الفساد.. والإرادة السياسية (8)

أحمد يحيى الديلمي

الفساد في مجال القضاء (ج)
القضاء التجاري
هذا القضاء هو محور اهتمام الدول والمنظمات الدولية على وجه الخصوص لارتباطه المباشر بأنشطة التبادل التجاري بين دول العالم وكل القضايا الاقتصادية وفي المقدمة ضمان الاستثمار ورعاية الاتفاقيات الخاصة بالعلاقات التجارية بين الدول.
من خلال المهام المفصلية التي أسلفت تتضح الأهمية القصوى التي يجب أن تعطى لهذا النوع من القضاء بحيث يتم رفده بالكوادر المتقدمة في الفهم والإدراك والإلمام بالمعارف العامة المتصلة بالمعاملات والاتفاقيات الدولية وهو ما يتطلب أن يكون العمل في هذه المحاكم تحت الرقابة والإشراف الدائم من قبل المجلس الأعلى وهيئة التفتيش القضائي لأن الشكوى التي نسمعها بمرارة من قبل المستثمرين الأجانب والمحليين تدور حول هذا القضاء والروائح النتنة التي تزكم الأنوف تنبعث من أروقته ، فلم يوفق هذا القضاء بكادر صادق وأمين حتى اليوم ، ولا تزال المعاملات فيه وأعمال التقاضي خاضعة للمزاجية والأخذ والعطاء الأمر الذي يُحتم على المجلس إعطاء اهتمام خاص بالكادر الذي يعمل في هذا المجال ولو من خلال إقامة دورات تأهيلية متقدمة تضمن التأهيل النوعي وتحقق الغاية المطلوبة في سلامة أداء هذا القضاء.
ثانياً: الجانب الإداري
نقصد به إدارة عام المحاكم الاستئنافية وأمانة السر وجهاز السكرتارية في مكتب رئيس المحكمة الاستئنافية والشعب التابعة له والمحاكم الابتدائية والنيابات العامة وكل ما يتصل بالجهاز الإداري المساعد للقضاة.
للأسف بلغت الأمور في هذا الجانب حد العبث فلقد تحولت أروقته إلى بؤر للفساد والإفساد بوسائل مختلفة منها:
– القيام بدور الوسيط بين القاضي والخصوم في حالة ارتخاء ضمير القاضي وقبوله للرشوة.
– التلاعب بمواعيد انعقاد جلسات التقاضي لجعلها مساحة للمساومة وابتزاز الخصوم.
1 – استغلال أعمال التسجيل والتوثيق والأعمال المكملة لجني المكاسب الخاصة بشكل احترافي ومبررات واهية مثل تدني رواتب الموظفين غير القضاة إلى غير ذلك من الممارسات التي شوهت صورة القطاع وكشفت خطورة الاختلالات حتى تحولت إلى معضلة كبرى نظراً للاحتكاك والعلاقة المباشرة والمتابعة لأعمال الفريق المساعد واحتساب الأخطاء والتجاوزات بشكل جماعي يشمل رئاسة المحكمة ورؤساء الشُعب كل في محيط مسؤوليته كون أي قصور يدل على عجزه أو أنه وافق على أن يكون مظلة لحماية ما يجري.
2 – تطبيق مبدأ التدوير على أمانة السر ورئاسة السكرتارية كون البقاء في موقع واحد لمدة طويلة يكسب الموظف خبرة للتلاعب والقيام بأعمال السمسرة لصالح المحامين وأصحاب القضايا وتبلغ العملية مرحلة الخطورة القصوى في المحاكم الابتدائية عندما يكون القاضي جديد وتجاربه قليلة أو أنه دخل هذا السلك عن طريق الخطأ والمجاملة لذلك يتهيب المسؤولية وفي هذه الحالة يكون أمين السر أو الموظف صاحب الخبرة ملجأ وملاذ للقاضي نفسه ويستطيع توظيف علاقته المشبوهة مع المحامين والمتخاصمين أصحاب القضايا للمتاجرة وهو ما يُعطي التدوير الوظيفي أهمية خاصة لتحديد زمن البقاء في الوظيفة كأهم مدخل لإصلاح مسار القضاء وتجاوز الاختلالات التي تحدث في نطاق الكادر الإداري المساعد ومنع الممارسات غير السوية التي جعلت هذا الفريق محوراً للتبرم ومرارة الشكوى من المتخاصمين أصحاب القضايا خاصة شكاوى التطويل والمماطلة التي يتحمل القاضي تبعاتها وتطال الإشاعات جهاز القضاء بشكل عام.
