كتب/ خليل المعلمي
قال الشاعر:
تَغَرَّبْ عَن الأَوْطَانِ في طَلَبِ الْعُلى
وَسَافِرْ فَفِي الأَسْفَارِ خَمْسُ فَوَائِدِ:
تَفَرُّجُ هَمٍّ، وَاكْتِسابُ مَعِيشَةٍ،
وَعِلْمٌ، وَآدَابٌ، وَصُحْبَةُ مَاجِد
للمدن قصص وذكريات في نفوس وعقول زائريها، فلكل مدينة خصائصها ومميزاتها وأجواؤها وأماكنها ومتنزهاتها وجماليتها وآثارها وحضارتها وذكرياتها، تأسر العقول وتأخذ الألباب وتبقي أثرها في النفوس، ولها أيضاً رجالاتها وأدباؤها ومثقفوها وساستها.
وقد اعتاد الأدباء والمفكرون والمثقفون أثناء زياراتهم وأسفارهم وتنقلاتهم بين الدول والمدن على أن يسجلوا انطباعاتهم ولحظات استمتاعهم وجولاتهم في هذه المدن.
يأخذنا الكاتب جمال حيدر في كتابه “حكايات مدن.. بين الهامش والمتن” في دهاليز عدد من المدن العربية والغربية والتي زارها خلال فترات زمنية مختلفة، مقدماً لنا وصفاً لمعالمها وطريقة حياة أهلها وأناسها، وعاداتهم وتقاليدهم، نقش فيها انطباعاته وسجل مشاهداته، من خلال ذلك ينقل مخيلة القارئ إلى التجول في هذه المدن ويجذبه بلغته وصياغته.
فللمدن مفردات معنية بها، مفردات تحمل رموزاً وإشارات تشي بقيمتها الإنسانية والتاريخية وتقاطعها مع الحاضر، وما من مدينة لا توجد فيها دلالات تحمل ذاتها وتعكس نسقها، والمدن دون إشارات هي عمياء لا نرى ما يجي في جوفها.
عشق المدن
في مقدمة الكتاب الصادر في العام 2013م، يصف المؤلف حالته مع المدن قائلاً: “ورغم أن المدن بعثرتني في كل الاتجاهات غير أن لي في كل سماء مدينة نجمة تدلني على دروبها باعتبارها البوصلة التي تشير صوب جهة العشق عشق المدن”، ويتابع: “اقطن مدناً وأهجر أخرى إلا أن اللهفة هي ذاتها حين التقيتها ثانية، سرٌ خفي يشدني إليها، سر مختزن بين طيات الذاكرة، يتأجج مع كل لقاء.”
ورغم زياراته المتكررة إلى الكثير من مدن العالم، تظل مدينة بغداد هي مدينته المفضلة، فهي مسقط رأسه ومكان مولده، ترعرع فيها وله فيها ذكريات، فكل مدينة يزورها تعود به الذاكرة إلى مدينته التي عاش فيها أيام الطفولة والمراهقة والشباب.
يقول في هذا الصدد: “أينما سافرت أقارن معالم المدن بمدينتي، ألتبسها بالمدن الجديدة، إنه وهم المخيلة، أو وهم الذاكرة، أو كأنه اعتذار من مكان غادرته على عجل وضعت أشيائي في حقيبتي، لكن ملاعب طفولتي وذكريات صباي ووجوه أهلي واصدقائي ما زالت هناك”.
ويضيف: “ثمة مسافة زمنية ليست بالقصيرة بين رحلاتي المدونة والمغلفة بسمات الدهشة والاكتشاف والبحث والرؤية المغايرة جمعتها معاً تحت عنوان -اكتشاف الذات عبر اكتشاف المدن-، بعض تفاصيل تلك الرحلات نشرت في صحف ومجلات عربية، بينما حرصت أن يظل البعض الآخر بكراً خاصاً بالكتاب.
بغداد.. العودة إلى المكان الأول
بدأ المؤلف بمدينته الخاصة ومعشوقته التي تسكنه بكل ذكريات الطفولة حتى الشباب، وهي مدينة “بغداد”، كتب عنها تحت عنوان “العودة إلى المكان الأول”، وقد أصبحت المدينة المختلفة بعد الأحداث التي مرت بالعراق وبالمنطقة بعد العام 2003م، والتغيرات التي لحقت بالمدن العراقية خلال فترة الحصار من بداية التسعينيات.
جاءت عباراته وهو يصف المدينة بحرقة وألم عما أصاب المدينة في معالمها وشوارعها وأهلها وما طالها من تغيير وتدمير وخراب، ولم تصبح تلك المدينة التي كان يقصدها العرب والعجم من مختلف دول العالم.
مما قاله: “هذه بغداد إذا بعد كل أعوام الفراق، مدينة كأنها خرجت تواً من العاصفة وبدت خربة، الخراب يتوزع في كل مكان ومشاهد الدمار تلف تاريخ المدينة وحاضرها المقذوف في الفراغ، المنازل شاخت الوجوه، شاخت الأشجار، لم تعد كما هي حين تركتها، لم أعد أعرفها أو تعرفني، شاخت في الأعوام التي تركتها، تلك التي توقف فيها الزمن ولكن كيف تشيخ هذه الأشياء حين يتوقف الزمن”.
