تكشف حقائق انفجار ثورة تحرير جنوب اليمن وقوة صمودها وتكذِّب »رويترز«
رعب الاحتلال من ثوار اليمن في تقارير المخابرات البريطانية
نفذت بريطانيا 5 حملات عسكرية جوية وبرية متوحشة على ردفان وفشلت في كسر الثوار
ألف غارة جوية و2.508 صواريخ و183 ألف قذيفة لم تنجح في قمع الثوار
الحملات شملت عشرات الغاراتِ بقاذفات المقاتلةِ HMS Eagle و20 ألف غارة بطائرات المروحية
ارتكبت الحملات العسكرية البريطانية جرائم حرب وإبادة في ردفان ما تزال دون محاسبة
استطاع الثوار نقل المعارك من ردفان إلى وسط معتقل الاحتلال البريطاني عدن
هزائم بريطانيا في ردفان اضطرت لندن لمناورة إعلان نيتها الانسحاب بعد 4 أعوام
بخلاف ما ظلت تبثه وكالة الأنباء البريطانية (رويترز) مِنْ تحجيم لقوة الثورة اليمنية في الجنوب اليمني المحتل، وتكتم على حجم الخسائر البالغة في صفوف قوات الاحتلال البريطاني؛ ثمة وثائق عسكرية ظلت “سرية” تؤكد العكس في تقرير الواقع وإثبات جملة حقائق، أولاها حقيقة الرعب الذي أطلقته الثورة منذ اندلاع شرارتها في قمم جبال «ردفان»، وأنها امتداد للثورة في شمال اليمن.
هذا ما تكشفه تقارير المخابرات البريطانية «السرية» المصاحبة لانفجار ثورة تحرير جنوب اليمن يوم 14 أكتوبر 1963م، وأنها شكلت مع ثورة الإطاحة بالنظام الإمامي في شمال اليمن (26 سبتمبر 1962م) ثورة واحدة الدوافع والأهداف، والثائرين والمعارك، والمصير أيضاً، مصير «التحرر وتوحيد اليمن أو الموت» كما هو شعار مناضلي جبهتي الكفاح المسلح في شمال اليمن وجنوبه اللذين شُطرا بقرار سياسي توافق عليه المحتلان التركي والبريطاني في 1915م.
الثورة / إبراهيم الحكيم
المؤرخ اليمني الراحل سلطان ناجي، والذي عمل محاضراً في التاريخ بجامعة عدن منذ العام 1972م؛ يقدم ترجمة نادرة لعشرات التقارير السرية الصادرة عن المخابرات البريطانية، تتضمن في مجملها معلومات مثيرة، أكثرها إثارة ما يتعلق ببداية استشعار بريطانيا حقيقة خطر الثورة الداهم، ووقوفها على حقيقة انتفاضة «ردفان» ومصادر دعمها بالرجال والسلاح، وأبعاد هذا الدعم، وصولاً لاتخاذها قرار «الدفع بكل ثقلها وقواتها لقمع التمرد وقطع دابره».
فشل سياسي
سياسياً، كانت بريطانيا تدرك يقيناً منذ أن احتلت قواتها الغازية عدن أن لا أمل لها في بسط النفوذ ولا استتباب الاستقرار لسلطاتها دون قطع سبل اتحاد اليمنيين ضدها، ولهذا فقد أصدرت توجيهاتها لقائد قوات الغزو وأول معتمد سياسي بريطاني لعدن أن ينهج سياسة «فرِّق تسد” لكي نضرب قوة بأخرى» ويعزز تحصينات عدن ويعمل على إذابة الهوية القومية لسكانها، وينشر عيونه (جواسيسه)، ويكتسب أتباعاً.
