تشهد الساحة العربية مظاهر تطبيع؛ معلنة أو شبه معلنة، من قبل بعض الأنظمة العربية التي لا تربطها علاقات معلنة سابقاً مع الكيان الإسرائيلي، في ظل حالة من الضعف والصراعات التي تمر بها بعض الدول العربية، واستمرار الرفض الشعبي العربي للتطبيع، حيث تسعى إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب- المتبنية لرؤية السلام في المنطقة- إلى دمج الكيان الإسرائيلي في أحلاف إقليمية قبل التوصل إلى حل للقضية الفلسطينية.
إسكندر المريسي
ولا شك أن المنطقة العربية تخضع منذ مدة ليست بالقصيرة لهندسة سياسة الفك وإعادة التركيب لكي تخضع بالكامل لشروط ومتطلبات “إسرائيل”، واستراتيجية إدارة الرئيس الأمريكي، ويدلل تسارع نتنياهو للاحتفاء بالتطبيع مع الإمارات على عمق العلاقات السياسية والتجارية القائمة بين النخبة الحاكمة في دولة الإمارات العربية المتحدة والأجهزة الصهيونية منذ سنين طويلة، ويعبَّر عن ارتماء دولة الإمارات في أحضان الكيان الصهيوني مقدمة تنازلات مجانية في قضية إنهاء الصراع العربي ـ الصهيوني، وإنهاء حالة العداء مع إسرائيل، ما دامت الدولة الصهيونية لا تقدم شيئا ملموساً يمكن أن يحدث تقدماً جوهرياً في مجال إقامة الدولة الفلسطينية.
كالعادة، قدم الإماراتيون وبعض الأنظمة العربية الأخرى ـ وبسخاء طالما عرفوا به ـ كل ما لديهم، وبالغوا في “غواية” إسرائيل وهم يفترضون أنها مثلهم ستقبل شفاعتهم فتعطي الفلسطينيين البؤساء ـ وبشفاعة النفط ـ الحد الأدنى من حقوقهم في أرضهم، فإذا بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب لم يكتف بالاعتراف بالقدس عاصمة أبدية للكيان الصهيوني، بل وقع في 25 (مارس) 2019 مرسومًا يعترف بالسيادة الصهيونية على هضبة الجولان التي احتلتها إسرائيل في حرب عام 1967م.
ولم يكتف ترامب بالاعتراف بسيادة إسرائيل على هضبة الجولان المحتلة، بل قال في مستهل اجتماع مع رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو إنَّ أي اتفاق للسلام في الشرق الأوسط يجب أن يتضمن حق “إسرائيل” في الدفاع عن نفسها، وتعهد أمام نتنياهو بأن الولايات المتحدة “تعترف بالحق المطلق لإسرائيل بالدفاع عن نفسها”.
فالاتفاق الإماراتي حول التطبيع مع الكيان الصهيوني يكرّر التجربة المرَّة دائماً من غير أنْ يتعلم العرب الذين يذهبون بلا سلاح، متنازلين طلباً للسلام، فيواجهون بإسرائيل تعرض عليهم الاستسلام والتخلي عن فلسطين وإلا الحرب، إنها هزيمة عربية جديدة وشاملة عنوانها خروج العرب من فلسطين نهائياً، وتركها بكاملها للاحتلال الإسرائيلي المعزز بالدعم الأمريكي المفتوح.
صفقة القرن بوابة للتطبيع بين العرب والكيان الصهيوني
إنَّ التطبيع الإماراتي-الصهيوني يأتي في سياق “تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي” الذي دعت إليه الدول الخليجية لمواجهة إيران وسوريا وقوى المقاومة في الإقليم، ويستهدف شرعنة التطبيع بين الكيان الصهيوني والدول العربية، وربط الاقتصاد العربي بعجلة التطور الصهيوني، إذْ أنَّ الاندماج الصهيوني في النسيج الاقتصادي والاجتماعي للأمة العربية يهدف لتمزيقها من الداخل وتفتيتها، بعد أن عجز عن تحقيق ذلك بالحروب رغم تفوقه العسكري، ورغم الوظيفة الرئيسية التي كانت مناطة به في خدمة النظام الإمبريالي العالمي، ألا وهي دور رأس جسر عسكري، وقاعدة استراتيجية متقدمة للغرب بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية.
إنَّ مواجهة التطبيع مع الكيان الصهيوني يتطلب من الشعوب العربية والإسلامية أفراداً وأحزاباً وجماعات ومنظمات التمسك بخيار مقاومة المشروع الإمبريالي الأمريكي ـ الصهيوني، وإقامة السوق العربية المشتركة، وتحقيق التكامل الاقتصادي العربي واستمرار المقاطعة العربية للكيان الصهيوني، ومقاومة سياسة التطبيع، وخلق وضع عربي مقاوم مناهض للهيمنة الإمبريالية الأمريكية الصهيونية.
