الانتصار لقيم الخير في البناء
عبدالرحمن مراد
لا أجد مبرراً منطقياً واحداً لذلك المزج بين الفعل الدنيوي والفعل الديني الذي بدأ يمتد إلى الأصول العقائدية دون وعي بما سوف ينتج عنه في قابل الأيام من إخلال بالنظام العام والطبيعي وبالمنظومة العقائدية السليمة والصافية التي انبثقت من مشكاتها الأولى وهو الرسول الأعظم – عليه الصلاة والسلام – المبلّغ عن ربه.
في سياقات التاريخ المختلفة ظهرت جماعات وطوائف عدة أفرزتها عوامل الصراع، انحرفت بها معتقداتها إلى مزالق خطيرة وخدشت وجه الدين وأصوله وعقائده الثابتة، ذلك لكون «الأنا»- كما يقول علم النفس- تقوم بسلطة الإشراف على الحركة الإرادية نتيجة للعلاقة التي تتكون من قبل بين الإدراك الحسي وحركة الواقع ،وينصب دور «الأنا» في حفظ الذات عن طريق تخزين الخبرات المتعلقة بها «في الذاكرة» وبتجنب المنبهات المفرطة «عن طريق الهرب» وبالتصرف في المنبهات المعتدلة عن طريق «التكيف» وأخيراً بتعلم عمل التعديلات المناسبة في العالم الخارجي وفقاً لمصلحة «الأنا» الخاصة عن طريق «النشاط» وهو الأمر الذي حدث في سياقات التاريخ المختلفة ونتج عنه نشوء جماعات وطوائف أحدثت تعديلاً في عالمها الخارجي يتوافق ورؤية «الأنا» ومصالحها وما يزال يحدث وسيظل يحدث طالما وكوننا النفسي تتجاذبه القوى الثلاث المتضادة «الهو» «سلطة الماضي» و«الانا» «سلطة الواقع» و«الأنا العليا» “سلطة المثل والايديولوجيا” .
وقد تكرر معنا القول كثيراً إن إسقاط المتعالي «الدين» في وحل المدنس «السياسة» قد يفسد قيمته في الوجدان الجمعي العام وهذا واقع لا محالة إذْ أنّ الأزمة بملامحها الدموية المتشاكلة مع غيرها في السياق التاريخي قد تشعبت وتشظت، فالسلفية التي كانت تعزف عن السلطة والتمكين أصبحت تشرعن ذلك بالقول بامتلاك الأرض لتحقيق حاكمية الله فيها وهناك من يرى أن التمكين شرط لإقامة أركان الدين مستنداً إلى الدلالة القطعية لنص الآية «41» من سورة الحج التي تشترط التمكين لإقامة الأركان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وثمة تخريج ظهر إبان الأزمة يبتعد عن التأصيل الفقهي وفق قواعده واشتراطاته المتعارف عليها عند الفقهاء المسلمين ليقترب من تبرير الفعل السياسي وربما كانت حاجتنا إلى العقل في هذا الظرف التاريخي أكثر من أي وقت مضى لالتباس المفاهيم في الأذهان وشيوع الفوضى المعرفية وغلبة الظني على القطعي والنقلي على العقلي في الخطاب الديني والميل إلى نسج الخرافات والقول بالأساطير في الترغيب والترهيب وشيوع ذلك في الخطاب قاد الأمة إلى دوائر التيه , وهذا الأمر يتطلب بعثاً حقيقياً وقداسة غير مبالغ فيها للعقل قبل أن يطغى أولئك الواقفون على أبواب النار والداعون إلى جهنم، إما جهلاً أو سوء تقدير من حيث مقصدية الإصلاح والوقوع في ما يناقضه، وقد أوضحت ذلك الآيتان «11 ، 12» من سورة البقرة بما يغني عن التكرار هنا.
بيد أن ما يُستغرب له فعلاً أن الأزمة السياسية رغم قدرتها على إثارة المنبهات وقدرتها على التفجير والتوظيف للحدث إلا أنها لم تنتج الا تفاعلاً أصولياً وقد ظل العقل اليساري والليبرالي والحداثي وما بعد الحداثي غائباً في مظاهر الحدث وإفرازاته وفي تفاعلاته وذلك دال على الغبن الذي مورس على العقول وعلى هيمنة الاصولي والبراغماتي وتلك الهيمنة نتيجة منطقية لسياسة التوازنات التي انتهجها المؤتمر ابان فترة حكمه , وتركيزه على سياسة إضعاف القوى الأكثر ميلاً إلى العقل واشتغاله المتعمد على إقصاء المثقف والنوعي من قائمة اهتماماته والاكتفاء بفئة اجتماعية بعينها وهي فئة نفعية لم تفده بشيء في إدارة الأزمات التي واجهته بل قد أدارت ظهرها له بحثاً عن القوة التي تبحث عنها وهي تبدو جليا في ظاهرة الانقسامات التي هي عليها اليوم اقصد ثنائية الوطنية والعمالة لتلك القوى .