هيئة التفتيش القضائي
تُمثل هذه الهيئة أهم قنطرة للمتابعة والتقويم باعتبارها عين مجلس القضاء الأعلى وعين الدولة بشكل عام لأن المجلس يستند إليها في إجراء الحركة القضائية واقتراحات الترقيات في القضاء أو توقيع العقوبات على من يستحقها من القضاة ، فالهيئة تقترح التنقلات والترقييات وترصد المخالفات بالذات التي توجب الإحالة إلى المجلس التأديبي ، كما أنها تتلقى الشكاوى من المواطنين ومخولة باستدعاء القاضي المشكو به وإخضاعه للتحقيق.
إلى جانب القيام بأعمال التفتيش المفاجئ على المحاكم للتأكد من استقامة القاضي وسير إجراءات التقاضي على أساس سليم تمهيداً لاقتراح ترقية المحسن وعقاب المسيء ، هذه هي القضايا الموكلة إلى الهيئة ويجب القيام بها إلا أنه للأسف لا يحدث شيء من هذا القبيل.
فلقد تحول نشاط الهيئة إلى عمل روتيني بحيث يتمثل في وضع الكشوفات على أساس المدة الزمنية ، فمن قضى خمس سنوات في موقعه تقترح نقله أو ترقيته مع إعطاء مساحة للوساطات و المجاملات ودون الاهتمام بعمله السابق ومدى قدرته على حل النزاعات والمخاصمات بين الناس.
أما شكاوى المواطنين بالقضاة فإن المختصين يتعاملون معها ببرود تام. على قاعدة إعادة الضحية للجلاد بدعوى المجاملة أو مراعاة هيبة القاضي نظراً لأن العامل في الهيئة يعتبر نفسه في وضع مؤقت وقد يكون قاضياً عما قريب يخضع لرقابة شخص آخر ، وهكذا يصبح المواطن هو الخصم وهو المذنب ، وإن ثبت أن القاضي مارس أعمالاً تتعارض مع أبسط القوانين الحاكمة.
لذلك ونظراً لأهمية هذا المرفق والدور المعول عليه في حماية جهاز القضاء وإقامة العدل وإنصاف المظلومين وحماية الحقوق يتطلب الأمر ما يلي:
أ‌. رفد الهيئة بعناصر قوية مؤهلة قادرة على ترجمة الشرع القويم والقوانين واللوائح المنظمة والتعامل معها بإرادة إيمانية وأفق وطني حريص على تقويم مسار هذا الجهاز الهام لضمان انحياز الأحكام إلى إقامة الحقوق والحدود وردع أصحاب الجاه والنفوذ والمال لمنعهم من التلاعب وشراء ضمائر القضاة والموظفين بالمال والتحكم في مخرجات القضاء.
ب‌. إتقان اختيار القضاة الذين يعملون بالهيئة ولو من خلال الاستعانة بغير الخريجين من معهد القضاء والحرص على أن يكونوا ملمين بآليات التقاضي الشرعية والضوابط القانونية من منطلق أن المفتش المعني بتقييم غيره من القضاة لا بد أن يكون أكثر قدرة ودراية وخبرة من القاضي العامل في الميدان ونظراً لأهمية وحساسية هذا العمل يجب أن تتوفر في من يعمل بهذا الجهاز الصفات التالية ( التأهيل – الإيمان – الصدق – الموضوعية ) وكل ما يؤكد توفر عنصر الخوف من الخالق سبحانه وتعالى إلى جانب الإمكانيات المطلوبة للقيام باعمال التفتيش على أساس سليم بعيداً عن المجاملة والمحاباة وأن يكون الهدف ضمان استقلالية القضاء ، وهذا يتطلب استقلالية وصدق المكلف بالمهمة حتى لا يتأثر بأي مغريات ويرفض أي محاولات انتهازية لإفساد ضميره فيثبت انه مستقل هدفه نقل الحقيقة كما هي ملموسة في الواقع دون الارتهان إلى ممارسات مشبوهة سادت في الماضي وتسببت في فشل التقويم والمتابعة.
