وجدي الأهدل
القالب الروائي الذي نستخدمه حالياً مستورد من أوروبا، ولذا يجد الروائي العربي نفسه محصوراً ضمن هذا القالب الجاهز، ولا يجد مفراً من أن يشتغل فقط على المضمون.
هي مهمة شديدة الصعوبة أن يتمكن الروائيون العرب من ابتكار شكل روائي جديد و»جيد» يمثل حضارتهم وتراثهم الأدبي والديني ويحمل بصمة شخصيتهم الخاصة.
منذ ظهور كتاب «ألف ليلة وليلة» في القرن الثالث الهجري وحتى اليوم لم يظهر عمل أدبي عربي بمستواه من الناحية الجمالية والفنية، ولا أحرز أي أديب عربي تفوقاً أكبر في قوة الخيال وجاذبية الشخصيات.
أُفتتن عباقرة الأدب الغربي بهذا الكتاب وتأثروا به، ومنهم من اقتبس منه، وقائمة الأدباء الذين اغترفوا من ينابيعه طويلة جداً، وتبدأ من شكسبير في مسرحيته «العبرة بالنهاية» ولا تنتهي بباولو كويلو في روايته التي باعت ملايين النسخ «الخيميائي».
إن ميلاد هذا السفر الأدبي الخالد في أوج ازدهار الحضارة العربية الإسلامية كان ينبئ بأن الأدب الخيالي سيتطور لاحقاً، وأنه من جيل أدبي إلى آخر ستظهر أعمال أكثر إشراقاً وجمالاً.. ولكن هذا التوقع خاب تماماً، وظل الكتاب خامل الذكر ومتداولاً على نطاق ضيق، وربما الأمر الأكثر شناعة أن النخبة الثقافية العربية خلال الألف سنة الماضية ازدرتْ هذا العمل، ولم تقبل الاعتراف به كعمل أدبي على قدر هائل من العبقرية ويؤسس لفن سردي عظيم وخلاق.
في «ألف ليلة وليلة» نجد القالب الروائي العبقري الذي ابتكره العرب قبل ألف عام، وهو في رأيي أكثر مرونة من القالب الروائي الأوروبي، وهو محفز أكثر على التخيل والابتكار.
نجد في «رسالة الغفران» لأبي العلاء المعري صيغة روائية أصيلة وغير مسبوقة، وهو توصل عفوياً – دون تنظير نقدي وتقعر فكري- إلى أن جوهر الرواية هو قول حقيقة جديدة هي الحقيقة الخيالية، والكشف عن عالم جديد هو من صنع العقل المبدع الذي لا تلزمه شروط الواقع ولا تقيده الأفكار الجاهزة.
«الرواية» في مبتداها ومنتهاها هي هذا الشيء الطازج الذي ندرك على الفور أنه مختلف عن المنتجات الأخرى المعلبة أو المُجمَّدة.
إن الشغف العالمي بقراءة الرواية إنما يأتي من كونها حقيقة ثالثة.. فهي ليست حقيقة علمية، كما أنها ليست حقيقة دينية، وإنما هي وهم جميل يسيطر على مشاعرنا إلى درجة اليقين بأنها حقيقة.. وهذه هي معجزة الفن الكبرى وسر تغلغله في وجدان الناس.
الحكاية داخل الحكاية، وتسلسل القصص – لا الأحداث- كعنقود من العنب، مع السيطرة على الجو العام للعمل ككل، خلقتْ الشكل الفني الفريد لـ»ألف ليلة ولية» التي هي بحق رواية الروايات.
يمكن تشبيه البناء الروائي لـ»ألف ليلة وليلة» بمخطط مدينة تتوزع فيها الخدمات وتتقاسم الأحياء تخصصات معينة.. وكما توجد اليوم تخصصات في حقل الرواية، فنقول هذه رواية بوليسية، وهذه رواية اجتماعية، وتلك رواية فانتازية و…إلخ، فإننا نجد في «ألف ليلة وليلة» كل هذه الأنواع الروائية، فهي مبثوثة كبذور صالحة تماماً للنمو، ومنها يمكن أن تتناسل أنواع لا نهائية من الأدب الروائي.
إذا كانت رواية «دون كيخوته» هي النص المؤسس للرواية الغربية، فإن «ألف ليلة وليلة» جديرة بأن تشغل المكانة ذاتها في الأدب الشرقي.