ثورة 14 أكتوبر كانت الشرارة الأولى للانتفاضة في وجه المستعمر وتنامي الفكر التحرري
الـ30 من نوفمبر.. من تشكّل حركات التحرّر واختلاف الأيديولوجيات حتى الاستقلال
إعلان المحتل الانسحاب من الجنوب فجَّر المعارك بين الجبهتين لاحتكار حق تقرير المصير بعد خروج البريطانيين
تفرّد الجبهة القومية بالحكم بعد تحقيق الاستقلال تسبَّب في نشوب أحداث دموية بين رفقاء السلاح
جبهة التحرير والجبهة القومية أبرز جبهات الكفاح المسلَّح ضد المحتل واختلاف أيديولوجي بين القيادات في إدارة الكفاح والدور المصري في ذلك
خلال الأعوام من الخمسينيات والستينيات شهدت المنطقة العربية تنامياً للفكر القومي العربي التحرري والذي كان أبرز عناوينه حركة القوميين العرب في لبنان وبعض البلدان العربية ، والدور الذي لعبه الرئيس المصري الراحل/ جمال عبدالناصر في دعم حركات التحرر العربية ضد الاستعمار، وفي ظل هذه الأجواء الوطنية والقومية العربية بدأت في ستينيات القرن الماضي في جنوب اليمن تتشكل العديد من القوى الوطنية وجبهات التحرير لتحقيق الاستقلال الوطني من الاستعمار البريطاني، حيث ظهرت عدة حركات مقاومة كان ابرزها الجبهة القومية للتحرير التي قتلت المندوب البريطاني السامي كينيدي تريفسكيس في 10 ديسمبر 1963م وفجرت ثورة 14 أكتوبر وجبهة تحرير جنوب اليمن المحتل .
الثورة / ساري نصر
تأسيس الجبهة القومية وجبهة التحرير
مع تصاعد الغضب الشعبي ضد الاستعمار البريطاني وحدوث بعض المواجهات المسلحة بين رجال القبائل في ريف الجنوب وجنود الاستعمار البريطاني وخصوصا في منطقة ردفان، أعلنت حركة القوميين العرب بدء الكفاح المسلح ضد الاستعمار البريطاني بتشكيل الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل في 14 اكتوبر 1963م، حيث قامت الجبهة في البداية بفتح جبهات القتال في كل من الضالع وردفان والصبيحة بدعم مادي وإعلامي من مصر العربية، حيث كانت إذاعة (صوت العرب من القاهرة) تذيع أخبار العمليات العسكرية والفدائية التي يقوم بها ثوار الجبهة القومية ضد قوات الاستعمار البريطاني بصوت المذيع المصري الشهير/احمد سعيد، كما أدركت قيادة الجبهة القومية ضرورة فتح جبهة عدن باعتبار المستعمرة عدن هي مركز ثقل وتواجد البريطانيين ، إلا ان هذا الخيار كان يواجه بمعارضة قوية من القيادة المركزية لحركة القوميين العرب في بيروت ، الأمر الذي اضطر قيادة فرع الحركة في الجنوب إلى طرح مسألة حل فرع الحركة في الجنوب وانفصالها عن المركز وفتح جبهة عدن، إلا ان انقساما بهذا الشأن قد حدث بين قيادات فرع الحركة الأمر الذي أدى إلى اتخاذ قرار باللجوء إلى قيادات الريف لترجيح كفة احد الخيارين ، وتم تكليف فيصل الشعبي وعبدالفتاح إسماعيل لإنجاز ذلك وقام الشعبي بدعوة قيادات الريف للانعقاد في مدينة الشيخ عثمان في ابريل 1964م واستمر الاجتماع لمدة يومين وخرج بإجماع قيادات الريف على ترجيح كفة قرار حل الفرع وفتح جبهة عدن، أما تأسيس جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل فكان في العام 1965م وذلك بسبب رغبة قادة حزب الشعب الاشتراكي في إنقاذ الجامعة النقابية (المؤتمر العمالي العدني) التي قوضتها جدياً الجبهة القومية للتحرير التي توصلت سنة 1965م إلى كسب ست نقابات من أقوى نقابات المنطقة إلى جانبها وكانت جبهة التحرير تطمح منذ البدء إلى تجميع كل أحزاب المعارضة في داخلها.
