فلسفة الولاية في الإسلام
أحمد يحيى الديلمي
لا أدري إلى متى سيظل الجدل العقيم محتدماً حول واقعة الغدير ومفهوم الولاية في الإسلام، رغم أن المعنى واضح والواقعة مشهورة ومؤيدة بمئات الأدلة والأسانيد، ولم ينل أي حديث إجماعا من الصحابة والرواة كهذا الحديث، إذ يقول العلاَّمة محمد بن إبراهيم الوزير ( إن روايته وردت بمائة وثلاثة وخمسين طريقاً) وقال العلاَّمة المقبلي بصيغة التعجب والاستغراب (إذا لم يكن حديث الغدير معلوماً فما المعلوم في هذه الدنيا؟!) وتعددت طرق التعاطي والتأييد من قبل المفسرين ورواة الحديث لتشكل اتفاقاً وإجماعاً منقطع النظير على مصداقية الحديث واعتباره أهم قاعدة لبيان فلسفة الولاية في الإسلام، كما أشار إلى ذلك العلامة الشوكاني في معرض إثباته لوصية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ومن قبله مئات العلماء والرواة والمفسرين الذين أجمعوا على أن الولاية رابطة حضارية أخلاقية تُجسد العدالة والمساواة وتحدد طبيعة الارتباط بالدين والامتثال لأحكام منهجه القويم .
مع ذلك نجد أن شبكات بث الكراهية وخزنة الحقد المركَّب على الإمام علي عليه السلام ومن بعده بني هاشم تتناسل عبر التاريخ ومنذ زمن حدوثها وحتى عصرنا الحاضر، وتزداد حملات التشكيك والإنكار في زمن حكام الجور والجبروت والطغيان والظلم منذ يوم السقيفة وحكم بني أمية إلى زمن حكم آل سعود ، بما يوحي بأن الشغف بالمُلك ورغبة الاستئثار به كان الدافع الأكبر بقصد مواراة الجهل بالأحكام والإسراف في حب الذات ونزعة الارتباط بزمن الجاهلية ، كلها ظلت متأصلة في النفوس وهي التي أعمت البصائر عن إدراك الحق والانحياز له وتزييف الحقائق عن طريق الخداع والاضلال وتسويق الروايات الكاذبة والفتاوى الخاطئة التي اتسمت بالفداحة والأخطاء الجسيمة بما ترتب عليها من موروث فكري اتسم بالتضارب والتعارض والإساءة المباشرة وغير المباشرة لثقافة وهوية العقيدة المتاصلة في ثقافة الولاية وما تمثله القضية من دور فعَّال في حياة الناس وتحديد المسار السياسي المستقبلي للأمة ، فقد اتسم موضوع الولاية بالحساسية وردود الفعل النزقة التي لم يسلم منها حتى كبار الصحابة المشهود لهم بالسبق إلى الإسلام، وللأسف نفس السلوك غير القويم أعطى مشروعية للأخطاء والتجاوزات وسمح لها بأن تتراكم وتحتل بطون الكتب حتى غدت ثقافة مرعية مشرعنة للانحراف ، إذ اعتبر علماء ومفكرون إسلاميون أن الإسلام خال من أي إشارة إلى نظام الحكم ، ما دفع الإمام جمال الدين الأفغاني إلى دحض الأفكار الضالة، مشيراً إلى أن الحاكم في الإسلام مكلف بأداء وظيفة إلهية تكون أعماله وكل ما يقوم به مربوطة بأحكام وقيم وأخلاق العقيدة ، وفي معرض دفاع الإمام محمد أبو زهرة عن الإسلام أشاد برؤية الإمام زيد بن علي عليه السلام كونه ربط الفكرة بعدة ضوابط استندت إلى نصوص القرآن الكريم والسُنَّة النبوية المطهرة ممثلة في :
– إقرار مبدأ الخروج على الحاكم الظالم .
– الإبقاء على باب الاجتهاد مفتوحاً .
– ربط شرط البطنين بخيار الأفضلية التي أجازت تقديم الأفضل على المفضول للتأكيد على أهمية الأفضلية واعتبارها معيار الاختيار من قبل الأمة .
من هنا جاء الرهان الإلهي على الإمام علي عليه السلام ومن سار على نهجه من آل البيت الأطهار، وهو اصطفاء إلهي تؤيده نصوص قرآنية واضحة منها قوله تعالى (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ) وقوله تعالى ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) بإجماع المفسرين أن هذه الآية نزلت في الإمام علي عليه السلام .
وأكتمل المشهد بحديث الغدير الذي أفصح عنه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في يوم الغدير حيث قال ( إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض).. في هذا الجانب لم تفلح المغالطات التي غيَّرت كلمة “العترة” بـ”السُنَّة” ، فالسُنَّة مكمِّلة للقرآن الكريم شارحة لنصوصه ومحددة لآليات التعاطي مع بعض الأحكام والعبادات ، ولا يمكن اعتبارها رديفة للقرآن ، بينما الإمام علي كان القرآن الناطق وفق إجماع ووصف المفسرين المنصفين ومن بعده من تناسل من ذريته لقدرتهم على معرفة عنصر الزمن ودوره في تحديد أنساق الممارسة العملية لجوهر العقيدة وبيان المقاصد الرسالية ببُعديها الإنساني والعقلاني وإطارها الأخلاقي وصولاً إلى توضيح وبلورة مفاهيم الدين البنيوية أخلاقياً وقيمياً مع تلبية مقتضيات كل زمن، وهذا هو محور فلسفة الولاية في الإسلام كما حدده قائد الثورة السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي حفظه الله بقوله (المسألة تعد التزاماً عملياً ، استقامة على منهج الله ، اتباعاً للقرآن ، تمسكاً بالحق ، منهجاً متكاملاً في مبادئه وأخلاقه وقيمه وسلوكه وروحيته ) مؤكداً أن هذا هو التولي الواعي للإمام علي وللرسول الأعظم وصولاً إلى الانضواء تحت ولاية الله في اتباع هديه والتمسك بمنهجه.
مثل هذا الفهم الراقي للولاية كفيل بمعرفة الحق والانحياز له بإيمان صادق ومسؤولية عميقة تترجم روح الانتماء الصادق للعقيدة وفق المسار الذي ترجمه الإمام علي عملياً في الواقع، ومع أنه كان يمتلك القوة والإرادة اللتين تمكناه من ترجمة الفكرة عملياً إلا أنه آثر الانصياع لصوت العقل وأطلق قوله الشهير ( والله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ) وهو قول عظيم يوضح اهتمام هذا الرجل ومقاصده الثابتة التي لا تخرج عن الاهتمام بسلامة الدين والتزام المسلمين بأحكامه ، عدا ذلك فهي أشياء تافهة لا تستحق الاهتمام كما جاء على لسانه حينما قال (يا دنيا غُرِّي غيري) .. هذا هو الإمام علي الذي يجب التمسك بمنهجه والسير على الخطى التي سار عليها حتى نضمن سلامة العقول والتمسك بمنهج الإسلام القويم .. والله من وراء القصد .