هذا بالضبط ما نفذه حرفياً الكابتن هينس، ومنذ اللحظات الأولى التالية لمعركة غزو عدن عمد لتوسيع نفوذ بريطانيا بشراء أو احتلال المناطق المحيطة بعدن وولاء مشائخها وأمرائها عبر معاهدات صداقة، ثم حماية ودفاع، تعترف لهم بصفة حكام ما عُرف بسلطنات وإمارات الجنوب، ومشاهرات (رواتب)، مقابل اعترافهم بـ “شرعية” الاحتلال البريطاني، وإبقاء الطرق المؤدية إليها آمنة ومفتوحة، وتزويد الحامية العسكرية البريطانية بالمؤن الغذائية ومياه الشرب.
وقد نجحت بريطانيا بهذه السياسة في تسيد القوى السياسية المحلية الموزعة والمقسمة والمتصارعة فيما بينها، وإغراق غالبية قوى المقاومة والمعارضة المحلية في مستقنعات الفساد المالي والانحلال الأخلاقي، وإذابة الهوية القومية لعدن بسياسة توطين الجاليات الأجنبية فيها، وساعدها في ذلك تدهور الأوضاع الاقتصادية والصحية والاجتماعية في شمال اليمن وصراعات القوى السياسية، وفي مواجهة المطامع التركية (العثمانية).
لكن هذه السياسة لم تقطع دابر المقاومة الشعبية للاحتلال، فظلت الانتفاضات الشعبية تتوالى لتحرير عدن من «الإنجليز الكُفار»، وبرغم أنها ظلت تخفق بفعل تزايد الشقاق بين القوى المحلية، وتزايد عملاء الاحتلال وأتباعه وجواسيسه، وابتعاد مشروع الثورة الوطنية الشاملة يوماً تلو آخر، إلا أن الانتفاضات القبلية استمرت من حين لآخر، حتى اشتد عودها، مع قيام الثورة الوطنية في جبهتها الأولى شمال اليمن،لتبدأ تلك الانتفاضات تأخذ طابع «الثورة» في جنوب البلاد.
دعمت ثورة «26 سبتمبر 1962م» في شمال اليمن إلى الانتقال بالحركة التحررية الوطنية في جنوب اليمن من المقاومة الشعبية إلى الثورة المسلحة، فعمل النظام الجمهوري في صنعاء ومن ورائه مصر الداعمة لحركات التحرر العربية بقيادة الزعيم الراحل جمال عبدالناصر على دعم الثورة ضد الاحتلال البريطاني لجنوب اليمن وأتباعه حكام السلاطين والإمارات بالرجال والسلاح، وبدأت بريطانيا تدرك عبر تقارير مخابراتها أن ساعتها قد اقتربت.
انفجار الكبت
أول ما يلحظه القارئ في هذه التقارير أن المخابرات البريطانية وانعكاساً لسياسة بريطانيا وقناعتها التي ترسخت منذ احتلال عدن عام 1839م، كانت قد حصرت اسم اليمن في شمال اليمن، وأسقطته كلياً عن الجنوب اليمني، فأبدلته أولاً بـ «محمية عدن»، ثم بعد 100 عام «مستعمرة التاج البريطاني عدن» و«المحميات الشرقية والغربية»، ثم جمعت عدن ومناطق الجنوب اليمني تحت مسمى «اتحاد الجنوب العربي»، المحكوم نظرياً بحكومة محلية ومجلس تشريعي، يرأسهما فعلياً الحاكم البريطاني.
وفي كتابه المرجع القيم والوحيد عن «التاريخ العسكري لليمن 1839-1967م»، يورد المؤرخ سلطان ناجي ترجمة لنصوص عدد كبير من الملفات والتقارير السرية للمخابرات البريطانية في عدن، كان أول من استطاع الوصول إليها دون غيره من الباحثين، ومنها تلك التقارير اليومية المصاحبة لبداية الكفاح المسلح في جنوب اليمن منذ 14 أكتوبر1963م، وحتى انتزاع جبهات النضال المسلح استقلال جنوب اليمن في 30 نوفمبر 1967م.
