الفتوى والمفتي
أحمد يحيى الديلمي
عندما التحقت بالإذاعة عام 1977م كان برنامج فتاوى أكثر البرامج شعبية وتفاعلاً من المستمعين داخل وخارج اليمن ، فلقد كانت الرسائل والأسئلة تتجاوز المئات في الشهر الواحد من داخل وخارج اليمن ، حيث توفرت له عوامل النجاح والجماهيرية بفعل ثلاثة أشياء :
الأول : ذهنية المعد المرحوم أحمد العماري واتساع ثقافته الدينية .
الثاني : حيوية صوت المقدم وإلمامه باللغة العربية .
الثالث : وهذا هو الأهم ثقافة الانفتاح والآفاق الواسعة للإلمام بعلوم الشرع والقدرة على استنباط الأحكام برؤية إيمانية خالية من الحساسية أو التعصب المطلق لوجهة نظر معينة ، هذه الثقافة لمستها بنفسي من خلال العلامة الحجة المرحوم عبدالله عباس المؤيد -طيب الله ثراه- فلقد أحضرت إليه مدرساً مصرياً بعد أن قرأ السؤال سأله: ما مذهبك استغربت وسألته : لماذا هل معرفة المذهب ضروري ، أجاب وهو يضحك : لا يا ابني سأجيبه بوجهة نظر مذهبه لكي أخفف عليه عناء البحث فأحكام الله ثابتة لا تتغير ولا تتبدل وأن تعددت المذاهب .
وفي هذا الجانب، أكد أكثر من شخص أن العلامة الحُجة المجدد مجد الدين المؤيدي عليه السلام كان يسير على نفس النهج خاصة عندما استقر به المطاف في نجران وقلده عدد من علماء صعدة وصنعاء، بحسب وصف العلامة الحُجة أحمد محمد زبارة مفتي الجمهورية الأسبق -طيب الله ثراه- فإن الأسلوب نهج ثابت تميز به المذهب الزيدي لأنه ترك باب الاجتهاد مفتوحاً ، إذ جعله الإمام زيد بن علي -عليه السلام- من المهام الإلزامية الواجبة على كل عالم يبلغ مرحلة الاجتهاد وحرم عليه التقليد وترك الخيار مفتوحاً أمام العلماء المجتهدين لإصدار الفتاوى بما يلبي احتياجات الزمن الذي يكتنفهم ) انتهى كلام العلامة زبارة “رحمة الله عليه” .
من النقطة السابقة نستدل على عظمة منهج الإمام زيد وخَلفه الإمام المجدد الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين -عليه السلام- لأنها مثلت رفضاً مطلقاً للتعصب والغلو والتطرف أو إجبار الأتباع على التقليد لمفاهيم تجاوزها الزمن ، وهذا أساس الحيوية ومصدر الثراء الفكري ، ففي كل قرن ظهر أكثر من إمام مجدد كانت له إضافات واضحة إلى روح المنهج مع إقرار فكرة القبول بالآخر المسلم المخالف القابع في مذهب آخر والتعاطي معه بثقة تامة بالنفس، لأن العلماء الأجلاء في ظل قاعدة هامة جعلت إثبات موقف المذهب من أي مسألة مسبوقاً بآراء المذاهب الأخرى ومناقشة أدلة كل فريق بذهنية المُنصف الباحث عن الحقيقة ، هذه القاعدة الجوهرية جعلت الدكتور صبحي في كتابه عن الزيدية يصفه بمذهب التحدي .
ومن نفس القاعدة يمكننا معرفة اهتمام غير اليمنيين بالبرنامج وتدفق مئات الرسائل الطالبة للفتوى أو التواصل بالتلفون مع البرامج التفاعلية مثل “الدين والحياة” الذي كان يقدمه المرحوم العلامة يحيى ناصر الدرة “طيب الله ثراه” في هذا الجانب قال سائل في رسالة قرأتها مع الأستاذ العماري إن فتاوى العلماء اليمنيين تبعث الطمأنينة في النفوس ، لأن المفتي يحتكم إلى العقل والمنطق ، مما يعطي الفتوى بُعداً خاصاً يوسع المدارك ويغذي روافد الفهم عند السائل ، وكما سمعت من الأخ عبدالوهاب الذاري الذي أسندت إليه مهمة تقديم البرنامج أنه تلقى عدداً من الرسائل كلها من دول الجوار عبرت عن الاحتجاج الصارخ على توقف البرنامج وطالبت بإعادته كونه نافذة هامة لخدمة الدين ، لعبت دوراً هاماً في تبصير الناس بأمور دينهم وجسدت فهماً راقياً لأصول ومرجعيات نفس الثقافة ، هذه المعلومة تكشف فداحة ووحشية الدور السعودي المغلف بدعوى حماية السنة والأخطاء الجسيمة والخطايا الكبيرة للأطراف المحلية التي سارت في ركاب الدور المشبوه للمؤامرة الخطيرة على الثقافة والهوية الوطنية التي ترسبت في وجدان اليمنيين من مئات السنين وقامت دوماً على إعمال العقل وتنمية مستويات الوعي والالتزام بأحكام وتعاليم الدين بأفق إيماني صادق مبعثه قوة الإيمان والخوف من الخالق سبحانه وتعالى مقابل الفتاوى الزائفة التي نفذت رغبات الحاكم وتحولت إلى معول للهدم والتصدي لكل مخالف.
الموضوع متشعب أعد باستكماله في موضوع لاحق إن شاء الله ، والله من وراء القصد ..