رغم الظروف الصحية والمعيشية

أبناء باجل: صامدون، لا نبالي وأيا كانت التبعات لن نركع

انقطاع الكهرباء كارثة إنسانية.. وفاتورة الكهرباء التجارية بين 10-15 ألف ريال
الكدن.. جولة الموت خاصة بعد اغلاق كيلو 16 وتحويل طريق القاطرات إلى وسط باجل
اسعار الأراضي والعقارات حديث ذو شجون ومشاكل بلا حلول
إناث البعوض من جنس الزاعجة المصرية هي المسؤول عن نقل فيروس الضنك
الاكتفاء الذاتي هو ما ظل الإنسان اليمني يفخر به على امتداد التاريخ اليمني
باجل اليوم مدينة مترامية الاطراف لا تقل أهمية عن مركز المحافظة “الحديدة”

 

بدأت الرحلة في الصباح الباكر على متن تاكسي أجرة يقودها سائق من الحيمة, شاب خلوق وخدوم ترتسم في ملامح وجهه براءة الانسان القروي النقي.. انها اخلاق القرية المفعمة بالكرم وبشاشة الابتسامة التي لا تفارق الوجه والمصاحبة للدعابة على طول الخط وهو الدليل السياحي الذي يعرفك بأدق التفاصيل عن القرى والأسواق اسما وخصوصية.. وفي باجل يرحب بك بشر هم “الأرق قلوبا والألين أفئدة”.. لا نحتاج بعد تعريف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وصفا أو بيانا.. ذات الكلمات نكررها في السائقين وأهل الكرم والضيافة حيثما اتجهت في ربوع اليمن ريفا ومدائن.

الثورة / يحيى محمد الربيعي

البناء العشوائي
على الطريق والبداية من مديرية بني مطر ومن مشارف الصباحة تحديدا حيث يبدأ الاعتداء على الاراضي الزراعية بالبناء العشوائي من جهة وبالإهمال من جهة أخرى ومن جهة ثالثة تأتي آثار العدوان الغاشم على البنى التحتية.
تركت الأجيال_ على ما يبدو_ الاستعانة بحكمة الآباء في اتخاذ التلال والهضاب والأماكن غير الصالحة للزراعة لهذا الغرض تجاهلا منهم لما لذلك من خصوصية أمنية لمواقعها المرتفعة والمحصنة ومن سلامة للأساسات وإطالة أمد بقائها بفعل صلابة الاماكن غير الزراعية وبعدها عن الملوحة التي تسببها رطوبة الأراضي الزراعية, ومن جانب آخر.. تجاهلت الاجيال ما تحققه الاراضي الزراعية المعتنى بها في مجال الأمن الغذائي والاكتفاء الذاتي الذي ظل الإنسان اليمني يفخر به على امتداد التاريخ اليمني الزاخر بآيات الفخر وعلى كافة الأصعدة الحرفية والزراعية والتدابير اللازمة للتغلب على قسوة ووعورة الطبيعة الجغرافية ذات الطابع الجبلي.. الصعوبة التي واجهها الانسان القديم بمهارة بناء المدرجات الزراعية التي تحولت معها تلك الطبيعة القاسية الى جنان معلقة على سفوح الجبال.

الشريان الاسود
النظرة المتشائمة ظلت طاغية على الموقف ثم ما لبثت بالتلاشي كلما توغلنا في منحنيات الطريق غربا على خط الحديدة الشريان الأسود الأول على مستوى اليمن.. ويعد_ حسب كبار السن_ احد منجزات العهد المتوكلي حيث تم شقه وسلفتته إبان حكم الإمام أحمد يحيى حميدالدين.. الشريان الذي لا يمكن المرور عليه دون الاشارة إلى ما يصيب جسده المتهالك من عوامل التعرية، نتيجة الاستخدام لأمد طويل دون صيانة ما عدا بعض الترقيعات التي شوهت حالته لدرجة تحولت معها بعض منعطفاته إلى “بطناج”.. شريان، الحكومة مطالبة بدرجة أساسية وكذلك المنظمات الدولية والمهتمين والمانحين بصورة إنسانية، بحاجة إلى صيانة وإعادة تأهيل كونه طريقا حيويا يربط الميناء الغربي بالعاصمة.
وعودة إلى البساط السحري الأخضر الذي يبدأ بالظهور للعيان تدريجيا كلما اتجهنا إلى الاسفل, الظهور الذي يدل تارة على وعي المزارع اليمني بأهمية الأرض بالنسبة لحياة الإنسان.. أهمية تصل الى درجة أنها تصبح لديه هي الأم التي إن أعددتها صنعت جيلا طيب الأعراق, وإن اهملتها كما هو المشهد في بعض المناطق فهي للشوك والطلح والانهيارات والبور .

