجي بأنه النشاط الذي تتولد عنه بضائع مادية وقيم جديدة تزداد بها ثروة البلاد وتتسع بها قاعدتها الاقتصادية، وينطبق الأمر على القطاعات الصناعية والزراعية والخدمات والأعمال التجارية المصنفة عملياً في قطاع الخدمات التي لا تحظى بالصفة الإنتاجية ولا ينتج عنها سلع جديدة، وهذا لا يقلل من مكانة التجارة وأهميتها في الاقتصاد بتوفير مختلف السلع الاستهلاكية التي تأتي بطبيعة الأحوال من مصدرين مهمين هما الزراعة والصناعة، ويأتي ثانياً تجارة الاستيراد عند عدم قابلية الإنتاج المحلي توفير المواد الاستهلاكية والإنتاجية بالكميات الكافية والوافرة لأفراد المجتمع.
في زمن التحرير الاقتصادي يتكرر النقاش من وقت إلى آخر عن دور الدولة هل هو قائم أم تراجع في الأنشطة الاقتصادية ، أم أخذ هذا الدور أشكالاً غير تقليدية ، فبدلا من التدخل المباشر المتمثل في إجراءات الحماية والدعم للأنشطة الإنتاجية والخدمية، تحول هذا الدور إلى مساند غير مباشر متمثل في تهيئة وإقامة بيئة الأعمال التي تحفز الأسواق المحلية، وتبني الدولة أفضل الممارسات الاقتصادية بأدواتها المختلفة والداعم من خلال السياسات التي تساند تنافسية الأنشطة الاقتصادية كالسياسات المالية والنقدية ، وسياسات الاستثمار وتهيئة المناخ الاستثماري، وسياسات تعزيز القدرات التكنولوجية والسياسات التصديرية، وسياسات تنمية المهارات البشرية، والسياسات الإصلاحية للأطر التشريعية والمؤسسية ، وسياسات تحديث البنية الأساسية المادية، وسياسات نشر وتداول المعلومات المختلفة, وأساليب ممارسة سلطات الإدارة الرشيدة, تحديث الجهاز الإداري الحكومي، والسعي إلى الوصول لحد أعلى من خدمات البنية التحتية الأساسية وتطوير فعال لنظام التعليم والتدريب, وهذا الدور يتغير طبقا للمراحل العديدة التي تمر بها الأنشطة الاقتصادية للدول، ففي كل مرحلة تظهر تحديات تتطلب جدية وأدوات في مواجهتها بجملة من الإجراءات منها إيجاد بيئة تنافسية تتمتع بمزايا الشفافية والنزاهة والوضوح والمسألة عبر خطط معلنة تعمل على خلق بيئة مثالية للاستثمار.
مع أننا نجد أن التنافسية مفهوم معقد ومتعدد، وذلك لتعدد أوجه هذه الظاهرة، لذا فإنه من الضروري ضبط تعريفه ، فمع تعدد التعريف هناك سياسات معينة تدعمه وتسانده والسؤال الذى يجيب على نفسه، أي السياسات التنافسية التي تتلاءم وتتوافق وظروف الاقتصاد ستكون هي الهدف.
وبالتالي لا مناص من تدخل الدولة في تنظيم السوق بغرض تعزيز نتائجه الإيجابية وضمان تحقيق عدالة أكبر في توزيع الدخل، ولا يعني ذلك على الإطلاق قيامها بنشاطات الإنتاج والاستيراد والتوزيع، فدورها أكبر من ذلك بكثير ويتمركز حول ضمان جودة بيئة التنافسية وتحقيق معدلات نمو اقتصادي عالٍ, فواقع الحال يتطلب الابتعاد عن جميع الممارسات الاقتصادية التي تخلق آثاراً سلبية على مجمل القطاعات الإنتاجية والخدمية لتكون مناسبة وتنهض بالإنتاج حتى وإن كان بشكل نسبي وتدريجي وصولاً إلى نسب تتناغم والطموح.
