الثورة / إبراهیم الحكیم
لیست الجغرافیا وأسماء مدنھا وجبالھا وأشجارھا وتشابك وديانھا، وحدھا من تجسِّد وحدة وجود الیمن العضوية، ولا واحدية الجدود وموائل الأفخاذ والبطون والقبائل من تسبق متغیرات نظم الحكم والحدود.. التقالید المتوارثة مجتمعیا، تعد إحدى أھم مفردات ھويات الشعوب، والمأكولات والأطعمة عنوانھا الأبرز، وھي حال التقالید والمائدة الرمضانیة في الیمن، تكشف “المستور” سیاسیا، وتؤكد وحدة ما تشطَّر والتأم، من أنحاء الیمن.
مثل ھذه الموضوعات المھملة، لا مراجع لھا متخصصة مع الأسف، حتى الآن، وتناولھا يتطلَّب بحثا شخصیا أو ضیافات لدى أصدقاء من جمیع محافظات الیمن، وھذا ما حدث معي، حيث تطلَّب الأمر السؤال والتقصي من جیران ترجع مساقط رؤوسھم إلى أكبر عدد من محافظات البلاد، ولم أجد مشقة كبیرة في ذلك، فالعاصمة صنعاء تجمع كل الیمنیین.
كانت البداية قبل نحو 18 عاما، حین عزمت على تقصي خصوصیات التقالید والمائدة الرمضانیة في كل محافظة يمنیة، والأطباق المشتركة بینھا، بھدف كتابة مادة لصحیفة “الخلیج” الإماراتية، وبقیت أطوِّر المادة في كل تناولة جديدة، ولعل آخر ھذه التناولات، كتبتھا قبل عام، لوكالة عدن الإخبارية، لكن أھمیة الموضوع تفرض نفسھا.
يكتسب الموضوع أھمیة متجددة، من تصاعد موجة طمس المشترك بین الیمنیین شمالا وغربا وجنوبا وشرقا، واحتدام موجة إذكاء نعرات مناطقیة، بل وتجاوزھا إلى الترويج لـ “ھويات خاصة” لما يزعم دعاة الانفصال ھنا وھناك، أنه “شعب مستقل” ويسوِّق أنه “لیس يمنیا”، من دون إثبات مفردات ھذه “الھوية الخاصة” لھذا “الشعب المستقل”، أو أصل “عرقیته”.!
المستور سیاسیا
ھذا العام، ھلَّ ھلال رمضان شمالاً وجنوباً في المیقات نفسه أيضاً، وجنَّب السیاسیین حرج الاختلاف في الرؤية وتبعاته غیر المجازة إقلیمیاً ودولیاً من تحالف العدوان، بشأن وحدة الیمن، لكن تقالید استقبال رمضان ظلت كاشفاً للمستور سیاسیاً، وبخلاف مرام دعاة “الھويات وخصوصیتھا” في الیمن.
تتجاوز دلالات طقوس وتقالید استقبال وتوديع شھر رمضان، دلالة رؤية تؤكد الجغرافیا أنھا الھلال في المیقات نفسه، شمالاً وجنوباً، في أراضٍ واحدة بحسابات خطوط الطول والعرض، وتأبى القسمة على اثنین أو ثلاثة أو أربعة وبالطبع على ستة، بخلاف أھواء الساسة وطامحي الرئاسة.
طقوس مجتمعیة
ما تزال الطقوس والتقالید الاجتماعیة ذات الصلة بشھر رمضان، في صنعاء مثلھا في عدن، وفي المھرة وحضرموت، وتعز وتھامة، وصعدة وحجة، تكاد تكون متطابقة لولا فوارق طفیفة في لھجة الأھازيج وفي أسماء أطباق المائدة الرمضانیة، المتماثلة في المكونات وطريقة الطھي.
“مرحب .. مرحب يا رمضان .. يا شھر التوبة والغفران” .. أو “يا شھر التوبة والقرآن”، لا فرق في المحصلة، فھي أھازيج شعبیة ترحیبیة بشھر الصیام، واحتفالیة بأجوائه الحمیمة مجتمعیاً، والروحانية دينیاً، والاقتصادية سعیاً وأعمالاً وحرفاً ومھناً، تتَّسم بالنشاط.