الدعم وبسط النفوذ
كان دعم الجبهة القومية للتحرير يأتي من الأرياف من ردفان ويافع والضالع بينما معظم أنصار جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل كانوا من عدن، ذلك أن الانتماءات القبلية لعبت دوراً كبيراً في استقطاب الأنصار فقيادات الجبهة القومية للتحرير قدموا من داخل المشيخات المحمية ولم يكونوا مدعومين من المصريين في البداية، في حين كانت جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل تدير عملياتها من عدن وتتلقى دعماً من جمال عبدالناصر، وحاول البريطانيين التوصل لحل وسط مع هذه الجماعات ووجدوا أنفسهم يخوضون حربا على جبهتين، محاولة افشال الجمهورية في الشمال والفصائل المعادية لهم في الجنوب، وبحلول عام 1965م كانت معظم المحميات الغربية قد سقطت بيد الجبهة القومية للتحرير، أما حضرموت والمهرة فقد بدت هادئة حتى العام 1966م وذلك لأن التواجد البريطاني بهما كان أقل من نظيراتها في المحميات الغربية، كما انضم علي سالم البيض وحيدر أبو بكر العطاس للجبهة القومية للتحرير في حضرموت ومنعوا سلاطين السلطنة الكثيرية والسلطنة القعيطية من دخول البلاد وسمحوا لسلطان سلطنة المهرة وذلك لكبره في السن، ولعب علي سالم البيض والمهري محمد سالم عكش دوراً كبيراً في جمع الأنصار لصالح الجبهة القومية للتحرير، وكان قحطان الشعبي آنذاك الوحيد الذي يعرفه اللغة البريطانية و حاول البريطانيون التفاوض مع الجبهة القومية للتحرير عن طريقة، إلا أن قحطان طالب بالانسحاب الفوري والاعتراف بشرعية حكومته وأن توفر الحكومة البريطانية مساعدات ضعف ما اقترحته للاتحاد وأن تكون كل الجزر المرتبطة بمحمية عدن جزءاً من الدولة الجديدة، بينما كانت مطالب البريطانيين آنذاك تسليم منظم للسلطات وألا تتدخل الدولة الجديدة في شؤون أي دولة في شبه الجزيرة العربية، وخلال المفاوضات التي تمت في جنيف أعلن البريطانيون الانسحاب من الجنوب في عام 1968م وهو ما فجَّر المعارك بين الجبهة القومية للتحرير وجبهة تحرير جنوب اليمن المحتل لاحتكار حق تقرير المصير بعد خروج البريطانيين.