تؤكد هذه التقارير اليومية -كما يورد المؤرخ سلطان ناجي ترجمتها في كتابه- حقيقة واحدية الثورة اليمنية بجناحيها (سبتمبر) في الشمال و(أكتوبر) في الجنوب، فيذكر تقرير يوم 16 أكتوبر 1963م ««بلغنا أن زعماء المنشقين يطالبون بإلحاح في تعز (اليمنية الشمالية) في الحصول على الأسلحة لكي يستخدموها ضد دورياتنا في وادي المصراح ويقوم الكبسي (قائد لواء محافظة إب اليمنية الشمالية) بدعمهم بقوة».
وتقدم تقارير المخابرات البريطانية صورة أكثر تفصيلاً عن كيفية تجمع الثوار اليمنيين واستعداداتهم للمعارك الكبرى مع القوات البريطانية، فيأتي في تقرير يوم 6 نوفمبر 1963م «بلغنا أن عدداً من المنشقين قد عادوا إلى محمية عدن الغربية بهدف تجنيد (3000) مقاتل للخدمة الجمهورية في اليمن (الجمهورية العربية اليمنية آنذاك)، وقد أحضروا معهم (5) صناديق من الذخيرة و(25) قنبلة يدوية.
ويضيف التقرير «وقد نقل بعضهم عائلاتهم من منطقة المحلاءى إلى منطقة الداعري حيث يُعتقد أنهم سيقومون بحملاتهم التجنيدية هنالك، وقد استمرت هذه الحملة خلال شهري نوفمبر وديسمبر وكانت ناجحة للغاية. وقد بلغنا، أنها قد أرضت المصريين كثيراً، كما بلغنا أيضاً أن رجال القبائل منذ ذلك التاريخ قد بدأوا بنقل عائلاتهم إلى اليمن (الجمهوري) وذلك لتوقعهم انفجار الموقف في ردفان».
في الأول من ديسمبر 1963م ترصد المخابرات البريطانية «أن بعض المنشقين كانوا يقومون بمفاوضات مع القبائل بهدف تجميد الثارات القبلية وذلك لكي يتمكنوا من تجنيد المقاتلين للخدمة في اليمن وكذلك من توحيد القبائل للقيام بنشاط تمردي عندما يحين الوقت، وقد استطاعوا عقد اتفاقيات بين قبائل: العبدلي والبعطئي ،الداعي والمحلائي، آل شيخ وحالمين، البطري والقطيبي، الضنبري والقطيبي، ويُعتقد أن كثيرين من رجال القبائل قد غادروا إلى اليمن (تقصد شمال اليمن)».
ثم ترصد المخابرات البريطانية للأيام (3-7) ديسمبر «أنه وصل إلى قعطبة (المنطقة الحدودية بين شمال اليمن وجنوبه) 110 أفراد من قبيلتي البطري والقطيبي في طريقهم إلى بيوتهم وكان كل واحد منهم يحمل بندقيتين وكمية من الذخيرة مقابل خدماته مع الجمهورية (اليمن)، وأن 80 قطيبياً قد وصلوا من قعطبة في طريقهم من صنعاء وفي حوزة معظمهم بنادق أوتوماتيكية، والجميع يمتلكون بنادق من الأصناف الأخرى».
وفي الأسبوع الثاني من ديسمبر، ترصد تقارير المخابرات البريطانية «أن 90 محلائياً وعبدلياً وداعرياً قد عادوا إلى قبائلهم بالبنادق والقنابل، وأن 40 قطيبياً وضنبرياً قد عادوا إلى قبائلهم، وأن أحد زعماء المنشقين قد استلم 25 صندوقاً من الذخيرة ومجموعة من القنابل من اليمن، وأن 150 عبدلياً قد عادوا من اليمن وبحوزتهم مختلف الأسلحة، وأن كل واحد منهم كان يحمل قنبلتين».
