لكي لا ننسى (2) مآسي الغفول
أحمد يحيى الديلمي
قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) استناداً إلى التوجيه الإلهي واضح الدلالة نستغل الشهر الفضيل للتذكير بالممارسات المشبوهة التي أخلت بالتوازن وأضعفت مظاهر التآلف والتسامح بين اليمنيين في إطار الاعتراف المتبادل بين المذاهب على قاعدة قبول كل طرف بالآخر والاحتكام إلى الجامع الكلي وهو الإسلام بتعاليمه وقيمه وأخلاقه بأفقها الواضح الذي يحث المسلمين على الوحدة ويقر الاختلاف الواعي الكفيل بإثبات الحقيقة لذاتها من خلال الإبحار في دلالات ومقاصد النصوص ، وأن يظل في ذات الإطار فلا يفسد الود ولا يتحول إلى خلاف تنقلب معه المذاهب من مدارس للتنوير وإثراء الفكر إلى متارس لإثارة الفتن والصراعات العبثية التي تؤجج الخلاف وتدمي القلوب .
بالعودة إلى سياق الموضوع هناك الكثير من أدلة الإثبات على الدور المشبوه للحركة الوهابية والنظام السعودي الذي استهدف الواقع اليمني بأفق انتهازي طابعه الكراهية ومبعثه الإحساس بالفراغ الفكري والشعور بالنقص إزاء موروث اليمن الحضاري المتراكم من أقدم العصور والثراء الفكري الذي تزخر به المكتبة اليمنية المشتمل على اجتهادات كبار علماء وفقهاء اليمن .
للآسف هذا التوجه المليئ بالأحقاد والعداوات التاريخية وجد طريقه إلى الواقع اليمني على يد تيار سياسي بذاته أخلص في ولائه للنظام السعودي وأعتنق الفكر الوهابي وسعى إلى توطينه في اليمن ليكون البديل للمذاهب الممتدة جذورها إلى عدة قرون خلت، وفي سبيل تحقيق هذه الغاية وجه سهام العداء والرفض المطلق باتجاه أتباع المذهب الزيدي امتثالاً لرؤية النظام السعودي ومراجع الوهابية الذين يعتبرون أتباع الزيدية روافض متهمون بالضلالة والردة ، ما جعل الاستهداف واضحاً عبر إغلاق مراكز العلم وحلقات الدرس كما أسلفنا، ومحاولة إقصاء وتهميش العلماء الأجلاء ومنعهم من التدريس والوعظ والإرشاد من خلال الاستحواذ على المساجد .
في هذا السياق عندما قوبلت مثل هذه الأعمال من اليمنيين بالرفض تم استدراج عدد كبير من علماء الشافعية والصوفية إلى حلبات المواجهة بدعوى الانتصار للسُنَّة والذود عن الصحابة وزوجات الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم استناداً إلى مقولات ساذجة وافتراءات كاذبة تتهم الزيود بسب الصحابة وأمهات المؤمنين ، وعندما لم تفلح هذه الخطة الآثمة تم التأثير على رأس النظام وبعض أركان حكمه خاصة العسكريين وجرهم إلى ميادين المواجهة وإضفاء الطابع الرسمي على كل خطوات الاستهداف، فأخذ صفة الفعل الممنهج بعد أن تمت إثارة حفيظة النظام بتوظيف قواعد ثابتة في أصول المنهج بشكل انتهازي مغرض مثَّل قاعدة إقرار الخروج على الحاكم الظالم وما تمثله من خطورة على النظام ، وهناك رؤية تمثل شاهد حال في هذا الجانب مفادها أن جلسة مقيل جمعت الرئيس الأسبق مع قيادات إصلاحية، وفيما كان الرجل يُعبِّر بتلقائية على الهوية والثقافة التي نشأ وتربى عليها قال (أنا زيدي وسأظل متمسكاً بزيديتي إلى آخر عمري ) وجد الجلساء الفرصة سانحة لدحض الاعتقاد فرد أحدهم ( لكن الزيود يرفضونك وهم يتعاطون معك بمبدأ التقية ويعتقدون أنك غير شرعي غاصب للسلطة لأن الإمامة في أدبيات المذهب حق إلهي لمن يتناسل من البطنين وهذا ما يسعى إليه الحوثي من حركته في صعدة ).