تدخلات خارجية
في العام 1966م أثناء مناقشة قضية الجنوب المحتل في القاهرة بحضور قحطان محمد الشعبي قحطان الشعبي ، وسيف الضالعي وفد (الجبهة القومية)، وعبدالقوي مكاوي ، وخليفة عبدالله خليفة وفد (حكومة عدن المقالة)، ووفد (منظمة التحرير) اقترحت مصر أن يتولى رئاسة الوفد عبدالقوي مكاوي ولكن قحطان الشعبي ظل مصراً على أن تكون رئاسة الوفد من حق الجبهة القومية للتحرير باعتبارها التي تقود الثورة المسلحة، كما رأت مصر أن الأمم المتحدة هي ساحة سياسية، وليست ميدان قتال وأن عبدالقوي مكاوي واجهة سياسية مقبولة لدى الرأي العام الدولي ولكن قحطان الشعبي رفض ذلك، لذلك فكرت مصر في إيجاد تنظيم جديد على أمل أن يحل محل (الجبهة القومية)، فراحت تخطط لذلك وقامت بإقناع بعض القياديين في الجبهة القومية بالموافقة على الاندماج مع (منظمة التحرير) في إطار (جبهة تحرير الجنوب اليمني المحتل) التي جاء قيامها حصيلة محادثات جرت في تعز بين علي احمد ناصر السلامي كممثل للجبهة القومية وبين عبدالله الأصنج كممثل عن (منظمة التحرير)، وتولى الجهاز العربي رعاية تلك المحادثات التي دارت بصورة سرية دون علم، أو مشاركة معظم قادة (الجبهة القومية)، وفي الساعة الثامنة من مساء يوم 13 يناير عام 1966م قامت (إذاعة تعز) بقراءة بيان ينص على أن (الجبهة القومية) و(منظمة التحرير) قد اتفقتا على الاندماج معاً في تنظيم واحد تقرر أن يطلق عليه اسم (جبهة تحرير الجنوب اليمني المحتل)، وكان البيان يحمل توقيعي الأصنج والسلامي، فأثار البيان ردود أفعال غاضبة في صفوف غالبية قادة (الجبهة القومية)، وتشكيلاتها المختلفة التي فوجئت بالأمر، واعتبرته قسرياً وغير شرعي وتم بضغوط مصرية.
سباق لإعادة التشكيل
كان الاختلاف الايدلوجي بين قادة الجبهتين واضحاً حيث اختلفت الجبهتان في كيفية إدارة الصراع مع الاستعمار البريطاني إضافةً للاختلاف في كيفية إدارة البلاد بعد الاستقلال، ولهذه الأسباب تم فسخ التحالف في السنة ذاتها الذي جرى فيها الدمج بين الجبهتين، واستعادت بعدها ( الجبهة القومية للتحرير ) حرية عملها وكثفت نشاطها العسكري في مناطق البلد الداخلية وفي المراكز الحضرية، وفي نفس الوقت عززت ووطَّدت أوضاعها في الجيش والشرطة والنقابات وفي صفوف المثقفين الشبان، وازداد تأصلها في الأرياف، ومع تبني هذا الخط القاسي عرفت الحركة الثورية تحولاً حاسماً، أما (جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل) فقد أناطت نفسها بقيادة عسكرية مستقلة (المنظمة الشعبية) وعهد إليها برعاية النضال المسلح، وبمكتب سياسي يقع العمل السياسي على عاتقه، وقد ضاعفت مجهودها على الصعيد الداخلي وبذلت نشاطاً دبلوماسياً واسع النطاق في الخارج وبالأخص في الأمم المتحدة هيئة الأمم المتحدة .
صراع وصدامات
نظراً لان قاعدة عدن لم تعد لها أهمية بالنسبة لبريطانيا منذ أن تقرر الجلاء عنها في شهر فبراير 1967م، قررت لندن إنهاء وجودها في اليمن الجنوبي، واختيار التاسع من يناير 1968م كيوم حصول اليمن الجنوبي على السيادة الدولية، وتمضي الأحداث السياسية والميدانية بشكل سريع ويتفكك النظام الاتحادي على إثر تمرد 20 يونيو 1967م ، لتقوم الجبهة القومية للتحرير بعدها بشكل سريع بنشر نفوذها على معظم مناطق الاتحاد وكذلك على حضرموت، كما حاولت بعدها جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل السيطرة على بعض المناطق ولكن بعد فوات الأوان، حيث أدى هذا التسابق إلى اصطدامات دموية بالأخص في لحج ودار سعد والشيخ عثمان، وبعد أن فشلت (جبهة التحرير) في تصحيح الوضع لصالحها، توجب عليها أن تلين مواقفها السابقة، فقد انقطعت عن اعتبار نفسها الممثل الوحيد لشعب اليمن الجنوبي وتخلت عن مشروعها الرامي إلى تشكيل حكومة في المنفى.