وتمضي التقارير نفسها «وبلغنا أن أحد الزعماء المنشقين نقل عائلته إلى قعطبة وقد رتب اجتماعاً في (وحدة) مع آل قطيب الذين عادوا مؤخراً من اليمن، وأن بعض زعماء المنشقين يقومون بتوزيع الألغام من أجل استخدامها في طريق الضالع-عدن، وفيما بين الساعة الثانية والثالثة صباحاً أطلق 50 شخصاً النار على مركز الثمير والحبيلين وبيت النائب ومساعد الضابط السياسي».
ومساء يومي 16 و17 ديسمبر ترصد التقارير «حاول 30 قطيبياً تدمير مضخة النائب، بينما تجمع 40 آخرون لإطلاق النار على بيته وعليه إن هو حاول الخروج منه، وقد تبادل الجانبان النيران، وأطلقت النيران على مركز الثمير، وعلى دورية من جيش الاتحاد النظامي (التابع لبريطانيا) من على بعد 350 ياردة وهي في طريقها للتحقيق في منطقة الثمير، وأن الجماعة التي كانت تقوم بإطلاق النيران كل ليلة على الثمير قد عُرفت هويتها الآن، وأنها من العبدلي والمحلائي والحجيلي والقطيبي».
تحذير جاد
ثم يبدأ تحذير المخابرات البريطانية من الدعم المصري في تقرير 20 ديسمبر 1963م «أن القائد المصري في اليمن كان يحبذ اتخاذ موقف أكثر عدائية في الجنوب بما في ذلك التخريب، وقد بلغت إلى مسامعنا هذه الإشاعات بواسطة مصادر أخرى قبل أسبوعين، وأن أحد زعماء المنشقين كان ينوي البقاء في ردفان كي يرى مدى المعارضة.. إن الشعور العام هو أنه ما لم تبادر الحكومة الاتحادية (التابعة للاحتلال البريطاني) إلى اتخاذ إجراءات سريعة ضد المنشقين بالقوة، فإن القبائل المحايدة ستنضم إلى جانبهم».
يضيف التقرير نفسه «أن المنشقين قد قسموا قواتهم إلى قسمين: قسم يشتبك مع المراكز الحكومية، والقسم الآخر يتدخل في سير المواصلات في طريق الضالع-عدن، ويُقدر عدد المسلحين من رجال القبائل في ردفان بـ (1000) رجل مسلحين بالبنادق بعضها أوتوماتيكية وقنابل. وأما عدد الملتزمين بالقتال مع المنشقين فهم حوالي (200)، وبلغنا أن الدعم مستمر من اليمن والاحتمال أنه يقدم بواسطة الكبسي الذي كان موجوداً في قعطبة».
ويتصاعد تحذير المخابرات البريطانية في تقرير 24 ديسمبر «طلب أحد زعماء المنشقين من الجمهورية العربية اليمنية أن تعفي من الخدمة بعض رجال القبائل لكي يقاتلوا معهم، ووعدوا بتقديم البديل لهم فيما بعد، ووزع أحد زعماء المنشقين 50 قطعة من الذخيرة بين رجال قبائل ردفان، ووعد بتقديم المزيد عن الحاجة، وقد بلغنا أن آل قطيب وآل محلا قد استلموا رسالة من الكبسي يخبرهم فيها بأن يستمروا في إطلاق النيران على المراكز الحكومية.
«وعندما يأتون إلى اليمن (الجمهوري) بأن يحضروا أشخاصاً مهمين معهم. (وقد) أرسل أحد زعماء المنشقين في يافع رسائل إلى قبائل ردفان يقترح فيها عقد صلح بين ردفان ويافع على أساس أن تبقى طريق وادي تيم مفتوحة.. لا يوجد هناك ما يدل على تقديم مساندة فعالة من قبائل يافع لقبائل ردفان، إلا أن هذا يجب أن لا يسقط من الحسبان فيما لو تفجرت العمليات قرب وادي بنا».
