قراءة /عفاف محمد
وللشهداء حضور كبير وبارز في شعر المرتضى ووجدانه فهو يحيا معهم ويحلِّق بروحه في رحابهم حيث يقول في قصيدةُ الخُلْد:
قصيدةٌ غادرتْ في داخلي السّجْنا
قصيدةٌ منْ دمِ الأحياءِ لا تفْنى
قصيدةٌ لا ترى الأحزانَ غامضةً
هل يفهمُ الشّعرَ من لم يعرف الحُزْنا
قصيدةٌ عنْ سَماواتٍ وَعَنْ رُسُل
وَعَنْ دَمٍ صَارَ وَحْيَا عَنْ دَمِ المَعْنى
عن الشّهيْدِ الّذي صَارَتْ ملَامِحُهُ
قصيدةً.. لوحةً.. أقصوصةً.. لحْنا
عن الذي صارَ معنى كلّ قافيةٍ
وصارَ وزْنًا لمن لم يمْتلكْ وزْنا
وللذي ما لهُ ليلى ولا خَطَرتْ
بِبالهِ صارَ ليلى كلّ من غنّى
قصيدةٌ من وصاياهم قد اكتملتْ
ولمْ تجدْ غيرَ أبياتي لها سُكْنى
همْ بابُها، سقفُها، حيطانُها طُلِيتْ
من ضحكةٍ صارت الأضواءَ للمبْنى
هم مشتلٌ للأماني في السّما انزرعوا
والأرضُ تهوي إليهمْ مسْكَنًا.. حُضْنا
هم من أضافوا إلى اللا شيء من دمِهم
شيئًا إلى كلّ معنى كانَ مستثنى
من قبلِهم لمْ نَكُنْ إلا خُطىً عَبَرتْ
إلى المتَاهاتِ.. يا الله كم ضِعنا
مِنْ بعدهمْ ما الذي لم يَتركوهُ لنا؟
من بعدهم نحنُ ندري الآنَ من صِرْنا
نُصغي إلى روحِ عطْرٍ فاحَ من دَمِهمْ
كأنّهُ الوحيُ فازدادوا به حُسْنا
صوتُ السماواتِ ما لاقى له وَطنَا
إلّا بشريانِ من صاروا لهُ أذْنا
فيا شرايين كل الأرضِ هل سَعُدتْ
أرضٌ سوى روضةِ الأحياءِ أو تَهْنى؟
ويا أرائكَ شعري لا أراكِ لهم
إلا بلادًا فرادى…ما لها مثنى.
وفي قصيدته البر سمائية التي كتبها للشهداء الأحياء ” الجرحى” كان فريدا في إيحاءاته وإشاراته وصوره وأخيلته وفي العنوان إشارة جميلة لعظمة الجرحى وكيف تنافست عليهم السماء والأرض ونجد هذا المعنى في قصيدة للشاعر المُلهَم الملهِم العملاق :معاذ الجنيد.
وإذا ما عقدنا مقارنة بين هذين العملاقين نجد أن الجنيد يترجم ما يختلج في نفوس العامة والخاصة وما يدور في أذهانهم في قوالب فنية وإبداع فائق ووضوح بالغ، بينما المرتضى يكتب للخاصة أكثر منه للعامة ومن يقرأ للمرتضى عليه أن يستبدل مقولة الفهم بمقولة التأمل.
ونحن في رحاب المرتضى نحلِّق في سمائه المرصعة بنجوم برده اليمانية ومدائحه النبوية وقصيدته البرسمائية وقصيدة الخلد ونتفيأ ظلال رياضه الغناء الملتفة الأغصان المحملة بعناقيده المتنوعة ،العناوين والأشكال، ونغوص بحاره المتلاطمة الأمواج لنتوقف عندها ونلتقط عدداً من درره المضيئة وجواهره المتلألئة المعنونة بـ”فصول الماء”..
وللمرتضى مع الماء حكاية وأي حكاية وبينهما علاقة حميمية يلمسها القارئ المتأمل فهنا “الغيمة السكرى” “المرفأ الأخير” ،”الظل مرساة الجدار الأخير” ،”دموع الماء” عناوين لقصائد ومقاطع شعرية وغالبا ما يستخدم شاعرنا لفظ الماء وما يتعلق به اليم، البئر، المرسى، الشاطئ، الشراع، الدمع، الموج، الظمأ، الغرق؛ المجداف، الطوفان…
وفي فصول الماء من الفصل الأول إلى العاشر نراه تارة طائراً مرفرفا مغردا على ضفاف الغدير العلوي يعزف سيمفونية العشق على قيثارة الولاء كما سنلاحظه في هذه الجزء في الفصل الأولُ من حديثِ الماء:
لي أن أقولَ وأن تجيبَ على جميعِ الأسئلةْ
أغديرُ خمٍ والفرات بزمزمٍ لهما صلة؟
لهما صِلاتٌ يا صديقي
فالماءُ للرحمنِ أولُ بوصلةْ
أوَ ليسَ عرشُ اللهِ فوقَ الماءْ
والماءُ أولُ عابدٍ للهِ قبلَ تواجدِ الأحياءْ ….
وتارة أخرى نرى ذلك الطائر نائحا ظامئا منكسرا يرتل تأوهات الحنين ويذرف دموع الأسى على شاطئ الفرات في كربلاء الحسين الشهيد ويستدعي التاريخ منذ أول الخليقة مرورا بالأنبياء عليهم السلام..
كما نلاحظ في هذا الجزء من الفصل العاشر من فصول الماء:
مِنْ آدمٍ حتى جميعِ الأنبياء
في كربلاءْ
سرُّ البدايةِ والفناءْ
منْ آدمٍ حتى جميعِ الأنبياءْ
ماذا جرى حتى تناسى آدمُ الأسماء؟!
