مشكلة الإيجارات أكبر من “المادة 211”
عباس السيد
إعلان الحكومة عن إعداد لائحة لتعديل قانون الإيجارات “بما يتلاءم مع ظروف العدوان والحصار” خطوة جيدة ، وهي تعكس اهتمام القيادة السياسية والحكومة بشريحة واسعة من المواطنين ، انطلاقاً من مسؤولياتها الوطنية ، وإدراكها لأبعاد وتداعيات استمرار هذه المشكلة على الاستقرار وتماسك النسيج الاجتماعي والاستمرار في الصمود في مواجهة العدوان الذي يحاول استثمار كل مشكلة وأزمة في معركته ضد اليمن واليمنيين .
خلق الحرب والحصار منظومة من الأزمات الاقتصادية .. اشتعلت سوق العقارات ، وارتفعت إيجارات المنازل إلى مائتين في المائة خلال السنوات الأخيرة . وفي ظل انقطاع المرتبات ، تحولت شريحة واسعة من المواطنين من “محدودي الدخل” إلى “معدومي الدخل” وتضاءل حلم الملايين ، من “امتلاك منزل” إلى مجرد “استئجار منزل” .
ومع غياب الوعي بـ “السكن” كحق أساسي للإنسان ، وفي ظل فقر في التشريعات المنظمة للعلاقة بين المالك والمستأجر، غصّت أقسام الشرطة والمحاكم بقضايا الإيجارات ودعاوي الإخلاء ، وساد مبدأ “من قال حقي غلب”.
كان من الصعب على الحكومة أن تستمر في موقف المتفرج أمام ما يجري ، لكن تدخلها كان خجولاً وغير فاعل ، واقتصر على التعميمات التي أصدرتها وزارة العدل للمحاكم في أبريل 2017 ، والتي قضت بمراعاة الظروف الاقتصادية عند النظر في قضايا الإيجارات .
ذكّر وزير العدل السابق القاضي أحمد عقبات القضاة في المحاكم بالمادة رقم 211 من القانون المدني الصادر عام 2002 ، وهي المادة التي تُعرف في القضاء بجميع دول العالم بـ “نظرية الظروف الطارئة” التي تجيز للقاضي تعديل العقود “إلى الحد المعقول” طالما أن الأسباب التي حالت دون وفاء أحد أطراف العقد “قاهرة” ولا دخل له فيها .
ونظراً لأن الظروف التي نمر بها أصعب من تلك التي وُضِعَتْ المادة لمعالجتها ، فقد كان العدل والإنصاف متعذراً ، بل كانت حافزاً لتقديم المزيد من دعاوي الإخلاء ، ولم تعالج المشكلة ، فانقطاع المرتبات كما في الحالة التي نمر بها يقتضي تدخلاً فاعلاً من الدولة للمعالجة بما يكفل حقوق طرفي العقد .
نظرية الظروف الطارئة ، قد تكون ملائمة لظرف مشابه “لجائحة كورونا” على سبيل المثال ، كأن يضطر صاحب مطعم إلى الإغلاق لأشهر ، ويعجز عن دفع الإيجارات ، في هذه الحالة يمكن تعديل عقد الإيجار “على الحد المعقول” بموجب النظرية ، ولكن في حالة انقطاع مرتبات الموظفين الحكوميين يختلف الأمر ويتعقد .
ومن الواضح أن القيادة السياسية والحكومة قد أدركت ذلك واستشعرت مسؤوليتها في ضرورة التدخل بشكل فاعل لمعالجة المشكلة ، باعتبار أن تدخلها جزء من إدارة المواجهة للعدوان والحصار، وهو توجه يعكس وعياً حكومياً بحق السكن ، كحق أساسي دستوري ، فلا بديل عنه سوى الرصيف أو العراء .
لقد تعرض الحق في “السكن ” إلى تغييب كامل في بلادنا طيلة العقود الخمسة الماضية ، وتم إساءة التصرف بموارد وإمكانات الدولة من أراض وعقارات ، ولم تقدم السلطات أي خطط أو برامج في مجال الإسكان ، وفشلت حتى في صياغة تشريعات تنظم العلاقة بين الملاك والمستأجرين بشكل يكفل حقوق الطرفين . ولذلك ينظر البعض إلى التوجه الحكومي الحالي بإعداد لائحة لتنظيم هذه العلاقة ، بأنه خطوة استراتيجية في مسار تصحيح العلاقة بين السلطة والشعب .
وهنا ، تجدر الإشارة إلى المطالبة بإيجاد معالجات تخفف معاناة شريحة واسعة من المواطنين ، لا يعني الإجحاف بحقوق الملاك مطلقاً ، كما أن إلقاء اللوم في المشكلة على “طمع وجشع” الملاك ، هو هروب من مسؤولية المعالجة . فالعقارات سلعة كباقي السلع تخضع للعرض والطلب ، و” الإنسان ذئب أخيه الإنسان ” كما قال الفليسوف الإنجليزي توماس هوبز ، أو ” الجحيم هم الناس الآخرون ” كما قال جون بول سارتر . ولنا عبرة في ” قابيل وهابيل”.
ولذلك ، أرسل الله الرسل والأنبياء ، وأوكل الناس أمورهم إلى قيادات وسلطات كي تحميهم من بعضهم ، وترشد أطماع بعضهم . ومن أجل ذلك توضع القوانين التي تهدف في الأساس إلى إسعاد الناس وتحقيق الرخاء والمودة .
……………………..
مــادة(211): العقد ملزم للمتعاقدين فلا يجوز نقضه ولا تعديله إلا باتفاق الطرفين أو للأسباب التي يقررها القانون الشرعي، ومع ذلك اذا طرأت حوادث استثنائية عامة كالحروب والكوارث لم تكن متوقعة وترتب على حدوثها أن تنفيذ الالتزام التعاقدي وإن لم يصبح مستحيلاً صار مرهقاً للمدين بحيث يهدده بخسارة فادحة لا يستطيع معها المضي في العقد, ولا يعني ذلك ارتفاع الأسعار وانخفاضها جاز للقاضي تبعاً للظروف من فقر أو غنى وغير ذلك, وبعد الموازنة بين مصلحة الطرفين أن يرد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول”.