وقد يجد القارئ الحصيف لتموجات اللحظة التاريخية الفارقة التي تمر بها اليمن الآن، أن هناك تمدداً رأسياً وأفقياً للأصوليات والقوى التقليدية وانحساراً للقوى العقلانية وهو الأمر الذي يجعلنا في مواجهة جدلية مادية قادمة، لها امتدادها وعداؤها التاريخي، ودلت السياقات العامة للتاريخ أن لغتها لا تتجاوز السيف وأسنة الرماح ولن تتجاوز في الحاضر المعيش أفواه البنادق وأزيز المجنزرات، ذلك أنها قوى لا تعشق السلام ولكنها تتسربل بالنار وتدعو إلى جهنم «بصفتها احتراقاً ودماراً بعيداً عن دلالتها الدينية» ولا مناص لنا الا بالاشتغال على دعوة الله للناس كافة بالدخول في السلم وإشاعة روحه وقيمه حتى نتمكن من الخروج من تحت غيوم الأزمة بدولة مدنية حديثة وقوية تحدث التوازن المفترض بتوزيع السلطة وتشيع العدل وقيم التسامح والتعايش والسلام.
ولعلنا ندرك الآن تمام الإدراك حاجتنا الشديدة إلى أن نلمّ شعثنا المتناثر ونعيد ترتيب أوراقنا وتجديد آلياتنا وأدواتنا حتى نتمكن من البقاء في وجه عواصف الزمن كون ذلك تمليه الضرورة الوطنية لما يمثله من قوة توازن واتزان في الحاضر والمستقبل.
أقول ذلك إدراكاً أن دعاة الشر واقفون الآن على أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها، وبحثاً عن أمن واستقرار هذا الوطن ودرءاً لمشاريع التدمير ورغبةً في الانتقال إلى الدولة المدنية الحديثة.
إننا الآن أمام لحظة تاريخية فارقة لا تقل أهمية عن تلك اللحظة التي تهيأت في 22مايو 1990م .. فهل نطمع أن يبادر الكل إلى صناعة الدولة المدنية الحديثة ويعملون على إرساء دعائمها ليكون لهم فضل السبق والمبادرة، ويكفِّرون بها أخطاء المرحلة الزمنية التي حكموا فيها وأداروا صراعها بكل ذلك الانبطاح والخضوع والهوان .
إن مفهوم بناء السلام هو تحديد البني ودعمها , في حين أن هذه البني مهمتها ترسيخ وتفعيل السلام وتمكينه حتى نكفل عدم الانجرار إلى صراعات جديدة , ومثل ذلك يتطلب نشوء ما يعرف بالدبلوماسية الوقائية , وأساس هذا المطلب تعاون عدة جهات للعمل كفريق وطني واحد بشكل دائم وواضح المعالم لحل الصعوبات والمعضلات التي تواجه الفرد او الجماعة سواء كانت تلك الصعوبات إنسانية أم ثقافية أم اجتماعية او اقتصادية كون هذه المشكلات مجتمعة أو منفصلة هي السبب المباشر في الصراع والحروب .
والدولة المدنية هي تلك التي تنحصر مهامها في إتاحة امكانية الحصول على الحقوق والحريات العامة والخاصة لجميع المواطنين مقابل إنجاز وظائفهم المكلفين بها اتجاه بعضهم البعض واتجاه نظام الدولة العام .
ولتجنب نشوء الصراعات الطائفية والعرقية والقبلية ، تقتضي الضرورة القانونية والثقافية والسياسية إقامة دولة مدنية الاتجاه تتجاوز التعصب بكافة أنواعه ؛ مرتكزة على دستور مدني يستوعب ثقافات الأطياف الاجتماعية كافة ؛ ويوحدها تحت ظل مفهوم المواطنة وسلوكياتها النبيلة ولكون ذلك يمنع الثارات ويحد من قيم الصراع وبواعثه .