إعلان سياسي
علي محمد الأشموري
في ليلة مقمرة من نهاية عقد الثمانينيات كانت الأجواء تلفح الوجوه ببرودة قارسة كان مقر البحث عن الحقيقة أو البحث عن المتاعب أو السلطة الرابعة مجزأة ما بين المثقفين يمين- يسار- وسط –إخوان وكل يحمل في رأسه التهمة المناسبة المركبة لزميله- إن اختلف معه في الرأي – الذي ينتمي إلى هذه المهنة المعقدة في تركيبتها، والتي تجمع كل المتناقضات الفكرية ولم تكن هناك أيديولوجية أصلاً وكل واحد يكيد للآخر من بوابة المناقشة وملعون أبو المهنة التي قال عنها وزير سابق حينما كان وكيلا وعرض عليه وقتها منصب الوزارة فأجاب بلغة ساخرة “وكيل دائم ولا وزير سابق منقطع” لأن المهنة للأسف تحتاج وقتها إلى تفتيح “الآذان” بعيداً عن المهنية والعقل والمنافسة الشريفة.. كان “علي” حديث العهد بالتخرج قد عانى الأمرّين بسبب عصاميته، فتفوقه جعل البعض ينادونه “بالرفيق” وجزافاً لأنه يحمل مؤهلاً من بلد اشتراكي..
وتهمة مثل هذه يمكن وقتها أن تطيح بذلك الشاب حديث العهد على المهنة وكواليسها خاصة والحراك على أشده ولا مجال للاجتهاد في الوحدة التي اتخذت مداً وجزراً ومؤامرات ومشاورات في أكثر من عاصمة عربية، والغريب في الأمر أن من سهر الليالي وتعب أربع وست وثمان سنوات في البحث والتحصيل كانت العودة من موسم الهجرة إلى الوطن حلماً يراود كل شاب يريد المشاركة في صنع الوطن الجديد..
فتوالت الأحداث بعد مقتل الشهيد الحمدي بعد منتصف السبعينيات الذي كان يبحث عن العدالة والخروج من الوصاية السعودية لكن بريق المال قد جعله يدفع الثمن غالياً وفقد حياته ثمناً لمشروعه الوطني، فالجار السيئ لا تاريخ له يذكر ولا حضارة ولا حاضنة ثقافية، بل حاضنة حقد ورأسماله السروال للمؤسس والتدخل في شؤون الغير ومن لم يكن يسمع الأوامر الصادرة من الرياض فمصيره محتوم وتاريخه مشوه بخطط خارجية وداخلية “والقرش يلعب بحمران العيون”..
فابتُلينا بثقافة الفيد والبسط والكل في الهرم ينفذ سياسة “آل جابر” ومن قبله ومن لم يعجبه فمصيره معروف ومحتوم.. والأمثلة كثيرة..
المشهد الثاني
في مقر “الصحيفة” الأولى في البلد كانت الحركة دؤوبة فالرجل الأول وبكل أريحية يغرد خارج السرب ويكتب عن “العراق” وكأنه يعيش في بغداد ويتحدث عن ضم للشقيقة الكويت وفي “الافتتاحية” ويعتبر الكويت محافظة؟!
ويستقبل سفيرها الذي يأتي مساءً ليستشف رؤية عن قرب مدى صدى الافتتاحية ويقدم له الشاي ويجلس الساعات الطوال دون سابق إنذار أو استئذان!! من جهات الاختصاص، وجارة الشر والسوء خط أحمر، أما الوحدة اليمنية التي ناضل أبناء الشمال وقتها ورضع أبناء الجنوب من حليبها فكانت ضبابية، فهذا يصفها بالمستقبل “الفيدرالي” ويطيح ذاك “الكونفدرالي” خارج اللعبة وذاك بالاندماجي وكلها اجتهادات.
وبين هذا وذاك وضبابية المشهد كانت كوابيس المناوبة والخوف من أي خطأ تجعل المناوب المسؤول في كابوس يعيش ليومين أو ثلاثة داخل الصحيفة الأولى.
المشهد الثالث
بعد الإطاحة بأكثر من رئيس في الشمال والجنوب بنقود ونفوذ الخليج الهادر “السعودية” وأذيالها وقعت صفحة إعلانات في ظاهرها الرحمة وفي باطنها النهب والعذاب للبلد، والمناوب الصحافي، فالصفحة مصممة في الرياض ولهذه الإعلانات إدارة غير سياسية.. قرأها المناوب الساذج في الهزيع الأخير من الليل فطار النوم من عينيه.. توجه إلى “الحمام” غسل وجهه لطرد النعاس فقرأ المحتوى.. فزادت المخاوف لديه وأيقن أن هلاكه قادم إذا نشر الإعلان.
بعد تجهيز الإعلان السياسي الذي جاء عن طريق “المشروعات السعودية” وعبر المدير التربوي للمشروعات أحمد عبدالحافظ- مصري الجنسية والإعلان مدفوع الأجر بالدولار!!.