تباين مسمَّیات
“المساي” أو “التمسیة” .. عادة الأطفال في استقبال شھر رمضان، قبل حلوله بأيام وبصورة أكبر لیلة غرة الشھر، ظلت حاضرة في جمیع المحافظات شمالاً وغرباً، جنوباً وشرقاً، مع اختلاف في لھجة أھازيج الأطفال المتوارثة واتفاقھا في المعاني.
“يا رمضان يا أبو الحماحم .. ادي لنا جغثة دراھم” .. مطلع واحد لأھازيج الأطفال سواء كانت إشارة عطاء الخیر في لفظ “إدي” أو “ھات” أو “جیب” أو “ھب”، .. إلخ، أو كانت إشارة مقدار العطاء الرمضاني الوفیر في لفظ “جغثة” أو “شغذة” أو “قرعة” دراھم، يظل المنشأ واحداً.
واحدة تظل غايات أدوات احتفاء الأطفال بنور “رمضان” القرين بالسمر في طقوس المجتمع الصعدي والصنعائي، الذماري والإبي، البیضاني والضالعي، اللحجي والعدني، التعزي والتھامي، المھري والحضرمي، أكانت التناصیر (شعل القش) أو النوارة أو الفوانیس.
مائدة متطابقة
كذلك المائدة الرمضانیة، تبدو متماثلة أينما اتجھت شمالا أو شرقا أو جنوبا أو غربا، وفي حین تتطابق في وجبات رئیسة مع فارق تسمیتھا مثل وجبة المعجنات المدھونة بالسمن والعسل وتسمیاتھا “بنت الصحن” و”سبايا” و”بنت الشیخ” و”بنت السلطان”، ..إلخ.
الحال نفسھا مع وجبة اللبن المحوج أو “الحقین” مع “اللحوح” وعصارة الطماطم والبقدونس والكمون والصعتر والفلفل، تعرف في غالبیة المناطق باسم “الشفوت”، وفي مناطق أخرى “الملبن” وفي مناطق أخرى “اللبنیة”، وفي أقصى الجنوب، في محافظة سقطرى “الروب”.
وبالمثل، وجبة الأرز وطباخته المتنوعة، ومسمیاته المتباينة: مضغوط، زربیان، مندي، كبسة،.. إلخ، يظل طبقاً رئیساً مشتركاً في المائدة الرمضانية، بطول وعرض الیمن، مع تباينات طفیفة في طريقة الطباخة، وصبغات الألوان، وإضافات النكھة: شعیرية، زبیب، .. إلخ.
الإدام ھو الآخر (البطاطس) وإضافاته من الخضار: بامیة، وفاصولیا، كوسة،.. إلخ، يظل طبقاً مشتركاً، كما ھي الحال مع التمر بأنواعه: بلح ورطب و”مركت” أو “دعظظ” في سقطرى، .. إلخ مسمیاته، وطريقة تناوله: حبات أو مع الخبز، أو مھروساً (تمرية) أو مفتوتاً (فتة تمر).
وبالطبع وجبة “العصید” أو “العصیدة” الوجبة المشتركة المتطابقة، ومثلھا وجبة الھريش (القمح المجروش) المتطابقة مع فارق مشترك أيضاً بداعي التنويع للمذاق، بإضافة المرق، أو العسل أو السمن. تغدو ھاتان الوجبتان أشبه ببطاقة تعريف لسكان جنوب الجزيرة العربیة.
بالانتقال إلى الخبز، يبرز ثراء أنواعه سمة بارزة مشتركة، بدءاً من أنواع أداة إنضاجه (خبز التنور، وخبز الطاوة) وأنواع مكونات عجینة من الدقیق والقمح والشعیر والذرة والدخن وتبعاً مسمیاته: رشوش، ملوح، ملوج، كبان، القفوع، والجحین، والسقلة، والكور في سقطرى،.. إلخ.