ج‌. منع أي وساطات أو تدخلات فوقية من داخل وخارج القضاء لما تسببه من إحراج كبير للمكلف بالمهمة وتفقده الثقة بنفسه وبقدراته خاصة عندما يجد أن قيادة الهيئة أهملت تقاريره المرفوعة أو تعاملت معها بسلبية وتسويف ومماطلة وبالتالي لا يحقق الغاية ولا يسلم من خصومة وعداوة القاضي الذي رفع التقرير بشأنه ، خاصة أنه قد يكون رفض المغريات التي عرضها عليه وانحاز للضمير والقانون ، البعض للأسف أصابته حالة نفسية حينما وجد النتيجة بعكس ما توقعه وتعرض بسببها للإهمال والحرمان من الوظيفة مقابل ترقية القاضي المشكو به نتيجة المزاجية ووجود السند والظهر القوي على قاعدة (ادهن ظهري أدهن ظهرك ) أو (أنا مفتش اليوم وغداً قاض) أي أننا نتبادل المواقع بما تفرضه هذه القواعد الآثمة من المجاملة والنفاق والميل الذاتي إلى إغفال المعلومة الصحيحة وإبدالها بأخرى زائفة تتضمن الإشادة بالقاضي وتبرئة ساحته وإن كان مغرقاً في الفساد ، لذلك يمكن الاستدلال على آليات إصلاح وتقويم الاختلالات من التوجيه الإلهي بتفعيل فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كأهم وسيلة للرقابة والتقويم ومنع الانحرافات وتهذيب سلوك القاضي لضمان استقامته في أداء المهام القضائية الموكلة إليه من منطلق أن القاضي لابد أن يُعيد هيكلة نفسه عقب تسلمه للمهمة فيوقف جموح المشاعر ويُلجم العاطفة غير السوية بلجام العقل والمنطق ليصبح نموذج لإقرار العدل والانحياز للحق والإنصاف مهما كانت المغريات.
د‌. الاهتمام بالشكاوى التي تقدم من المواطنين والتعاطي معها باتجاهين.
1) استدعاء القاضي المشكو به وإنزال أشد العقوبات عليه إذا ثبت صحة الشكوى أو التقصير في أداء الواجب أو ممارسة أعمال البيع والشراء بالقضاء.
2) إذا تأكدت الإدارة المختصة من كيدية الدعوى وعدم ثباتها تفرض على الشاكي غرامة مالية كبيرة إلى جانب عقوبة الحبس لكي لا يتعاطى مرة أخرى بهذا الأسلوب ويرتدع غيره للحفاظ على حصانة القاضي وترسيخ ثقافة احترام القاضي إذا كان مستشعراً للمسؤولية ويؤدي عمله بصدق ونزاهة وأمانة وإخلاص كون اتهامه بأكاذيب باطلة يمس بقدسية القضاء بشكل عام وتؤثر على نفسيته مما يضعف الأداء.
3) إرادة تنفيذ الأحكام:
قال الحق سبحان وتعالى (إن خير من استأجرت القوي الأمين) كما نلاحظ النص قدم القوة على الأمانة وهو مضمون واضح الدلالة يُشير إلى أهمية القوة كأهم معيار لإقامة الحق مهما اكتنفته الصعوبات والتصدي للباطل وإن عظم شأن صاحبه.
