عبدالرحمن مراد
تظل الثقافة هي البعد الأهم في قياس تقدم الأمم ومدى قابليتها للتطور والنماء وقابليتها لإحداث التغير الحضاري، فالثورة الثقافية تسبق الثورات الاجتماعية، وبدونها تكون الثورات الاجتماعية أقرب الى العدمية والفراغ الذي ينشد الامتلاء.
والاهتمام بالبعد الثقافي لا يقل شأناً عن اهتمام الأمم الأخرى بالبعد الإنمائي والاقتصادي.. بيد أن الذي يحدث في دول العالم الثالث يأتي على نقيض مسارات التطور لذلك نجدها تتمحور في دوائر الثبات ولا تكاد تتجاوزها.
وإذا كان المجتمع اليمني يعيش حالة ثورية خاصة فرضتها الظروف والمناخات العامة، فقد أصبح لزاماً على كل القائمين على البعد الثقافي الوطني الاشتغال على قيم التطوير والتحديث وبما يتواكب مع حاجات المجتمع وتطلعاته وبالمعنى الذي يعيد للمبدع والمثقف قيمته ومعناه ويحفظ له توازنه ووجوده وفاعليته في صياغة وفلسفة معنى الوجود.
لقد عانى المبدع اليمني كثيراً ولاقى من شظف العيش والإقصاء والتهميش والاغتراب ما لم يلاق مبدع آخر في كل بقاع الارض، ولم تكن تباشير الانعتاق التي لاحت في الأفق الوطني إلا وميضاً يأمل منها المثقف والمبدع استعادة دوره وفاعليته في الحياة وحتى يستعيد دوره وسلطته يتوجب أن يكون مسؤولاً، إذ لا مسؤولية حيث لا سلطة ولا سلطة بلا مسؤولية، كما أنه لا سلطة ولا مسؤولية في ظل الغياب والاغتراب للقانون.. كما أن الاهتمام بالكوادر النوعية الابداعية والابتكارية هو اهتمام بعملية النماء والتطور وبالقيمة الحضارية المدركة للبعد التاريخي القادرة على إحداث عملية الانتقال النوعي بما يتوازى والقيمة النوعية للبعد الحضاري المعاصر.
وما يحدث في واقعنا المعاش في ظل الارهاصات الاولى لعملية الانتقال لا أظنه منطقياً، فالماضي مازال يتدفق بقوة الشلال في صميم التجربة الجديدة التي يفترض أن تؤسس لواقع أجد لا يشبه الماضي ولكنه يمتد منه ويتغاير عنه، وقد أصبح لزاماً على وزارة الثقافة أن تفكر في إعداد استراتيجية وطنية تحدث ثورة حقيقية في الوسط الابداعي والثقافي تخرج المبدع والمثقف من حالة الاغتراب إلى حالة الاحساس بالقيمة والوجود ومن حالة التسول على أبوابها إلى حالة الإنتاج ومن حالة التلقي إلى حالة المبادرة والابتكار، ومن حالة الإقصاء إلى حالة المشاركة والصنع والخلق، كما أن تجديد وتحديث وظائف الوزارة أصبح ضرورة وطنية تمليها الظروف الوطنية والحضارية والتطورات، إذ يتوجب القيام بدراسة علمية ممنهجة تكون إعادة الهيكلة ومنظومة التشريعات نتيجة لها وليست واحدة من مقدماتها.
لقد أصبح البعد السياسي أكثر طغياناً من ذي قبل وأصبح المثقف أكثر ارتهاناً ولم يكن بيان بعض أدباء المحافظات الجنوبية الداعي الى تأسيس كيان منفصل عن الاتحاد إلا خدشاً في القيمة والمعنى الذي تأسس عليها اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين.. ولا أظن ذلك البيان الذي صدر عن أولئك الأدباء إلا بحثاً عن قيمة وجودية في واقع أصبح لا يتعامل إلا مع مفردات الموت والفناء وإلغاء الآخر وتسيطر عليه روح الاستبداد وتصادر فيه الحريات وأصبح المثقف والمبدع هامشاً في متن الحياة يتجرع وجبات الألم ويقاسي ضرورات العيش الكريم.