حضور المرأة
لا يغيب عن مشهد الرحلة دور المرأة اليمنية البارز للعيان في مدرجات الحيمة وسفوح مناخ وشواهق حراز وضفاف سردود.. وهي تشارك، الرجل تبتل الأرض, وترعى الاغنام والمواشي, وتجلب الماء, وتحمل الحطب, وبرفقتها صغارها من البنين والبنات يرضعون منها دروس التعاطي مع صعوبة الحياة الجبلية القاسية في طقوسها الممتعة بفوائدها الصحية على البدن ونقاء البيئة.
امام شلال القدم كانت لي وقفة مع ذاكرة الزمن فهو المكان الذي تربطني به شخصيا ذكرى عابرة حصلت عام 1997م اثناء نزهة عائلية الى المنطقة حينها بنشر التائر ولم يكن لدينا “استبني” مما اضطررنا للنزول الى سوق القدم مع احد المسافرين والعودة مع آخر طالع صنعاء العملية استغرقت وقتا وجهدا افسد جو النزهة.

لحظات متعة
ما علينا, فنحن الآن نمر على ضفاف سردود وادي المانجو والموز وأشجار النخيل وفاكهة تتخللها حقول الذرة الشامية والشعير وانواع الخضار والاشجار الحراجية.. لحظات متعة عابرة مع جزء يسير جدا من وادي سردود- أحد أودية اليمن، ينبع من الأهجر غرب صنعاء ومن ضلاع كوكبان وغرب وشمال جبل شعيب وملحان ويجتمع بخميس بني سعد، ويمر هناك في مضيق واد كبير دائم الجريان ولكنه يضيع تحت الرمال ويسقي مدن المُهْجم ـ مدينة تاريخية لم يبق إلا أطلالها ومنها منارة مسجد المدينة ـ والضحَّي والزيدية ويصب في البحر الأحمر.

هنا باجل
اخيرا وصلنا باجل تلك القرية الصغيرة المرسومة في مخيلتي منذ سبعينيات القرن العشرين حين زرتها مع والدي وكانت حينها مركزا لقضاء باجل الذي يضم عددا من المناطق التهامية الممتدة من ساحل الحديدة حتى سفح جبل الزاهر في مديرية بني سعد – محافظة المحويت.
ومن أهم معالمها الأثرية والتاريخية الجامع الكبير، في باجل القديمة.. وقلعتها الحصينة (القشلة) التي شيدت على قمة جبل الشريف المطل من الغرب على المدينة، ويرجع تاريخ عمارتها الحالية إلى فترة الاحتلال العثماني لليمن.. ومن مآثر مدينة باجل قلعة الإمام التي كانت في باجل القديمة أيضاً مقابل الجامع الكبير، وقد تم هدمها وبنيت عليها مدرسة تُسمى مدرسة علي بن أبي طالب عليه السلام… ومنزلة الناشري، وهي منزلة درس فيها الكثير من العلماء والمشائخ.
اتسعت باجل حديثا وبني في خارج المدينة عدد من المصانع أهمها “مصنع اسمنت باجل”.. باجل الآن لم تعد تلك القرية الصغيرة أو ذلك المركز الاداري البسيط.. باجل اليوم مدينة مترامية الاطراف لا تقل في الأهمية الاقتصادية والمساحة وعدد السكان عن مركز المحافظة “الحديدة” بل اصبحت بفعل العدوان السعودي الاماراتي الغاشم على الساحل الغربي ملجأ للكثير من نازحين مديريات الخط الساحلي والمركز.