من الأخطاء الفادحة للنظام السابق أنه سمح بتوسيع هياكل القضاء وتوزيع المهام على أساس نوعي اقتضى تخصيص قاضٍ مكلف بتنفيذ الأحكام الشرعية ، إلا أنه بادر إلى تفريغ هذه القناة من المضمون لأن الآليات تشكلت بذهنيات نفعية أهم غاياتها الظفر بشهادة الآخرين وعندما تكون الآلية ضعيفة ترتكز من الأساس إلى حائط هش تكون النتائج ضعيفة لأن الشخص المكلف بالمهمة يعمل بإرادة مهزوزة ، وهو ما يحدث بالفعل في الواقع فكم من القضايا صدرت بشأنها مذكرات تنفيذ جبرية إلا أنها ظلت في نطاق التوجيه غير القابل للترجمة نظراً لسطوة وقوة الخصوم وبالتالي ماجدوى التقاضي؟! وما جدوى صدور أحكام شرعية يصعب تنفيذها على أرض الواقع ؟! لذلك فإن الأمر بحاجة إلى مقاربة جديدة في هذا الجانب تتطلب وجود آلية قادرة على الإنصاف وتمكين أصحاب الحقوق ممن بأيديهم أحكام باتة من الوصول إلى الأملاك والحقوق التي خاضوا غمار الشريعة من أجلها.
لتجاوز الظواهر السلبية والتجاوزات المخيفة مطلوب التعاطي ببُعد إيماني وأفق وطني والتمحور حول خيار واحد هو إقرار الحق وإزهاق الباطل كأهم تغيير موضوعي يعزز ثقة المواطنين بالقضاء.
إجراءات مكملة: هناك إجراءات مكملة لا بد من اتباعها وتتمثل في:
تحديد أقصى فترة للنظر في القضية وبيان المبررات التي تسمح للقاضي بتأجيل النظر فيها وتحديد عدد مرات التأجيل وتجاوز الموعد الذي كان القاضي قد حدده في جلسة سابقة لمنع التسويف والمماطلة.
للأسف هذه النقطة بالذات هي أكبر مصدر للشكوى والتذمر من أصحاب القضايا لأن القاضي في الغالب يترك اختيار الموعد لأمين السر فيكون عرضة للابتزاز والمساومة والمزاج والميل لمن يدفع أكثر وإن كان الحق عليه يصبح ذو حضوة تولد اليأس والإحباط عند صاحب الحق ، وهذه من المهام الأساسية التي يجب أن تضطلع بها هيئة التفتيش القضائي إذا كنا نريد الارتقاء بالقضاء في اليمن وحمايته من الاختراقات والتجاوزات الكثيرة.
ضياع الحقوق نتيجة الخلط بين الجزائي والمدني
هناك ثغرة هامة سمعت قضاه معتبرين ينتقدونها لما تمثله من تناقض صارخ يحول دون الوصول إلى نتيجة حاسمة ويسمح بتمدد أشكال الاعتداءات والتصرفات الفردية من قبل وجاهات ومتنفذين يعتدون على أملاك الآخرين والاستيلاء عليها بقوة السلاح ، وعندما يلجأ المجني عليه إلى القضاء فإن القاضي الجزائي يتشعب في نظر القضية ولا يركز على الجانب الجزائي لمنع الاعتداء وردع من أقدم عليه لكنه ينغمس في إثبات الحق المدني وطلب مستندات الثبوت بأسلوب لا يمت إلى الواقعة بصلة مما يؤدي إلى إطالة أمد التقاضي وإعطاء المعتدي الفرصة لإكمال مشروع السطو والبناء المسلح الذي لا يقبل الهدم إلا بصعوبة.
للأسف بعض القضاة يتصرف بغباء نتيجة الجهل بالقانون ودعوة التحري للتأكد من أن الجاني معتد أو أنه صاحب حق وأحياناً يتصرف بقصد ويميل لمن يدفع أكثر ، دون النظر إلى موضوع إثبات الحق لصاحبه ، مع أن الأمر واضح يتطلب المبادرة إلى إيداع المعتدي السجن وإلزامه برفع أي استحداث في الموضع المتنازع عليه لا استناداً إلى دعوى الشاكي بل لأن الجاني أخل بالأمن واعتدى على السكينة العامة وتجاهل سلطات الدولة ، وبعد توقيع العقاب للأسباب التي أسلفت يتم النظر في الجانب المدني من خلال نفس القاضي أو يُحال الملف إلى القاضي المختص.