المعلومة أفزعت الرجل، نزلت على رأسه مثل الصاعقة، فبدأ يسأل عن معنى البطنين ومدى ثبوتها في أدبيات المذهب، استنفر حتى وسائل الإعلام وهو ما جعل المرحوم الدكتور المرتضى المحطوري يتعاطى مع الموضوع بسخرية لاذعة عندما سأله المذيع عن معنى البطنين ، أجاب وهو يضحك (قديه في النهدين) لكن الرئيس ظل في حالة استنفار لم يستقر له قرار خاصة بعد أن عرف أن العبارة تعني الحسنين عليهما السلام ، فأخذ الاستهداف الطابع الرسمي واستغل نفس التيار حالة الغضب لإذكاء العداء وإشعال نار الفتنة من خلال التأجيج وتحريض الدولة ضد أتباع المذهب والتركيز بشكل خاص على حركة الشهيد القائد حسين بدرالدين الحوثي عليه السلام واستغلال الضوء الأخضر من النظام السعودي في بلورة الأطر وتسويق المبررات التي تشرعن للحرب الأولى في صعدة .
المعلومة التي أسلفت تؤكد أن عملية الاستهداف تمت في زمن مبكر خلافاً للمعلومات التي ترسخت في أذهان الكثيرين بأن ما حدث يعود إلى ما بعد اندلاع الحرب في صعدة، وهو ما يكشف الدور الخفي المشترك بين النظام السعودي ونفس التيار السياسي، وتتأكد المعلومة من خلال عدة شواهد تعاقبت بعد ذلك أبرزها الاستعانة بجماعات القاعدة والسلفية الجهادية ومركز دماج لاستئصال المذهب الزيدي من أهم معاقله “صعدة” وفقاً للخطة المحكمة التي أعدها النظام السعودي وبدأت بإنشاء دار الحديث في دماج وإنفاق مبالغ طائلة عليه “المركز” واستقدام الدراسين فيه من أنحاء العالم وصولاً إلى إثارة الفتنة وإشعال فتيل الحرب والإنفاق السخي على ذلك المركز ، وقبل ذلك على ما كان يسمى بالمعاهد العلمية التي حاولت اختراق التعليم وفصله إلى فصيلين: الأول ديني كما اعتقد أولئك الذين أنشأوه، والثاني غير ديني كما كان يروج أولئك الذين أقاموا المعاهد العلمية ونشروها في كل مناطق اليمن قبل الوحدة ، وكاد التيار يصل إلى المحافظات الجنوبية بعد الوحدة إلا أن خوف النظام من زيادة التوجه وفكرة الانقلاب عليه دعاه إلى إنهاء هذا النوع من التعليم وإعادة توحيده لتبقى المدارس هي الأساس ، هذه الخطوة تمت بعد أن تم زعزعة الهوية الوطنية وترسيخ مفاهيم متطرفة تدعو إلى الغلو والتشدد في أذهان من التحقوا بالمعاهد العلمية وهي المعضلة التي نعاني منها إلى اليوم ، لأنها في النهاية استهدفت كل المذاهب الموجودة في اليمن عدا الوهابية ، وهكذا نجد أن استهداف المذهب الزيدي لم يكن إلا مقدمة لاستهداف بقية المذاهب ، كما قال الشيخ المرحوم أمين علي محسن باشا حيث قال (إحنا ما عاد نشتي إلا قلبة واحدة لأننا بنضم أما أنتو في المناطق الشمالية فأنتم بحاجة إلى خطوتين الأولى تضموا والثانية تتبعوا المذهب الوهابي) هذه المعلومة كان اليمنيون جميعاً يعرفونها وعلى يقين من مغزى ذلك التوجه وأبعاده وسياسته ، إلا أن النظام آنذاك كان مهتماً فقط بالكرسي وكل ما يتعلق به ومستعد لأن يقبل بالشيطان إن هو وافقه على البقاء في الكرسي كما يريد، هذا الكلام لا نقوله من فراغ ولكنه معروف وثابت وراسخ في أذهان كل اليمنيين، وهناك أمور كثيرة سنتحدث عنها في الحلقة القادمة إن شاء الله .. والله من وراء القصد ..