الإمام يحيى والنضال من أجل الدولة اليمنية المركزية المستقلة

أنس القاضي
منذ الربع الأخير للقرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، مضت حركة الأحداث التاريخية في اليمن، صوب تحقيق مهمة تاريخية موضوعية وهي بعث دولة اليمن المركزية التي دمرها الغزو الحبشي والفارسي ومزقتها الدويلات والإمارات الإسلامية المتنافسة بعد ذلك.
كانت نضالات الشعب اليمني خلال تلك المرحلة الحيوية من تاريخ اليمن المعاصر، مُركزة ضد الاحتلال العثماني، والاحتلال البريطاني، والتوسع السعودي، وفي مواجهة التفكك الاقطاعي والعشائري. وكل هذه النضالات كانت تخدم هدفاً وغاية واحدة وهي، إقامة دولة يمنية موحدة ومستقلة على أراضيها التاريخية التي عُرفت سابقاً بولاية اليمن العثمانية.
مع انهيار الامبراطورة ألعثمانية وانسحاب القوات التركية من الأراضي اليمنية، اتيحت امكانيات حقيقة أمام الشعب اليمني في المناطق الشمالية للتطور المُستقل. رفض حاكم اليمن الامام الشهيد يحيى حميد الدين الاعتراف بالاتفاقيات المعقودة بين الامبراطورية العثمانية والإمبراطورية الانجليزية، المتعلقة بتقاسم مناطق النفوذ في شبه الجزيرة العربية. وطالب بعودة المناطق المحتلة من قبل الإنجليز، والأدارسة، باعتبارها جزءاً من اليمن التاريخية، وبذلك أصبح الإمام يحيى الخصم الأول للانجليز والإدارسة في الجزيرة العربية، فعملوا بمختلف الوسائل لمنع الإمام يحيى من تطبيق برنامجه السياسي القاضي بإقامة الدولة اليمنية المركزية، ويعود الفضل للإمام يحيى في رسوخ الجغرافيا التي تقوم عليها الدولة اليمنية الحديثة “الجمهورية اليمنية” التي أقيمت عام 1990م، فلولا تلك النضالات الذي خاضها في تلك الفترة الحساسة من عمر المن لكان اليوم هناك أكثر من دولة يمنية أو بهويات انفصالية، ومشروع تقسيم اليمن إلى 6 أقاليم يستهدف إعادة اليمن إلى مشاريع التقسيم والتجزئة التي نشطت آنذاك.
في عام 1918 تمكنت قوات الانجليز وبمساعدة القبائل الموالية لأمير عسير وأمير الحجاز من السيطرة على قسم هام من الأراضي التهامية اليمنية، وحصار المرتفعات الشمالية اليمنية. كما عملوا على إثارة الفوضى وإشعال نار الخصومات في صفوف القبائل، وأمام هذه الأوضاع فقد شكلت المهمة الرئيسية للدولة اليمنية تحرير مدينة الحديدة وتهامة من الانجليز وقوات الإدريسي.
مع وفاة الأمير الإدريسي في العام 1932م اشتدت المشاكل الداخلية في أمارته فاستغل الامام يحيى هذه الأزمة، واجتذب الى صفوفه الكثير من المشايخ والإقطاعيين في تهامة وكذلك تجار الحديدة والشخصيات المؤثرة فيها. وبدأ جيش اليمن في مطلع 1925 بقيادة الأمير احمد وعبد الله الوزير، بالهجوم على الحديدة، ففر نائب أمير الأدارسة الى إلى جيزان، فيما رحب سكان مدينة الحديدة بدخول القوات اليمنية.
وفي 27 مارس عام 1925م استعادت القوات اليمنية مدينة الحديدة، وحررت الجزء الشمالي من تهامة، ابتدأ من مدينة الصليف فاللحية فميدي، وصولاً الى زبيد وبيت الفقيه في جنوب تهامة.
بعد قمع الحركات الانفصالية في الجبال الشمالية، تحركت قوات اليمن المتوكلية نحو المحميات العدنية لإرغام بريطانيا على فك حصارها عن البحر الأحمر، ولكسر الحدود المصطنعة بين الانجليز والعثمانيين، فاستولت قوات اليمن على أراضي سلطنة القعيطي في الشحر والمكلا، وأخضعت اقليم البيضاء.
استمرت المساعي اليمنية من أجل تعزيز الدولة المركزية، ففي عامي 1924 و1925م قامت القوات المتوكلية اليمنية بقيادة عبد الله الوزير بأكثر من حملة عسكرية على قبائل نجران والجوف، وأخمدت تمرداتها فأدخلتها ضمن سيطرة الحكومة اليمنية في صنعاء. وتمكن جيش التحرير والتوحيد اليمني من انتزاع الحديدة وتهامة الجنوبية، وضع الأدارسة ما تبقى من إمارتهم تحت حماية ابن سعود لحماية عرشهم المتهاوي وقعوا مع ابن سعود معاهدة للحماية عام 1926م.
وبعد إلحاق ابن سعود لكامل الإمارة الإدريسية في مملكته الوهابية، دخل في مفاوضات طويلة مع ملك اليمن الإمام يحيى بغية صرفه عن التقدم صوب عسير، وعندما اندفع الجيش اليمني واستولى على نجران وجبال عسير، أعلن ابن سعود الحرب الوهابية التوسعية على اليمن، واحتل جيزان ونجران وعسير. ولم يكن هدف ابن سعود من هذه الحرب التي قامت عام 1934 استرجاع جبال عسير وتهامة جيزان وانتزاع نجران فحسب، فقد كان ابن سعود يسعى من هذه الحرب التي سانده الانجليز فيها إلى إلحاق اليمن الشمالية كلها بمملكته السعودية الوهابية.
وعندما بدا أن أحلام ابن سعود كانت أكبر من قدراته وأن استمراره في الحرب غير مجد خاصة مع هزيمة جيشه الأساسي في أطراف صعدة، اضطر ابن سعود الى التقهقر، وآثر الدخول في صلح مع المملكة المتوكلية، وبمقتضى معاهدة الطائف بين الفريقين، كف الإمام يحيى عن المطالبة بجيزان ونجران وعسير، وقبل بحكم بن سعود لهما لمدة 20 عاماً قابلة للتعديل والتجديد. مقابل كف بن سعود عن مطالبه التوسعية في تهامة اليمن التي انسحب منها جيشه في الحرب اليمنية السعودية عام 1934م، وكان يرى بن سعود بأنها من حصته باعتبارها جزءاً من إمارة الإدريسي التي ذابت في مملكته.
وعندما قامت ثورة 26 سبتمبر عام 1962 في شمال اليمن، التي هيأت الظروف لقيام الحركة الوطنية اليمنية باستعادة الأراضي التاريخية اليمنية المحتلة شمالاً وجنوباً، فلم يكن هناك من مفر للملكة الرجعية السعودية إلا رفع السلاح ضد الثورة اليمنية، ولولا هذا الموقف العدواني السعودي الذي بلغ حد التدخل المباشر بمساندة الانجليز والطيران الصهيوني، ما كانت لتشتعل الحرب الأهلية اليمنية حتى مطلع السبعينيات.
مراجع هذه الحلقة:
* كتاب معالم سياسة العدوان السعودية تجاه اليمن للمفكر اليمني الراحل الدكتور محمد علي الشهاري
* كتاب تاريخ اليمن المعاصر من 1917 حتى 1982م لمجموعة من المؤلفين السوفيت.

قد يعجبك ايضا