كارثة أم جريمة؟
العيش في مدينة باجل أصبح أمراً في غاية الصعوبة.. أمراً لا يطاق خاصة مع انقطاع الكهرباء عن المدينة كغيرها من مدن الساحل والذي يعد اعظم كارثة تحل بها وافظع جريمة بحق سكانها.. حيث يصل سعر الكيلو تجاري إلى 300 ريال.. أقل مستهلك يشغل مروحة واحدة في بيته يحتاج من 10 الى 15 الف ريال شهريا.. منظومة الطاقة الشمسية المشغلة لأنظمة التكييف تصل أسعارها إلى أرقام خيالية بالنظر إلى تدني مستوى دخل الفرد حيث شحة فرص العمل وتعثر الكثير من الأشغال والحرف والمعامل نتيجة غياب المواد الأولية كالمواد الخام ومستلزمات التشغيل بسبب الحصار وارتفاع أسعار المواد المهربة – إن وجدت- فضلا عن ضعف القدرة الشرائية في السوق المحلية.
تخيم على المدينة موجة من ثالوث الفقر والمرض وفاعلهما العدوان وما يفرضه من حصار جائر على اليمن برمته.

المارد اليمني
غياب بعض الخدمات من صرف صحي ورص وسفلتة لمعظم الشوارع، منه ما هو ناتج عن إهمال سابق من قبل الأجهزة المعنية بالتخطيط الحضري والبنى التحتية الخدمية, وما من جاء كنتيجة للتوسع في البناء بشكل كبير نتيجة النزوح المتدفق على المدينة, لكن ورغم ظروف “الضنك” والمعيشة “التنك” إلا أن مدينة باجل تعيش أفراحها وأتراحها وتكتظ شوارعها بحركة طبيعية وضجيج مولدات الكهرباء وعويل الدراجات النارية ونباح الكلاب بلا توقف على مدار الساعة, وكأن “ما في البرمة من لسيس” ويسود الاستقرار والأمن أجواء وأحياء المدينة.. شعب أراد الحياة وصنع أسباب البقاء بإرادته وجهده الذاتي بل ويخلقها من العدم فلا مستحيل يقف أمام حكمة وصبر المارد اليمني.
ذلك المواطن الذي عاصر تقلبات الواقع السياسي ومتغيراته وألف التعاطي معها بحلوها ومرها وبعزة ورفعة لا نظير لها.
سألنا المسن والعاقل والشاب والمرأة والطفل عن موقفهم من الحال فكان الرد بصوت واحد: صامدون, ولن نبالي أيا كانت التبعات فلن نركع لغير الله.

موجة نزوح
النزوح إلى المدينة جعلها تزدحم بالسكان.. نزوح زاد من الاقبال على شراء الأراضي والعقارات ورفع من قيمة الايجارات إلى سقوف غير معقولة فأبسط عقار يتراوح ايجاره ما بين 100 إلى 150 ألف ريال; عبارة عن شقة غرفتين وصالة ومطبخ وحمام.. أما عن أسعار الأراضي والعقارات فحديث ذو شجون ومشاكل بلا حلول إلا ما رحم الله من أصحاب الذمم السليمة والأخلاق الأصيلة.

جولة الكدن
جولة الكدن تقع وسط مدينة باجل تسمى حاليا بجولة الموت خاصة بعد اغلاق كيلو 16 وتحويل طريق القاطرات الى خط الكدن.. يقال إن معدل الموت يرتفع الى شبه يومي بسبب الحوادث التي تسببها الزحمة على الجولة.. مقترح الحل يكمن في الاسراع بتشغيل الخط الدائري وإدخاله الخدمة.

حمى الضنك
أسراب النامس في مدينة باجل طائرات مسيرة تخترق حواجز الملابس وتعمل في ظروف ما تحت البنفسجية.. قدرات لدغ صامتة بلا “ونان”.. ومعها حصانة ضد المبيدات الحشرية.. اجسامها غير مرئية وتعمل على مدار الساعة.. ما تعليق مكتب الصحة بباجل على ذلك؟ وما مدى صحة انتشار حالات حمى الضنك في المديرية؟
ليس هناك من علاج موضوعي لحمى الضنك حسب إفادة أطباء يتعاملون مع حالات مختلفة مصابة بحمى الضنك إلا أن جميعهم اكد على أن الكشف المبكر عنها والحصول على الرعاية الطبية المناسبة يقلل من معدلات الوفيات إلى ما دون 1 %.
حمى الضنك مرض فيروسي ينقله البعوض وقد انتشر بسرعة.. وحسب تقارير منظمة الصحة العالمية فإنه في 128 بلدا تنقل فيروس حمى الضنك إناث البعوض من جنس الزاعجة المصرية Aedes aegypti وبدرجة أقل الزاعجة المرقطة A. albopictus. The كما ينقل هذا النوع من البعوض داء الشيكونغونيا والحمى الصفراء والعدوى بفيروس زيكا، ويتفشى المرض على نطاق واسع في الأقاليم المدارية، مع تغايرات محلية في مستوى الخطر تتأثر بمعدل هطول الأمطار، ودرجة الحرارة، والعمران العشوائي السريع.