وكون بناء بيئة تنافسية له شروط يأتي في مقدمتها قيام اقتصاد السوق في كل الأنشطة الاقتصادية وبحضور فعال للقطاع العام, والتجربة العملية في كثير من دول العالم تشير إلى أن الدافع يعود لثلاث حالات تحتاج إلى مراجعات بعضها ساير التحولات وأصبح من الممكن الولوج لسوق تنافسية :-
• الاحتكار الطبيعي اذا كان متوسط التكاليف ينخفض باستمرار بتزايد حجم الإنتاج فإن التعامل مع هذه الجزئية كان إما بالسماح لشركة واحدة مملوكة للقطاع الخاص باحتكار السوق وقيام الدولة بوضع تسعيرة لمنتجاتها أو بملكية وإدارة الشركة من قبل القطاع العام وبظهور حالات جديدة وتحولات اقتصادية كبيرة غيرت كثيراً من مثل هذه الأدوات والمعادلات وأوجدت بيئة تنافسية بحيث أصبح من الممكن دخول القطاع العام والخاص للمنافسة أو الشراكة، ومثال ذلك خدمات الهاتف النقال والأنترنت والأعمال المصرفية والبنوك والتحويلات المالية والكهرباء وصناعة الإسمنت….الخ, ومن المفترض أن تنعكس المنافسة بينهما بتوفير وتقديم سلع وخدمات بجودة أعلى وتكلفة أقل إما خدمات الصحة والتعليم فلها وضع آخر لتكون متاحه على أوسع نطاق وباقل التكاليف الممكنة.
• في حين أن الإخفاق لا زال قائماً لقيام سوق تنافسية في بعض الأنشطة الاقتصادية من الأساس كالمطارات والموانئ.
• أما الخدمات العامة من المهم أن تأتي بعضها والتي لا يمكن حرمان أي شخص منها وبذلك فإن قيام سوق تنافسية فيها غير متاح مثل القضاء والدفاع والأمن.
بقاء القطاع العام النشط والفعال إلى جانب القطاع الخاص مطلباً ملحاً وخصوصا في المشاريع الاستراتيجية الكبرى والمتوسطة التي تقود النمو الاقتصادي ويعجز القطاع الخاص بمفرده الخوض فيها لضخامة راس المال المطلوب وربما العائد الاقتصادي قد لا يكون بالسرعة وبالحجم الذي يتوخاه, ولا تقوم لولا دور الدولة الأساسي في إقامتها وإيلائها الدعم التي حققت وتحقق بها الريادة .
ليظل السؤال عن استمرارية وجود القطاع العام من عدمه، فلا بد من تحديد معنى القطاع العام الذي يشمل كافة المؤسسات المالية وغير المالية والشركات والهيئات ذات النشاط التجاري التي تعود ملكيتها بالكامل أو ما يبلغ أكثر من النصف، أي حوالي (51%) أو اكثر من رأس مالها إلى الدولة, وهيكله التنظيمي غالباً ما يكون مركزي وإجراءات العمل بيروقراطية, في الماضي كان مرادفاً لمصطلح احتكاراً النشاط الاقتصادي وكان يحقق أرباحاً ويسدد ضربية تورد وتدعم الخزينة العامة, ونتيجة تراجع قدراته وظهور عيوبه على السطح ونتائجه السلبية الناتجة عن كونه احتكار وسلبيات الاحتكار كثيرة منها زيادة الإسراف في الإنفاق وتدني العوائد, وعدم الاستغلال الأمثل للموارد المتاحة في الأغراض المخصصة لها والاختلاف والانحراف المالي بين المخطط مقدماً والمنفذ فعلا سلبياً وعدم ملاءمة العائد لاستثمار الأموال وتكدس العمالة الأمر الذي يؤدي إلى انخفاض الجودة وارتفاع تكاليف الإنتاج والخدمات, وهذا أدى إلى تحمل الخزينة العامة أعباء دعم مؤسسات القطاع العام بمعدلات متزايدة بمرور الزمن مما شكل عامل استنزاف للموارد المالية ومن البديهي أن مبالغ ذلك الدعم كان من الممكن استخدامه في نشاطات اقتصادية وتنموية أخرى تعود بالفائدة على المجتمع, كما رافق إدارة القطاع العام الفساد الإداري والمالي, فصار من الضروري إعادة بنائه وصياغته وحوكمته كتحديد الأخطاء ومحاولة معالجتها لتعود لمسارها الصحيح رافداً للخزينة العامة وداعماً للتنمية والنمو الاقتصادي, وتبعا لذلك فالقطاع العام ليس استثناء وهو قادر على التعامل والاستمرار في بيئة تنافسية وبدون احتكار أي نشاط اقتصادي, وفي نفس الوقت التحولات الاقتصادية جعلته لا يعني ملكية الدولة للنشاطات الاقتصادية أو سيطرتها عليه بل يتجاوز هذا المفهوم التقليدي, وأصبح كمكمل ومتكامل مع القطاع الخاص الذي فتح له المجال واسعاً وتزايد دوره نتيجة زيادة قدراته المادية والإدارية والتقنية وتوسعت وكبرت في العقود الأخيرة ويتوقع ارتفاع مساهماته بشكل أكبر في العقود القادمة.