ما يجب أن يدركه الآخر هو أن الوظيفة الابداعية لم تعد كما كانت عليه من قبل مشاركة وجدانية وتصويراً لشوارد الافكار والوجدان ولكنها أصبحت عملية استشرافية وصناعية للمستقبل وهي جزء لا يتجرأ من عملية تطوير الروح في خلق فضاءات أكثر جمالاً تراعي التوازن الروحي والنفسي لخلق معادلة الحياة المتسقة والقادرة على التفاعل مع الزمان والمكان وبما يعكس قيمتها الحضارية الدالة عليها والمحققة لهويتها الزمانية دون اجترار، فالفن حياة مركزة يحمل في نسيجه العام روح التطور والنماء والتحديث ويؤكد على القيمة الجمالية للحياة.
لا ننكر أنّ ثمة جهوداً تبذل في سبيل تطوير وتحديث الفنون لكنها تظل جهوداً فردية لا تستند إلى قيم معيارية ولا تحقق بعداً استراتيجياً ممنهجاً يكون قادراً من خلال عملية التراكم على التأسيس لقيم حضارية تحفظ للمبدع قيمته ومعناه وتخرجه من دوائر الضيق والشظف والإحساس بالاغتراب.
هناك حلقات مفقودة في المنظومة العلائقية بين المجتمع والسلطة واتصال مثل تلك الحلقات يتطلب جهداً مضاعفاً في التفكير والعمل بحيث يصبح الاشتغال على العملية الابداعية اشتغالاً تفاعلياً وربحياً والاستثمار في المجالات الفنية والابداعية لا يقل شأناً عن الاستثمار في غيرها، ومثل ذلك يفضي بنا الى التأكيد على إعادة الاعتبار للحصص الفنية والانشطة الثقافية في المدارس والأندية الرياضية، كما أن التفكير في التأسيس للبنية التحتية الثقافية ضرورة يمليها البعد الحضاري الذي نرغب في الوصول اليه من خلال تفاعلنا مع مظاهر العصر وتجلياته.
لقد أصبح المثقف مطالباً أكثر من أي وقت مضى بالخروج من حالة التيه التي وصل اليها ولن يتحقق له ذلك إلا من خلال تفعيل دور النقد الثقافي والابداعي، وتهذيب مسارات الحياة برؤى أقرب الى الموضوعية وأبعد ما تكون عن الذاتية التي اتسمت بها المرحلة السابقة، فكان من نتائجها ما وصل اليه من تيه وتشظٍ وما شاع في الحياة من قيم بديلة غير حضارية وما شاع فيها من فساد.
ومن المهم القول إن الاحزاب والتنظيمات السياسية قد تركت أثراً سيئاً لا يمكن تجاوزه إلا من خلال القراءة النقدية والعمل الدؤوب على التحديث في رؤاها وآلية عملها ولن يتحقق ذلك الا من خلال إحداث ثورة حقيقية تتفاعل مع لحظتها وتقوم بتشبيب تلك القيادات العتيقة التي لا نرى في ملامحها إلا ذلك الماضي الدامي وفقدت قدرتها على العطاء والتجديد والاضافة.
نؤمن أن هناك قيادات تاريخية من حقها أن تنال التكريم والامتنان -ومن حقها ذلك- وفي السياق ذاته نؤمن أنه من حق الاجيال ان تساهم في صناعة التاريخ وهي سنة كونية جبل الله الناس عليها ولا يمكننا تعطيلها.
جل ما نتمناه أن تبدأ لحظة جديدة تصنع يمناً أجد، متصالحاً مع ذاته ومع التاريخ ويتسع لكل أبنائه دون نفي أو إقصاء أو تهميش.