حزمة في مشروع
العودة الى صنعاء كانت عبر طريق الخميس سارع العرقوب.. العرقوب كانت محطة وقوف لليلة.. مع العودة تغير المشهد; عاد بذكريات من ماض يشكو الصعب إلى حاضر يعيش اليسر.. من ماض يكابد غياب المشاريع إلى حاضر يعاني من تعثر بعض المشاريع وهشاشة تنفيذ البعض.. وشيء يسير من الجودة في إنجاز أخرى.. وقد تجد حزمة الشكلنة آنفا تجتمع في مشروع واحد هو الطريق المعبد من الخميس إلى جمعة سارع.. وهشاشة_ اللهم لا شماتة – في تنفيذ خط المحويت- القناوص, وهو الخط الذي كان مدروس له أن يكون خطا دوليا يربط ميناء الحديدة بالعاصمة صنعاء لارتباطه بخط شبام- المحويت، الخط الاستراتيجي الذي قامت بتنفيذه شركة أجنبية وبمواصفات عالية الجودة.

نقلة نوعية
عزلة سارع والجمعة ارتبط اسمها في ذاكرة الطفولة بـ”السدم” وهو مرض الملاريا; لأنها تقع على حافتي وادي سارع الذي يصب في سردود ويمر بين مضيق جبلي من جانبيه.. تشق الطريق من أحد الجانبين عوضا عن مرورها في الماضي في وسط الوادي الامر الذي كان يأخذ من السائق الأيام والاسابيع للوصول الى احد طرفيه فضلا عن ما قد تسببه مواسم الامطار من كوارث في الممتلكات.
شق الطريق من احد أجنحة السلسلة الجبلية، خفض نسبة معاناة العبور لأيام وأسابيع الى ساعة وتزيد أخرى أو ثلثيها أو النصف.. كله على السائق ونوع المركبة والحمولة.. بإجراء بعض التحسينات في الاجزاء الجاهزة واستكمال المشروع قد يقلص المدة إلى 15_30 دقيقة.. المشروع لا يزال قيد التنفيذ ولكن ببطء السلحفاة.
ومن قائمة البنية التحتية إلى النقلة النوعية.. نقلة سجلت حضورا قويا في نفوس المارة, تمثلت في ارتفاع مستوى وعي المواطن السارعي الذي تحول من مجرد “…” الى مواطن منتج وفاعل; من اللا وعي الإنتاجي الى زراعة محاصيل الذرة الشامية.. وعي نقل الوادي من دائرة مناطق الوباء إلى قائمة البيئة المثالية.
يتوقف المشهد عند نقطة المبيت, ليواصل المشوار في صباح باكر، إشراقةصباح اختلطت نسماته الصباحية بقطرات الندى المبعثرة على سفوح اسطح منازل قروية قد تزينت بمجاول المشاقر وغرسات البسباس البلدي وبعض الخضروات ذات الجذور السطحية.

اعادة التأهيل
صباح جميل ارتسمت آيات جماله في عظمة ما اظهره من مشاهد ذات طابع انتقالي.. طابع تحولي.
كان من غير المتوقع فعلا أن ترى قبل ثلاثة اعوام من الآن تلك المساحات من المدرجات قيد العناية وإعادة التأهيل.. ليس هذا وحسب وانما مشاريع توسعية.
إنها فخر اليمن وكل اليمنيين أن تعود الزراعة إلى سيرتها الأولى وينعكس المثل إلى “شبر مع القبيلي خير من ذراع مع الدولة”; مصطلح “القبيلي” يشار به إلى فلاحة الأرض وعمارتها.
هذا الفخر والاعتزاز بانت شواهده للعيان واقعا ملموسا ولم تعد أحلاما خيالية.. شواهده تتقاطر على طول الطريق من العرقوب الى شبام.. ترافقك البهجة والسرور وانشراح يملأ الصدور شعورا بالعزة والعين تشاهد المدرجات والقيعان والأودية تحاط بعناية الإنسان يعمل فيها بالحرث واعادة التأهيل وصيانة برك وحواجز تجميع المياه.
لا أريد ان يقف السرد عند هذه النقطة من رسم اللوحة الفنية, لكن لا بد أن يكون للصورة حضور وتعبير عن واقع لا خيال فيه.

قد يعجبك ايضا