وفي 25 ديسمبر تحذر التقارير من «أن أربعة ضباط مصريين ذهبوا إلى قعطبة وقاموا بتفتيش المواقع العسكرية والمعدات هناك، وقد نقلت بعض المدافع إلى جبل مريس، ويُحتمل أن يكون هذا استعداداً لما يحتمل أن تقوم به الحكومة الاتحادية من ردع ضد قعطبة بسبب دعم اليمن للمنشقين في ردفان، كما يمكن أن يكون استعداداً لضرب الثوار في لواء إب الذين استطاعوا تحقيق بعض النجاح هناك قبل بضعة أيام. وأياً كان الأمر، فإن وجود المصريين في قعطبة جدير بالاهتمام».
تقييم الخطر
وفي 28 ديسمبر 1963م رفعت المخابرات البريطانية تقريراً سياسياً «سرياً» رقم (20/63) بعنوان «الموقف القبلي وتقييم الإمكانيات»، يشخِّص التقرير «الوضع العام» فيذكر «أن آل قطيب وآل محلا تدعمهم الأسلحة والذخيرة من اليمن (الجمهوري) وأعداد كبيرة من رجال قبائل ردفان، قد أعلنوا العصيان على الحكومة الاتحادية في منطقة جبال ردفان، ويقدر عدد المقاتلين في الوقت الحاضر بـ 200 رجل ويتفاوت هذا العدد بين يوم وآخر”.
«وهناك حوالي 1000 من رجال القبائل المسلحين في المنطقة لم ينخرطوا معهم بعد، إلا أنه يتوقع أن أعداداً كبيرة منهم ستدعمهم، إن أقل سلاح بحوزتهم هي البنادق والذخيرة، وكثير منهم يحملون البنادق الأوتوماتيكية والقنابل، وقد بلغنا أنهم قسموا قواتهم إلى قسمين: قسم منها يقوم بضرب على المراكز الحكومية والموظفين، والقسم الآخر يقوم بإقلاق أمن طريق عدن- الضالع».
وعن «الأهداف القبلية»، يقول التقرير «لا شك أن هدفهم هو أن يظهروا لليمن مقدرتهم كزعماء للمنشقين في الجنوب العربي (الجنوب اليمني المحتل)، ليطلبوا دعماً أكثر لنشاط المنشقين، فبدون ذلك الدعم لن يستطيعوا أن يكسبوا إلا طاعة قليلين من رجال القبائل، وإذا استطاعوا أن يحققوا أهدافهم المباشرة فسيعودون إلى اليمن حتى تهدأ الأمور، ثم يعودون لإثارة مشاكل أخرى من جديد، ويظهر أن الكبسي قائد لواء إب هو الذي يساعدهم بالذات في اليمن».
يحصر التقرير بؤر الخطر، يذكر «أن قبائل ردفان المنشقة في الوقت الحاضر هي: القطيبي – خاصة الصهيفي، والغزالي، والواحدي، المحلائى، العبدلي، الداعري -بعض منهم-، الحجيلي -معظمهم-. والبطري -معظمهم-.وبصرف النظر عن المنشقين الصلبين الذين سيحاربون مهما كان الأمر، فإن معظم رجال القبائل لا يدعمون آل قطيب وآل محلا، إلا لما يحصلون عليه من الأسلحة والذخيرة والنقود، وهم متأثرون بدعم اليمن لهم».
ورغم تجاهل التقرير حقيقة دوافع الثوار الذين يسميهم “المنشقين”، إلا أنه في تقييم تأثير انشقاقهم (خطر الثورة) يقول «أما القبائل التي لم تلتزم بدعمهم بعد، فهي منتظرة لترى ما ستفعله الحكومة الاتحادية، وذلك قبل أن تقرر الميل مع هذا الجانب أو ذاك.. إن صمت الحكومة لهو في صالح المنشقين.. إن الدعم على أية حال ليس بالإجماع بين أولئك الذين هم مستعدون أن يحاربوا مقابل الأسلحة والنقود.. إن أي عمل حكومي قوي سيقلل كثيراً من أتباع المنشقين».