أسماءُ منْ؟
لا آدمٌ يحكي ولا حوّاءْ
منْ أجلِ أشجارِ الخلودِ عصاكَ يا اللهُ آدمَ
كي يعيشَ بلا فناءْ
وعفوتَ عنهُ .. منحتهُ الكلماتِ من بعدِ الدّعاءْ
أسماءُ من؟
ما تلكمُ الكلماتُ كي يُمحى بها ذاك البلاء؟؟؟
ها إنّها أسماءُ كلّ الأنبياءْ
أسماءُ كلّ الأوصياءْ
ماذا؟؟؟ أكانَ اسمُ الحسينِ على جبينِ العرشِ مكتوباً بحبرٍ من دماءْ؟
في كربلاءْ
طوفانُ نوحٍ حينَ مرّ بقربهِ ظمئت حناجرهُ على المقتولِ فيها دونَ ماءْ
في كربلاءْ
والحزنُ فيها مثلُ وادٍ غير ذي زرعٍ وزمزمُ فجّرتْ أحشاءَها
حتى تواسيَ من يراهُ أبوه مذبوحاً وشاءَ اللهُ أنْ يلقى الفداءْ
مَنْ يا ترى كانَ الفداءْ؟؟
حتى ينجّي اللهُ اسماعيلَ إذْ لبّى النداءْ؟
ها إنّ إسماعيلَ أُجُّلَ ذبحهُ لأبي النبيّ محمدٍ
وفداهُ ربي… بابن خيرِ الأنبياءْ..
في كربلاءْ
طوفانُ نوحٍ حينَ مرّ بقربهِ ظمئت حناجرهُ على المقتولِ فيها دونَ ماءْ
###
في كربلاءْ
والحزنُ فيها مثلُ وادٍ غير ذي زرعٍ وزمزمُ فجّرتْ أحشاءَها
حتى تواسيَ من يراهُ أبوه مذبوحاً وشاءَ اللهُ أنْ يلقى الفداءْ
مَنْ يا ترى كانَ الفداءْ؟؟
حتى ينجّي اللهُ اسماعيلَ إذْ لبّى النداءْ؟
ها إنّ إسماعيلَ أُجُّلَ ذبحهُ لأبي النبيّ محمدٍ
وفداهُ ربي… بابن خيرِ الأنبياءْ..
وعلى النقيض من ذلك للمرتضى مع النار حديث ذو شجون فقد لفحته بشررها ولسعته بلهيبها فاكتوى قلب شاعرنا العابر للمسافات الغائص في أعماق التاريخ بقصيدة “ألسنة النار”:
تسألني عدةَ أسئلةٍ عن يومِ الدّارْ
إنْ كانتْ فاطمةُ الزهراءْ
بنتُ المختارْ..زوجُ الكرارْ.. أمُ الأطهارْ
فلماذا ليس لها قبرٌ ليُزارْ؟!
ألسِنةُ النارْ
تسألُ… لكنّ إجاباتي حُبلى بالعارْ
ألسنةُ النارْ
تسألُ وتكررُ أسئلةًّ
خوفَ التكرارْ
أختلقُ لنفسي أعذارًا
وبلا أعذارْ
أخفي الأسرارْ
ألسنةُ النّارْ
تحرقُ لي أجوبتي وأنا من غير قرارْ
ألسنةُ النارْ
تسألُ عن أصحابِ المختارْ
من هاجرَ منهم أو من كانَ من الأنصارْ
هل كلٌ يعشق فاطمةً؟
جاءَ الإشعارْ:
طبعًا
وبلا إنكارْ
طه بالبضعةِ أوصاهمْ
وبأنّ البضعةَ إذْ ترضى يرضى الجبارْ
وإذا غضبتْ من أغضبها مأواهُ النارْ
ألسنةُ النارْ
لكنْ…
ماذا عن يوم الدارْ
هل كانَ هراءً لا يُحكى
أو أنّ السرّ من الأقدارْ؟!
ألسنةُ النارْ
تسألني عِدةَ أسئلة عن يوم الدارْ
إنْ كانت فاطمةَ الزهراءْ
بنتُ المختارْ .. زوجُ الكرارْ أمُ الأطهارْ
فلماذا ليس لها قبر لُيزارْ؟
ألأنّ الجنّةَ خافيَةٌ؟
كانت أوّلَ من يدخلها
من بعد أبيها كي ترضى
في المحشرِ تشفعُ للأحرارْ
ألسنةُ النّارْ
لا زالتْ تسألُ أسئلةً
عكس التيار؟!
وإذا ما تتبعنا جماليات إبداعه وخصائص أسلوبه الفني فسيطول بنا المقام ولنا في الختام أن نقول: حق لنا أن نفتخر ونرفع الهامات بهذه الهامات الشامخة التي منحها الله وميَّزها بقدرات وإمكانات؛ لتنتج وتثري وترسم بريشة الإبداع صورة جميلة للحياة…
ويبقى لدينا سؤال يبحث عن إجابة ،ترى من للشاعر المرتضى وأمثاله من المبدعين؟ ومن سيقف بجانبهم؛ ليتمكنوا من إنتاج وإخراج ما حباهم الله به من جمال الفكر وروعة الإبداع؟.من سيخرج أعمالهم ويجسدها على أرض الواقع؛ لنتفيأ ظلالها الوارفة ونقتطف ثمارها اليانعة؛ وليضاعفوا هم الجهد حين يرون عصارة فكرهم تورق وتثمر وتزهر في وجوه المتعبين وعيون البائسين ابتساما وأملا ورجاء.