هذه النقطة لابد أن تحظى باهتمام خاص وتصدر بشأنها منشورات من جهة الاختصاص إلى القضاه و أعضاء النيابة الجزائيين بالمحاكم الابتدائية لتجاوز هذه الثغرة التي كانت سبب في ضياع الأموال وإزهاق الأرواح معظمهم أبرياء لا ناقة لهم ولا جمل يتصادف مرورهم أثناء تبادل إطلاق النار إن حدث بين الخصوم المتنازعين ، وهنا يتأكد الاثم الذي يتحمله القاضي وكل سلطات القضاء وحتى السلطات العليا في الدولة لأن رئيس الدولة راعٍ ومسؤولٍ عن رعيته كما جاء في الحديث النبوي ، لأنه المسؤول الأعلى وعليه إشاعة الحق والعدل ، ولهذا لزم التنويه إلى الموضوع.
مشاهد وخلفيات بؤر الفساد
أورد هذه الفقرة للتذكير بتراكمات الماضي القريب السلبية وكلي يقين أن أصحاب الفضيلة أكثر معرفة وإلمام بها ، لذلك أعتذر عن هذا التطاول لكن ما يشفع لي هو حُسن النية والرغبة الأكيدة في إصلاح القضاء وتتمثل تلك الظواهر في:
1) الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة والسطو المسلح أو بطرق ملتوية مثل استغلال حاجة وفقر الأسر المالكة والتظاهر بدعمها وإجبار أحد أفرادها على تحرير عقود بيع صورية مقابل مبالغ زهيدة ومن ثم استخدام نفس الكاتب لتحرير عقود أصلية تُمكن المتنفذين من الاستيلاء على الأرض وحرمان الملاك الحقيقيين منها بفعل الأساليب الملتوية و الوثائق المزورة التي تجعل القاضي يحكم بصحتها نتيجة عجزه عن قراءة ما خلف السطور.
2) تشكيل جمعيات سكنية وهمية للاستيلاء على أراضي الدولة والأوقاف العامة والخاصة والعمل على استقطاب قاضي أو أكثر إلى عضوية الجمعية لكي يمثل أمام المحاكم إذا اتضح أن للأرض ملاك من المواطنين بيدهم أوراق تثبت الملكية ، بينما يكون بقية الأعضاء جنوداً أو موظفين صغاراً من السهل تنازلهم عن الحيازة مقابل مبالغ زهيدة وإذا حدث أن أعضاء الجمعية تمسكوا بالأرض يتم تسليط سماسرة ومتنفذين يدعون ملكية الأرض بأوراق مزورة يتعاطى معها القضاء بأنها صحيحة نظراً لسخاء المدعين ووقوف رؤوس كبيرة خلفهم بأسلوب حقير يمكن المدعين من التصرف بالأرض والبناء عليها مما يصعب على أصحاب الحق التنفيذ حتى إن صدرت الأحكام لصالحهم ، أحياناً يصل الأمر بالعرض على درجات التقاضي الثلاث إلا أن وجود القضاة المستفيدين من الكعكة واحترافية المحامي المتولي للقضية مقابل قلة الحيلة وافتقاد أصحاب الحق إلى المادة يفقدهم الأمل تماماً.
3) الشراء من الأجراء وإنكار ملكية أصحاب الأرض
تم في هذا الجانب تشجيع وجود طابور من المتنفذين ( مشائخ – قادة عسكريين – وزراء ) إضافة إلى أصحاب السطوة بفعل القرابة من السلطات العليا للقيام بالسطو والاستيلاء على أراضي المواطنين البسطاء بأساليب ماكرة انطلت على عدد كبير من القضاة إما لأنه حصل على نصيب من الكعكة أو نتيجة عجزه وتمييزه للأوراق التي قدمت إليه ، وأخيراً وهو الأهم خوفه على الوظيفة وفقد المنصب نتيجة الفوضى في سوق تحرير العقود الشرعية حيث برع عدد كبير من الكتاب في تزوير العقود الشرعية واتباع طرق خاصة لإثبات قِدمها ومن ثم تحرير عقود من تلك العقود تشمل العقد الأول والثاني والثالث والرابع ، وهو أمر يُحار فيه القاضي إلا اللبيب الذي يعرف قراءة ما خلف السطور لأن المشتري الخامس يقدم عقد صحيح موثق في السجل العقاري وبالتالي يكون القاضي حائراً فيصدر الحكم لصالح العقد المزور وهناك طرق وأساليب أخرى أربكت المشهد تماماً إذ يكفي الإشارة إلى أنها شرعنت مبدأ التطويل في التقاضي بحيث بلغ زمن بعض القضايا ربع قرن من الزمان ، وهناك قضايا فارق أصحابها الحياة وهي لا تزال عالقة في أروقة المحاكم والأخذ والرد بين الدرجات الثلاث للتقاضي.