الشربة أيضاً أو ما يسمى بالفصحى “الحساء”، شاھد آخر على تطابق المنشأ، بحضورھا الرئیس في الموائد شمالا وشرقا، غربا وجنوبا، بمختلف أنواع طباختھا وأنواع مكوناتھا، مثلھا مثل المشروبات الشعبیة، ومراً، والشاي بالحلیب واللبن.
الساخنة قھوة “البن” و”القشر”، مسكراً ضاف إلى ما سلف من مأكولات شعبیة متوارثة، تحضر بصورة بارزة في الموائد الرمضانية للمحافظات جمیعھا، مع اختلاف المسمیات، الوجبات المقلیة : السمبوسة والباجیة والطعمیة (الفلافل)،.. إلخ المأكولات الوافدة، التي حظیت بإضافات مشتركة في تنويع المكونات.
يبقى الاستثناء محصوراً في وجبات بعینھا يحتكم حضورھا الیومي والشھري، إلى تنوع البیئة (جبلیة وساحلیة وصحراوية وسھلیة) وتبعاً لتنوع المناخ، ويبرز بصورة أكبر في الأسماك وطرق طباختھا: موفى (مشوياً) وصانونة (طباخة) وناشف (مقلي) ومقرمش (بروست)، .. إلخ.
تقالید متوارثة
كان ذلك ما يخص إحدى مفردات ھوية الشعوب (طعامھا)، الحال ذاتھا مع العادات والتقاليد الرمضانية التي تبدو متطابقة على نحو يتجاوز العبادات المقترنة بشھر رمضان، إلى الأجواء المجتمعیة، المتشحة بطابع التزاور وجلسات السمر مع الأقارب والأصدقاء والجیران.
ومع أن الطقوس المجتمعیة ذات الطباع الديني العبادي، تتطابق في ازدحام المساجد بالمصلین في الصلوات الخمس، بصورة فارقة عن باقي أيام السنة، وفي صلاة التراويح، وفي أنشطة ما بین الصلوات من قراءة قرآن وأذكار وتسابیح ومحاضرات، إلا أن ثمة خصوصیة في قراءة القرآن.
تشترك المجتمعات المحلیة في مختلف أنحاء البلاد في الحرص على قراءة القرآن وتلاوته خلال شھر رمضان، والتنافس في عدد مرات ختم القرآن، لكن حضرموت تنفرد بتقلید “الخواتیم” التي تجدول قراءة أجزاء القرآن على المساجد، تلاوة وتدبراً للمعاني، ولأكثر من ختمة خلال الشهر.
هوية مشتركة
ما سلف، واقع حیاتي، لا يمكن تجاوزه أو إغفاله، وبالطبع يصعب التشكیك فیه أو إنكاره، وھو يمثل مفردات حیة لھوية مجتمعیة وثقافیة واحدة، في منبعھا وفلسفة منشئھا وغاية طقوسھا وعاداتھا، حداً جعلھا تقالید متوارثة اجتماعیاً، جیلا بعد جیل، من دون أي تدخل سیاسي أو اقتصادي أو مذھبي ديني.
ھذا ما يقر به دارسو علم الاجتماع والباحثون في التراث أو علم الأنثروبولوجيا، وھو نفسه ما يتصادم مع ما ينبري بعض السیاسیین إلى تسويقه وتعمیمه عن “تعدد الھويات” و”احترام الخصوصیات”، لما يذھبون بإصرار إلى تسمیته “شعوباً” في سیاق المطالبة بدول مستقلة لھا.
لكن الواقع، لا يتوافق مع الأھواء السیاسیة، وعلى العكس يأتي في حدث – غالباً – حالة معظم نواحيه على الضد أو النقیض من مرامیھا، ما يتصادم وصراع بين مكنون كامن لكیان ضارب في العمق والتجذر، وتكوين راد له أن يكون كیانا كائناً، رغم افتقاده العمق والجذور الممكنة للتخلِّق والنمو.