كتابة التاريخ.. بين التسلط والأمانة!

عبد العزيز البغدادي

 

من المعروف أن المنتصر هو من يكتب التأريخ, وهذه الجملة الاصطلاحية ترتبط بقوة السلطة التي يمتلكها المنتصر وتعكس حالة الصراع التي تهيمن على الواقع بكل تفاصيله بل وعلى مستوى التفكير في إحكام قبضة المنتصر عسكرياً على التأريخ وسعيه بجهالة إلى جانب السيطرة على الحاضر إلى إيقاف عجلة التأريخ عند قدمه ، ورغم أن هذا ضرب من المستحيل إلا أن نشوة النصر عادة تعمي المنتصر عن الرؤية الواعية المحكومة بالورع والتقوى والصلاح إلا من رحم ربي .
هذه الحقيقة تحتاج من كل منتصر إلى وقفة جادة مع النفس كي يضع نفسه في الموضع التاريخي السليم الذي ربما شكل بداية جادة لإعادة النظر في قاعدة أن المنتصر هو من يكتب التأريخ وفق ما يهوى لا وفق ما توجبه الأمانة وذلك من خلال إعادة الاعتبار للشعب الذي يدير مصالحه ولا يتحكم بمصيره وللتأريخ الذي لا يرحم كما يقال وإفساح المجال لتصبح الأمانة التاريخية كقاعدة مفترضة حق للشعوب وواجب على كل سلطة احترامها ، بحيث لا يحق السعي لطمس وقائع تاريخية أو تغيير الحقائق وفق ما تراه بإعلاء شأن مرحلة تاريخية وتمجيدها بما لا تستحق والحط من أخرى ومحاولة حرمانها مما تستحق ، جوهر الأمر هو احترام المعلومة والحقيقة والتجربة واستخلاص العبر المستفادة من قراءة التأريخ ، أين أصاب الأولون وأين أخطأوا وكيف ولماذا ؟؟.
الحقيقة إذاً هي مرتكز البناء المتين للمستقبل أما التضليل وإخضاع كل شيء لمشيئة الحاكم المنتصر فلا يُبنى عليه سوى الفراغ ويتضرر منه الجميع وفي المقدمة الحاكم نفسه الذي ستكون كل إنجازاته عرضة للتشويه والطمس حينما تحين ساعة رحيله لأي سبب وهي آتية لا محالة وفق القاعدة الذهبية : (لو دامت لغيرك ما وصلت إليك) ، والشعوب الحرة اليوم على اختلاف ثقافاتها تناضل لتصل إلى مرحلة التداول السلمي للسلطة بنزاهة وشفافية وبُعد عن العنف والتزوير بكل صوره وأشكاله ، التي أصبحت درجات التفنن فيها على درجة عالية من التعقيد وخاصة مع استخدام التضليل الإعلامي ومن الأمثلة التي لا تزال حية محاولات الرئيس الأمريكي ترامب المستميتة في هذه اللعبة الانتخابية التاريخية التلاعب بعقول الناس داخل أمريكا وخارجها وذلك بالإيحاء قبل فرز الأصوات بل وقبل البدء في العملية بأن الأصوات التي ستؤدي لفوز بايدن مزورة !، وبعد أن أدرك أن النتيجة تسير في غير صالحه أطلق العديد من التصريحات بأن هناك محاولة لتزوير وسرقة الانتخابات وبعد ظهور النتيجة لصالح منافسه أطلقت حملته الانتخابية دعوة لجمع تبرعات لمواجهة دعاوى قضائية رفضت جميعها لعدم استنادها لأي أساس قانوني في محاولة لسرقة الانتخابات التي يتهم بها بايدن !!؛
الحديث عن التجربة الأمريكية ليس بهدف التعويل على النتيجة في ما يتعلق بموقف الإدارة الأمريكية من قضايانا لأن مفتاح حل مشاكلنا يكمن في مستوى مقاومتنا للهيمنة الأمريكية وكل التدخلات الخارجية في شؤون حياتنا ، إنما الهدف تسليط الضوء على أن الدول التي تطلق على نفسها بالعظمى وتحظى ديمقراطيتها المعلنة بإعجابنا تمارس التضليل أيضاً ولكن النتيجة لا تخدم الحاكم الفرد مهما حاول ، وإنما تخدم مؤسسة الاستبداد العميق التي تسمى الديمقراطية الأمريكية ويتبادل السلطة فيها كبار اللصوص ومافيا السلاح والمخدرات والنفط ومغاسل الأموال .
كل محاولات ترامب مسجلة ضمن السياق التاريخي وربما يواجه دعاوى عديدة بعد تسليمه للسلطة وكما أكدت في مقالات سابقة فإن من يعلق آمال على بايدن يجب ألا يذهب بعيدا في أحلامه ؛
أعود إلى جوهر الموضوع وهو أهمية الأمانة في كتابة التأريخ مؤكداً أن مستوى الأمانة مرتبط بمستوى التطور الحضاري للمجتمعات ومدى قدرتها على إلزام الحكام بصلاحيات لا تسمح لهم بالتغول في استخدام السلطة ؛
احترام الحقائق التاريخية يجب التأكيد عليها في الدستور بما يعزز مبدأ كون السلطة ملك الشعب ، بهذا الاحترام للتأريخ وقراءته بكل تفاصيله الإيجابية والسلبية يستفيد قارئ التأريخ معرفة واقعية تجعله يميز بين مواضع الخطأ والصواب فيبني شخصيته على التمسك بروح الإنصاف والتفريق بين الحق والباطل ، وتستفيد الدول من هذا المنهج بإلزام منظومة سلطاتها باحترام إيجابيات من سبق باعتبارها ضمن ملكية عامة ولا مبالغة في القول بأن قيمة التراكم المعرفي للإيجابيات والالتزام بالأمانة التاريخية له قيمة مادية قد تفوق قيمته المعنوية لما فيها من استخلاص للتجارب والعبر إلى جانب الاستثمار المادي وهي عملية تعتبرها دراسات الجدوى من المشاريع مركبة الفائدة ؛
والبحوث التجريبية تضعها ضمن النسيج المعرفي المهيئ للخطط والبرامج لإنجاز أي مشروع ، فلكل عمل تأريخ وفي ثنايا كل تأريخ تكمن النجاحات والإخفاقات ومنها تستقى العبر وتستخلص التجارب لبناء الأوطان.
النهاية بنت البداية
ركنها والضياء
وطني يا فمٌ للمنى والأماني
لك المجدُ منتصباً والدعاء
لك الله في كل حين .

قد يعجبك ايضا