إعلان الاستقلال
وفي 2 نوفمبر من العام 1967م أعلن وزير الخارجية في مجلس العموم ان حكومته قد قررت تقديم تاريخ استقلال اليمن الجنوبي إلى نهاية نوفمبر 1967م بدلاً من 9 يناير1968م، وأدى إعلان رحيل البريطانيين القريب إلى تصعيد التوتر من جديد وعادت المنازعات بعنف في عدة أماكن من عدن وأدت إلى سقوط بضع عشرات من الضحايا، وهيمنت الجبهة القومية على كل البلد تقريباً ووجدت أنه من غير الطبيعي أن تفلت عدن من نفوذها، أما جبهة التحرير فقد كانت عدن بالنسبة إليها ذات أهمية حياتية فالإشراف على منطقة عدن كان أهم بكثير من السيطرة على مناطق البلد الداخلية، وهكذا كان الاستيلاء على عدن مسألة حياة أو موت بالنسبة لجبهة التحرير، وبعد عدة أيام من المعارك الطاحنة خسرت جبهة التحرير معركة عدن وعلى الفور بدأت مطاردة أتباعها ومناضليها وتبع ذلك تطهير الجيش والشرطة والإدارة منهم، لتخرج الجبهة القومية منتصرة من الصراع الدموي الذي دام من 1 إلى 6 نوفمبر 1967م وبسقوط عدن صار البلد كله تقريباً تحت إشرافها، لهذا قررت بريطانيا -وهي على وشك الانسحاب- أن مصلحتها تكمن في التعاون مع الجبهة القومية وتسليم السلطة لها وهذا ما حصل فعلاً، إذ استلمت الجبهة القومية من بريطانيا القواعد والمطارات والمنشآت العسكرية وكذلك الإدارات الحكومية المدنية، وأعلن عن استقلال اليمن الجنوبي في 30 نوفمبر من عام 1967م .
تفرد بالحكم وأحداث دامية
أعلن الاستقلال الوطني وقيام جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية في 30 نوفمبر 1967م ، بعد احتلال بريطاني دام 129 عاماً، وصدر قرار القيادة العامة للجبهة القومية بتعيين قحطان محمد الشعبي أمين عام الجبهة، رئيساً لجمهورية اليمن الجنوبية الشعبية لمدة سنتين، وإعلان تقسيم سياسي وإداري جديد للمحافظات الشمالية والشرقية، يضم 6 محافظات و30 مديرية، وكان الاستعمار البريطاني قد عمل على تقسيم الجنوب إلى 21 إمارة وسلطنة ومشيخة، بالإضافة إلى مستعمرة محمية عدن، لكل منها كيانها السياسي والإداري وحدودها وعلمها وجواز سفرها وجهازها الأمني، والمرتبطة في الأخير بالمندوب السامي البريطاني في عدن.
وكنتيجة لتفرد “الجبهة القومية” بالسلطة وإقصاء رفقاء السلاح ضد الاستعمار البريطاني، شهد جنوب اليمن أحداثاً دموية متعددة، قبل أن يأتي الحزب الاشتراكي الذي يعد امتداداً لـ”الجبهة القومية” في 1978م كحزب وحيد يحكم جنوب اليمن تحت شعار “لا صوت يعلو فوق صوت الحزب”، وخلال فترة حكمه التي عُرفت بسياسة الصوت الواحد، شهد الجنوب سلسلة أحداثاً دموية، كان آخرها أحداث عام 1986م بين القيادات العليا في الحزب، والتي أخذت طابعاً مناطقياً قُتل على إثرها الآلاف، وهرب عدد من القيادات إلى شمال اليمن من بينها الفار هادي، والرئيس الجنوبي الأسبق علي ناصر محمد الذي يتواجد حالياً في المنفى.
تقرأون في الملف :
قراءة في محاضر مفاوضات الاستقلال بين الجبهة القومية والحكومة البريطانية
20 يونيو.. ذكرى انتفاضة أسقطت دُرّة التاج البريطاني”مستعمرة عدن” بعد 129 عاماً من الاحتلال