لكن التقرير يصل إلى الأهم من الثورة التي يسميها تمردا، وهو مصادر الدعم، فيقول «يقدم اليمنيون (الجمهوريون) دعماً كبيراً بالإضافة إلى الأسلحة والذخيرة التي تعطى عادة لرجال القبائل الذين خدموا لمدة أربعة أشهر مع الجيش الجمهوري، ويُعتقد أن المصريين هم الذين يشجعون هذا الدعم أكثر من الجمهوريين الذين يظهر أن سياستهم نحو محمية عدن قد فقدت اتجاهها، ومن المعروف أن المرتجى، القائد المصري الجديد في صنعاء، يحبذ العمل داخل محمية عدن الغربية، بعيداً عن الحدود”.
وبرغم أن التقرير يقلل من خطر «هذا العمل المصري» باعتباره ينفذ «حيث يمكن للقوات الاتحادية الرد هناك بالمثل على الحوادث التي تحدث بين آونة وأخرى»، كما يقول، إلا أنه يحذر في الوقت ذاته من «أن نشاط المنشقين الحالي في ردفان، رغم قيام الاحتمال في أنه لم يكن للمصريين يد في مبادأته، فإنه شجع كثيراً بواسطة إمداداتهم من الأسلحة والذخائر. ويتوقع أن تستمر هذه الإمدادات بل وأن تزداد في المستقبل».
طلب الحسم
وفي اليوم نفسه (28 ديسمبر 1963م) يكشف لنا المؤرخ سلطان ناجي عن برقية أرسلها القائد العام للقوات البريطانية في الشرق الأوسط من عدن إلى وزارة المستعمرات في لندن بعنوان «عمليات في محمية عدن الغربية»، ويعدها ناجي بأنها «تؤرخ لبداية دفع بريطانيا بكل ثقلها في معركة ردفان للقضاء على الثورة وهي في مهدها»، ويقدم ترجمتها في كتابه (ص:271) كالتالي:
«بالرجوع إلى تلغراف المندوب السامي الشخصي، رقم (5/2) الموجه إلى وزير المستعمرات إن المندوب السامي منزعج للغاية بشأن تطور نشاط المنشقين (يعني الثوار) في منطقة القطيبي- ردفان الواقعة إلى شمال عدن، حيث تعرضت مؤخراً إحدى قوافلنا الحربية إلى الضرب عليها، وهي في طريقها إلى الضالع، وأيضاً قرية الثمير إلى الضرب عليها عدة مرات. وهناك من الدلائل ما تكفي لربط هذا النشاط باليمن (يعني اليمن الجمهوري).
«إنني والمندوب السامي نعتقد أنه من الضروري أن نقوم باستعراض قوة مبكراً في هذه المنطقة، إذا ما أردنا لمثل هذا النوع من المتاعب، أن لا ينتشر إلى أجزاء أخرى من الاتحاد (اتحاد الجنوب العربي)، وسيكون الهدف من مثل هذه العملية السيطرة على خط مواصلاتنا إلى الضالع، ومنع جماعات المنشقين من دخول المنطقة.. إن حجم العملية قد تم الاتفاق عليه مع المندوب السامي، وستتم العملية بمساعدة السلاح الجوي، وتم التخطيط أن تبدأ العملية حوالي الرابع من يناير».
وعلى ضوء هذه التقارير المخابراتية البريطانية وافقت لندن بعد استلام البرقية على أن تقوم قوات الاحتلال البريطاني في عدن بعملية حربية كبيرة ضد الثورة في ردفان مباشرة، بعد عطلة رأس السنة الجديدة 1964م، وقد قاد العملية الزعيم «لنت» رئيس جيش ما أنشأته بريطانيا آنذاك باسم «اتحاد الجنوب العربي» لغاية فصل الجنوب اليمني عن شماله إلى الأبد، في كيان سياسي مستقل، حتى لو اضطرت للانسحاب منه، شكليا مع بقاء وصايتها وحمايتها بموجب “معاهدة صداقة”.