القطاع العام جاء بناؤه على أسس وعوامل اقتصادية وليست محاسبية فقط والغرض في الأساس تحقيق عدة أهداف للمجتمع كونه محوراً تنموياً رئيسياً لعملية التنمية الاقتصادية وتنويع مصادر الدخل وإنشاء المشروعات الاقتصادية الكبيرة الحجم والمتقدمة تقنياً وإدارياً وتوطينها والبنية التشريعية الملائمة واستغلال الثروات الطبيعية والمادية المملوكة للدولة كقطاع الطاقة والثروات النفطية والغازية والمعدنية والغابات والمياه والسواحل البحرية والجزر والمرافق العامة سواء في مجال البنية الأساسية من طرق وموانئ ومواصلات والبنية الأساسية الاجتماعية مثل المدارس والمستشفيات, إلا أنه في العقود الأخيرة وعلى مستوى العالم تحولت أقسام كثيرة من تلك الأنشطة هادفة للربح وكجزء من قطاع الأعمال، بمعنى أن الإشكالية ليست بمفهوم الملكية بقدر ماهي قضية وجود بيئة تنافسية من عدمه كالمرحلة الماضية التي كانت مرتبطة بالاحتكار وليس بحق الملكية, لأن التغيرات الاقتصادية المشهودة أكدت أن للدولة دوراً كبيراً هو وضع آليات لبيئة تنافسية كضرورة لاستمرارية القطاع العام والخاص, بممارسة الأنشطة المتاحة لهما وضمان نجاحها والاستمرار بالمتابعة وتحديث آلياته وخلق محفزات فرص الشراكة بينهما للتوازن والتكامل, لأننا في عصر السرعة الذي يحتاج إلى ضوابط لآلية السوق بصفة مستمرة بأحدث المعايير الدقيقة ذات الأثر الفاعل لكشف جوانب القوة وتعزيزها والاستفادة منها في عملية التطوير والتحديث والمزيد من العمل وفقاً للمحطات الاستراتيجية التي يمر بها النشاط منذ إنشائه وصولا للغاية المنشود كوفرة الإنتاج وتعزيز جودته والسيطرة على التكلفة وتحقيق أسعار متوازنة ومنافسة وعادلة تلامس مستويات دخول ومعيشة أفراد المجتمع كهدف التكامل المرسوم لرفع مستويات الإنتاجية واستيعاب قوى العمل, ليتمكن كل قطاع من التحرك على حسب درجة حيويته وأهميته النسبية, وتنعكس نتائجه بنتائج إجمالي الناتج المحلي.
إن وجود القطاع العام محوري كأساس ويُعد إضافة نوعية وعنوان المرحلة لاعتبارات تتعلق بعدم إمكانية قيام بيئة تنافسية عادلة إلا بوجودهما معاً (العام ,الخاص),والسوق الذي سيضمن بقاء الأصلح للمنفعة التبادلية بينهما وانعكاس آثاره على التشغيل الشامل للموارد المتاحة والاتجاه الذي يعظم العائد الاقتصادي والاجتماعي لمواكبة التحولات الاقتصادية التي تحتاج إلى أدوات تحليل وتقييم وتخطيط متجدد لدور الدولة في النشاط الاقتصادي في عملية التنمية الاقتصادية.
وفي زمننا المتسارع بكل اتجاهاته ومستقبلياته وثوراته التكنولوجية يجب الاستفادة من البيئة التنافسية القائمة على الإيجابية للقوى المحفزة بمنح فرص لكل الأنشطة للازدهار والتعايش مع كل المتغيرات, وهذا يتطلب المراجعة الدائمة للبيئة التنافسية بما يضمن مواكبتها متطلبات كل مرحلة والتغيرات والتطورات المعاصرة لها وتأخذ في الحسبان ظروف كل فئات المجتمع المادية وإزالة العراقيل التي يمكن أن تحدد لمؤشراتها تحسين مستوى معيشة أفراد المجتمع كتخفيف معدلات البطالة خصوصاً بين صفوف الفئات الهشة والأكثر فقراً التي تعتمد على عملها اليومي في أعمال بسيطة لكسب قوتها .
باحث في وزارة المالية

قد يعجبك ايضا