سرد المؤلف ما شاهده منذ وصوله إلى بغداد بعد فراق دام سنوات والتغييرات التي طالت أهم المرافق والشوارع والمعالم في المدينة، وضعنا أمام صورة جديدة من الحياة في مدينة بغداد بعد عودته في العام 2006م، تفاصيل المدينة الجديدة التي شاهدها أصبحت مختلفة عن ذكرياته، كل شيء تغير حتى حركة الناس في الأسواق، الشوارع، المباني، البشر، الحركة السياسية وغير ذلك.
أثينا.. أيقونة الشرق
بطريقة بارعة وجاذبة بدأ المؤلف الحديث عن مدينة “أثينا” عاصمة اليونان، اعتبرها شرقية الانتماء رغم انتمائها الجغرافي إلى الغرب.. وذلك من خلال العلاقات الاجتماعية الحميمية والترابط الأسري بين سكان المدينة، ومن خلال سرده وثَّق لنا احتفالات المدينة بمرور أربعين قرناً على كونها عاصمة، وقد صادف إقامة هذه الاحتفالات أثناء زيارته للمدينة، لتغدو أقدم عاصمة أوروبية، شارحاً تاريخ المدينة القديم والحديث، ومن ثم يأخذنا في أسبار المدينة وأزقتها وشوارعها ومعالمها التاريخية ومواقعها الأثرية.
يقول المؤلف عن الناس: “اليوناني المتجذر روحياً محاصر ذهنياً بمثلث لأعداد محتملين أضلاع المثلث تتمثل بالجار الشرقي- تركيا المسلمة، والجار الغربي- إيطاليا الكاثوليكية، واليهود، وثمة الكثير من الأمثال الشعبية والمواعظ تحذر منهم، فالعداء للأتراك كان نتيجة احتلالهم اليونان وإساءة معاملة شعبه، أما إيطاليا الكاثوليكية فهي العدو التاريخي للأرثوذكسية -الديانة الرسمية لليونان- وما يتعلق باليهود فهم قتلة المسيح وفقاً لعقيدة اليوناني المتشدد”.
ويتابع: “الشعر هو رئة اليونانيين التي يتنفسون منها الحياة، الشعر اليوناني المعاصر هو مزيج من التعاليم الأرثوذكسية والحكمة الشعبية وعناصر الطبيعة، إضافة إلى الوعي الفكري ضمن هذه الجذور تنمو القصيدة اليونانية الحديثة التي شذبت منذ مطلع القرن الماضي من تركة اللغة الكلاسيكية وثقل كاهلها على الشعر.”
قصر الحمراء.. بهاء الماضي
إلى اسبانيا يأخذنا المؤلف إلى مدينة غرناطة وقد عنون هذا الجزء بـ”قصر الحمراء.. بهاء الماضي”، ومما قاله: “الأندلس.. الوهج الذي قاد اسبانيا على انفصام شخصيتها النصف الشمالي من البلاد يتطلع نحو أوروبا الصناعية المتطورة، وهو بذلك يزحف إليها، فيما يبقى الجنوب تحت سطوة الشمس والفرح والبحر والايقاعات الراقصة الممزوجة بالدم الأفريقي الساخن، فالأندلس معبأة بالحياة ومولعة بالبهجة ومتصفة بالود والألفة والحميمية.”
ويتابع: “خمسة قرون مضت على ذلك الوداع الدامي، رحل العرب عن الأندلس إلا أنهم لم يرحلوا عنها تماماً.. مازالوا فاعلين في ثنايا الزمن الماثل الذي يحمل عبق التاريخ الطويل فكل شيء في غرناطة يشي بآثار ذلك التاريخ وتفاصيله الموزعة بين سحر المكان ولغزه المحيِّر.”
دمشق.. مذاق التاريخ
من الغرب يعود بنا المؤلف إلى الشرق، حيث يضعنا أمام صورة دمشق المدينة التي مر عليها الأشوريون والكلدانيون والفرس والاسكندر المقدوني والسلوقيون والبطالسة والأغريق والرومان والغساسنة والفاطميين والطولونيون والأخشيديون والمماليك والأتراك والفرنسيون وحتى العهد الحديث، كما ينقلنا إلى أهم معالم المدينة ومنها المدينة القديمة.
يقول المؤلف عن المدينة: “التجول في أزقة وحارات دمشق القديمة تجربة نادرة إذ سرعان ما تنتقل إلى زمن مضى، لكن شذى عطره ما زال يفوح بين الشوارع الضيقة والملتوية والمتلاصقة التي تمنح العابرين الظل والألفة ولتلك الأزقة سحر خاص، وكأنها قطعة انفصلت عن زمنها لتحيا زمننا الماثل ولدمشق القديمة علاقة حميمية بالياسمين، حيث تتدلى أغصانه البيضاء فوق أسوار بيوت المدينة القديمة، مانحاً ذلك الدروب أريجاً يضوع في نسمات الهواء”.