ووفقاً للمؤرخ سلطان ناجي فقد أخفقت العملية برغم استخدام بريطانيا قواتها، البرية والجوية والبحرية.. إلخ، فأتبعتها بأربع حملات أقوى فأقوى عتاداً وتعداداً، وواجهت مقاومة عنيفة من الثوار في الجبال وكهوفها، أسقطت مئات القتلى والمصابين بينهم قادة هذه الحملات وتدمير آلياتها وإسقاط طائرتي هيلوكبتر من طراز «آر.ان. ويسكس». لكن وكالة الأنباء البريطانية (رويترز) وصحيفة وزارة الداخلية في عدن «صوت الجنوب»، ظلتا تنكران الحقيقة، حفاظاً على هيبة الإمبراطورية العظمى.
مع ذلك ينقل المؤرخ ناجي عن تقارير المخابرات البريطانية شهادة قادة الإنجليز أنفسهم للثوار اليمنيين، مفادها «إن شجاعة رجال القبائل وقدرتهم على مقاومة الأسلحة الحديثة قد ظهرتا بشكل مثير للإعجاب في هذه المعركة (الحملة الرابعة على ردفان 11-23 مايو 1964م)، فقد شنت طائرات الهنتر سلسلة متتالية من الضرب على مواقع الثوار مستخدمة الصواريخ وقذائف 80 مم، ولكنها فشلت تماماً في أن توقف الثوار من إطلاق النيران إلا لبضع دقائق محدودة».
وتذكر المصادر العسكرية البريطانية، ومنها الطيار «توم كوبير» أن طائرات راف هنتر(RAF Hunter) الحربية نفذت في الحملات الخمس على ردفان «أكثر من 1.000 غارةِ مقاتلةِ، واستخدمت 2.508 صواريخ بالإضافة إلى 183.000 قذيفة 30 مليمترَ مقدرةِ وعشرات الغاراتِ بقاذفات المقاتلةِ HMS Eagle، بينما سجلت مروحيات البحرية الملكيةِ 20.000 غارةَ أغلبها دامتْ بالكاد 20 دقيقةَ، وهذه الأرقام بالطبع، تصوِّر شراسة المقاومة وكثافة العمليات بشكل واضح جداً».
إقرار بالفشل
لم تجد بريطانيا بداً من الإقرار بفشل الحملات العسكرية المتوحشة الخمس على ردفان، والتي ارتكبت فيها جرائم حرب وإبادة للإنسانية بتدمير مئات المنازل وإحراق آلاف الهكتارات الزراعية، وقتل وجرح مئات المواطنين من النساء والأطفال، وجميعها جرائم حرب كاملة الأركان لم تخضع بريطانيا حتى اليوم للمساءلة فيها، أو ينالها أي نوع من المحاسبة والعقاب.
لكن بسالة وقوة الثورة في ردفان طوال عامين اضطرت وزير الدفاع البريطاني «دنكن ساندز» إلى أن «يأتي في عز شهور الصيف اللاهبة إلى جبال ردفان ليرفع من معنوية الجنود البريطانيين المنهارة في تلك الحرب التي لم يعتادوها من قبل»، كما استدعت في أواخر 1964م أن يكون أول عمل يقوم به وزير المستعمرات البريطانية الجديد «أنتوني جرينود» تنحية المندوب السامي في عدن «كنيدي ترافيسكس»، والقيام مباشرة بزيارة شخصية لمستعمرة عدن.
ولم تفلح مساعي «جرينود» السياسية في احتواء الثورة، إذ جعل الثوار تاريخ زيارته لعدن في السادس من نوفمبر 1964م بداية مرحلة نقل الكفاح المسلح من ردفان إلى مدينة عدن، ليستمر ثلاثة أعوام كاملة، شهدت حتى بعد اضطرار بريطانيا في 22 فبراير 1966م لمناورة “إعلان نيتها سحب قواتها في عام 1968م”؛ وقوع (3685) هجوماً وعملية فدائية في عدن وحدها، خلفت (121) قتيلاً و(990) جريحاً، وخسائر مادية ضخمة عجلت بالانسحاب البريطاني.