حد وبلد
تحت وطأة المسمى الجائر السابق كم حدثت من مظالم وحُرمت أسر من أملاكها الصحيحة الثابتة عليها خلافاً لتعاليم الشرع القويم التي تقول إن الدولة ترث من لا ورث له ، أقدم المشائخ والوجهاء على تملك وبيع مئات الآلاف من اللبن في المناطق المحيطة بصنعاء تحت المُسمى السابق المغلف بإنكار أصحاب الملك رغم علمهم بهم ، لكنهم تحت مظلة الحماية الفوقية ورغبة المتنفذين نفذوا مثل هذه الإجراءات وتحولت إلى عرف جائر قضت بتحويل الأرض إلى “حد وبلد” أي يتولى بيعها وجهاء القرية دون غيرهم.
إضافة إلى حرمان المالك في حالة الإقرار بحقه من الرهق وإدخاله تحت مسمى هذا العرف الجائر وبالتالي فإن أي معالجة فعلية تتطلب الآتي:
أولاً: تشكيل لجنة مشتركة من العدل والأوقاف وهيئة أراضي وعقارات الدولة للاطلاع على ملفات كافة القضايا العالقة في المحاكم وإعطاء أهمية خاصة لأراضي الدولة والأوقاف والحيازات الكبيرة مثل وقفيات الأئمة وكبار الملاك في الماضي لمنع استمرار العبث بهذه الأراضي والحفاظ على ما تبقى منها ومنع التصرفات الفردية بهدف تحقيق المقاصد الشرعية الثابتة في وصية الواقف كونها غابت تماماً عن اهتمام من يدعون التناسل منه حتى وزارة الأوقاف استغلت تكليف القانون لها للإشراف على الوقفيات الخاصة لا لتعمل على ترجمة إرادة الواقف لكن لتحولها إلى أوقاف عامة ومن ثم بادرت إلى عمليات البيع والتأجير وحرمان حتى المصالح التي حددها الموصي من ريعها ، وهذه هي الكارثة والطامة الكبرى.
ثانياً: إعادة النظر في قانون الأمناء ليشتمل على مقرعات وعقوبات رادعة ضد من يمارس المهنة دون الحصول على ترخيص ويتضمن على شروط حاسمة للحصول على هذا الترخيص بشرط منع السمسرة والاتجار بالعملية ومعاقبة كل من يمنح الترخيص لشخص غير مؤهل كما اقترح إلغاء القرار الذي منح القضاة حق تحرير العقود الشرعية كونه يجمع بين الأختين والله قد منع الجمع بين الأختين إلا ما قد سلف ، فالقاضي بالأساس هو المعني بتوثيق العقود وإقرار صحتها فإذا تحول إلى كاتب وموثق فسدت العقود ووجدت القاعدة للإخلال أنه لا يمكن عقاب القاضي إذا أخل بالأمر بدعوى الحصانة القضائية ، في ذات السياق يمكن إعادة النظر إلى إشراف وزارة الأوقاف على الوقفيات الخاصة فالعملية تتعارض كلياً مع إرادة الواقف الذي أوكل المهمة إلى الأرشد ممن يتناسل من ذريته ويحصل على إجماع الأسرة لكن يُمكن معالجة هذا الجانب بأن يكون إشراف الوزارة معنوياً لا يعطيه التصرف فتختص بالحفاظ على الرقابة والحرص على ترجمة إرادة الواقف فقط.
اكتفي بما أسلفت واعتبرها مجرد اجتهادات شخصية أسأل الله تعالى التوفيق والسداد.. لأني لا أقصد إلا وجهه والظفر برضاه.. وإلى اللقاء في الحلقة القادمة إن شاء الله..

قد يعجبك ايضا