مومباي.. متاهة الألوان
إلى آسيا يأخذنا المؤلف إلى مدينة مومباي، يكتب عن تاريخها وأهلها وأهميتها الاقتصادية للهنود، يتحدث عن المدينة وهو يصف الزحام فيها قائلاً: “ولكن من أين ستبدأ في سيرك كبير متعدد الألوان والأشكال؟ مومباي المتاهة الأوسع في تجارب سفري، واللعبة التي يصعب حقاً اتقانها مهما بلغت شطارتي.”
قدم لنا المؤلف بانوراما رائعة عن المدينة ثقافياً وسياحياً واقتصاديا، تحدث عن فندق تاج محل الذي يعتبر من أهم معالم المدينة وتاريخ إنشائه، كما تطرق إلى تفاصيل كثيرة من حياة سكان مومباي، وأشار إلى الأهمية التي تكتسبها مومباي الفنية والسينمائية حيث تتوجد فيها مدينة “بوليوود” وهي مدينة داخل مدينة تنتج ما يقارب الألف فيلم سنوياً.”
وتعج بالآلاف من الممثلين والتقنيين والموظفين حيث تحتل المرتبة الأولى في العالم من حيث الإنتاج السينمائي.
الدار البيضاء.. الأزمنة الحالمة
يقول المؤلف: “تقودنا الخطوة نحو الدار البيضاء.. تلك المدينة العجيبة التي تفتح بوابتها كعين ساحرة نلج جسدها ونرتقي سلالمها ونشم روائحها، إنها المدينة الحالمة الطائشة المفعمة بالبراءة تضمنا إليها لكنها لا تمنحنا نفسها بسهولة، تبتسم ما تلبث أن تختفي بين طعم الأزمنة العريقة الماثلة في كل تفاصيل حياتها، إذ ليس من مهرب سوى الذوبان في تلك الأزمنة.”
ويضيف: “الدار البيضاء هي مدينة التفاصيل بجدارة ودونها تظل ناقصة ومشوشة حيث تقذفنا إلى ساحات وأزقة وأسواق وشرفات مرصوفة على واجهات الأبنية، إنها قاموس ضخم من التفاصيل تعود صفحاته إلى عشرات القرون تعتبر ثالث مدينة في الشمال الأفريقي والأكثر حضوراً في الثقافة الأوروبية سواء في الأدب أو الفن.
باريس.. فتنة متجددة
ويصف المؤلف مدينة باريس بالقول: “باريس مدينة النور بأكثر من معنى حظيت بأكبر قدر من القصائد والروايات والمقطوعات الموسيقية والأغاني، قال عنها الروائي الأمريكي “ارنست همنغواي” إنها عيد متجدد ودائم يقع بين الفتنة والعبث في آن، وتربض في الذاكرة منذ الوهلة الأولى مهما تغيرت الأزمان وتمايزت الأحداث.”
في باريس يتنقل بنا المؤلف من مزار إلى آخر ومن معلم إلى آخر، ومن شارع إلى آخر، وما أكثر المعالم والمواقع التاريخية والسياحية والشوارع الشهيرة والأحياء التجارية في هذه المدينة، (برج ايفل، متحف اللوفر، شارع الشانزليزيه، المقاهي، المراكز الثقافية، وغيرها)، متطرقاً إلى تاريخ المدينة والأحداث التي مرت بها حتى الوقت الحاضر.
القاهرة.. سماء بألف مئذنة
إلى مدينة القاهرة يأخذنا المؤلف ويغوص بنا في تفاصيلها الحياتية والمعمارية وقد عنون هذا الجزء بـ”القاهرة.. سماء بألف مئذنة”، يقول عن المدينة: “عصور عديدة تتراكم وتتداخل في القاهرة، غير أن التاريخ يبدو هو المهيمن ليمنح وجه المدينة سماتها الأهم ابتداء من آثار الفراعنة في الجيزة وبقايا الآثار القبطية مروراً بآثار الحقب الإسلامية المختلفة، إذ تحلق في سمائها ألف مئذنة تحاكي الأعوام الطويلة التي عاشتها، وصفها العلامة ابن خلدون حين زارها بأنها مدينة المدن.
يقول المؤلف: “ليس هناك في العالم مدينة مثل القاهرة بإمكانها أن تخطف روحك بسحرها وتألقها، بعدما شيدت لنفسها عالماً خاصاً بها يمتاز بالجمال والخفة والبساطة، فما زالت أحياء القاهرة الشعبية القديمة في حي الحسين والسيدة زينب وباب الخلق وخان الخليلي والدرب الأحمر وبولاق والغورية وغيرها، بمثابة حصون ضاربة بجذورها في أعماق التاريخ من تلك الأحياء العتيقة جمعت القاهرة تاريخها وسطرته في بطون الكتب.”