إنَّ الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين هو اقتطاع ظالم لأرض شعب فلسطين حصل بقوة ودعم القوى الاستعمارية الأوروبية، فخلق “إسرائيل” إنما كان إهانة للعرب كشعب، فضلاً عن أن الدول الاستعمارية الأوروبية برَّرت وجودها كأداة قمع لحركة التحرر الوطني العربية.
خيارات الشعب الفلسطيني
يظهر الصف العربي مهادنا هذه المرة لحالة تطبيع جديدة هي الثالثة في تاريخ النزاع العربي-الإسرائيلي.
لم تتأخر السلطة الفلسطينية في تأكيد رفضها لتطبيع العلاقات بين الإمارات وإسرائيل، فقد اعتبرت ذلك “خيانة للقدس والأقصى والقضية الفلسطينية، واعترافاً بالقدس عاصمة لإسرائيل” من قبل الإمارات، ويظهر الصف الفلسطيني مُوّحداً ضد خطوة أبو ظبي، خاصة بين حركة فتح وحركة حماس، وهو ما تأكد في بيان عن اتصال هاتفي بين محمود عباس وإسماعيل هنية.
غيرَ أن النزاع العربي- الإسرائيلي لم يعد كما كان قبل عقود، وتحديداً عندما قاطعت الدول العربية مصر، وعلّقت عضويتها لسنوات من الجامعة العربية غداة توقيعها اتفاق “كامب ديفيد” مع إسرائيل، فبعد ذلك التاريخ وقعت منظمة التحرير الفلسطيني اتفاق أوسلو الذي اعترفت من خلاله بحق إسرائيل في الوجود، ثم وقعت الأردن اتفاق “وادي عربة” الذي أتى لتسوية النزاعات الحدودية مع إسرائيل، ومن ثمة إقامة علاقات معها.
تقارب عربي مع إسرائيل
منذ مدة طويلة لم يعد الكثير من المحللين يتحدثون عن نزاع عربي-إسرائيلي، بل نزاع فلسطيني-إسرائيلي، ومن أبرز المؤشرات على هذا الأمر استقبال دولة عربية محورية هي مصر الاتفاق الإماراتي-الإسرائيلي بـ”التثمين”، وكذلك حديث البحرين عن أن الاتفاق يعزّز فرص السلام، بينما اتخذت الأردن موقفًا وسطًا بالحديث عن أن “أثر الاتفاق سيكون مرتبطًا بما تقوم به إسرائيل” مستقبلاً، في وقت صمتت فيه جلّ الدول العربية، ولا يوجد أيّ مؤشر على انعقاد قمة عربية طارئة لمناقشة الفضية الفلسطينية.
حسابات دقيقة
تواجه السعودية معضلة الحسابات السياسية الحساسة قبل أي اعتراف رسمي بالدولة العبرية، وكما حدث مع الاتفاق الإماراتي، فإن هذه الخطوة سينظر إليها الفلسطينيون على أنها خيانة لقضيتهم، لكن المملكة تبدو كأنها بدأت بالفعل تقاربا مع إسرائيل في السنوات الأخيرة، وهو تحوّل قاده ولي العهد الأمير محمد بن سلمان حتى عندما أعرب والده العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز عن دعمه الثابت لقيام دولة فلسطينية مستقلة.
وقد يدفع العداء المشترك تجاه إيران إلى محاولات جذب الاستثمار الأجنبي لتمويل خطة التحول الاقتصادي “رؤية 2030م” الخاصة بالأمير محمد، المملكة إلى الاقتراب من إسرائيل أكثر من ذي قبل.
الصمت السعودي إزاء “التطبيع”
يرى محللون أن قرار الإمارات تطبيع العلاقات مع إسرائيل قد يساهم في تعزيز تقارب السعودية مع الدولة العبرية في الوقت الذي تسعى فيه الرياض لجذب الاستثمارات لتمويل تحولها الاقتصادي استعدادا لمرحلة ما بعد البترول.
لقد أصبحت الإمارات العربية المتحدة أول دولة خليجية تطبّع علاقاتها الديبلوماسية مع إسرائيل في اتفاق تاريخي توسّطت فيه الولايات المتحدة وأثار احتمال إبرام اتفاقات مماثلة مع دول عربية أخرى، والتزمت السعودية صاحبة أكبر اقتصاد في العالم العربي الصمت بشأن الاتفاق.