ومفاده: ” تعلن مشروعات التعليم اليمني السعودي عن إنزال مناقصة فيما أسماها بالحدود اليمنية –السعودية” التفت “المناوب المسؤول” يمنياً ويساراً فلم يجد أحداً يستشيره، طلب من التحويلة إيصاله برئيس التحرير، فكان تلفونه “مقفلاً”، أرسل في إحضار مندوب الإعلانات، فحضر وقال بعد سؤاله عن الإعلان “هذا من فوق”؟!، واختفى كما في حكاية الزئبق المناوب.. طلب المدير العام في منزله فلم يرد، كان يفكر بينه وبين نفسه بأن يوقف “الطبع” ولكل حادث حديث بعد الوصول إلى الطريق المسدود.. وفجأة ظهر بصيص الأمل من أحد زملائه الذي أشار عليه باللجوء والاتصال بالوزير..
هاتفه وبصوت مرتبك، وفي النهاية قرأ مضمون الإعلان فسمع صراخاً وتهمة لم يكن يتوقعها “ماذا تعملون؟، أتريدون بيع البلاد” فتسمر الرجل مكانه وقال بصوت متقطع: هذا إعلان ولا دخل للإدارة بمضمونه كما تعرف معاليك.. فأمره بتغيير الصفحة “الإعلان” وطلب آمراً منه جمع الأصول وبليتات الطبع والحضور إلى مقر مجلس الوزراء الثامنة من صباح اليوم التالي .. فزادت شكوكه ومخاوفه وكاد قلبه أن يقفز من بين ضلوعه، فعل ما أمر به وظل على مكتبه يضرب أخماساً في أسداس وبدأت تراوده أسوأ الوساوس القهرية ومرت الساعات كأنها سنين ببطئها وقلقها ..سمع صوتا يطمئنه ويقول يا صاحبي أنت عملت واجبك ابتسم الآخر في وجه زميله وصديقه محمد جسار محسن وهز رأسه موافقا شاكراً له النصح القيم.
المشهد الرابع:
توجه المناوب السكرتير صباحاً وعيناه حمراوان وأفكاره ليست مرتبة فالإعلان كارثة لأنه يرسم الحدود وداخل المناطق اليمنية، بل في العمق اليمني.
كان يحدِّث نفسه وهو في طريقه إلى مجلس الوزراء كالمجنون خائفا مرتعدا وفور وصوله إلى بوابة المجلس استأذن الضابط المستلم بالدخول وقال “أنت علي المناوب في الجريدة”؟؟ ادخل .. دخل ورجلاه ترتجفان .. وصل المجلس والكل ينظر إليه فكان الوزير هو من استقبله وأخذ بيده وأبدى اعتذاره عن أسلوب الحديث الجاف معه أثناء مهاتفته .. قدمه إلى رئيس الحكومة رحمهما الله وهمس الوزير في أذن رئيس الحكومة فلم يسمع صاحبنا إلا شكراً.. حاول المغلوب على أمره الاستئذان فقال الوزير “لحظة، أخرج من جيبه ورقة وقال ارجع إلى المدير العام وناوله هذه.. منح المذكور شهادة تقدير وخمسين ألف ريال.. قرر أن يذهب إلى منزله لينام ولكل حادث حديث بعدها.
فامتنع النعاس عن جفونه وتوجه عصراً إلى الصحيفة.
المشهد الخامس:
دخل بوابة المؤسسة والكل ينظر إليه بسخرية، قابله الأستاذ علي العمراني في البوابة ومسك على لحيته وقال له: الله المستعان” وعدل “كوفيته الزنجباري” وتابع:” وصلت بك الجرأة أن تتسبب في حبس زملائك”، كانت كلماته تنزل على صاحبنا كالخناجر المسمومة، بدأ يشرح له وبصدق ما حدث فصعق الرجل وقال “لكن الخبر غير هذا الذي وصلني” .. وبدلاً من أن يتوجه إلى مكتب المدير العام دخل إلى غرفة الإعلانات، قام مدير الإعلانات والغضب ينتابه، وقال من فوره “يا رجال روح قد باعوا قبلنا “وبدأ يهذي بكلمات غير مفهومة فيما صاحبنا فاغر فاه لا ينبس ببنت شفة، وعرف أن الحكومة وجهت باحتجاز كافة الطاقم داخل الصحيفة من رئاسة التحرير والمدير العام بمن فيهم مسؤولي الشؤون المالية والإدارية والإعلانات، فخرج الرجل والاتهامات واللعنات تلاحقه، حتى في الشارع كان من يشاهد الرجل يقول “حبست زملاءك”، فيضطر إلى أن يشرح الموقف، وهم ما بين مصدق ومكذب الكل ينهش في موقفه وينعته بأقذع الألفاظ، بل وصل الأمر إلى اتهامه بأشياء سياسية مثل شيوعي و…. ” وأي شيء، يتخيله في عقله فما بالك بالواقع!!
وللقصة بقية في مهنة البحث عن المتاعب.