الاحتلال العثماني الأول وثورة التحرر اليمنية
أنس القاضي
الاستغلال والقهر والاستعباد جوهر كل غزو الأجنبي، هو اليوم ماثل للعيان، كما كان في الأمس، وقد عرف اليمنيون عَهــدَ الاحتلَال العُثمـاني، بالقهـر والظلم الاجتماعيين، من قبل عدد من الولاة، وكبار الموظفين الذين أثقلوا كاهلَ اليمنيين بالإتاوات، والجبايات وجعلوا حياتهم بائسة ويائسة.
أخذت اليمن أهميّةً استراتيجيةً في أعقاب اكتشاف رأس الرجاء الصالح فباتت عُرضة لغزوات الدول الاستعمارية الأوروبية وخَاصَّـةً البرتغالية في القرن السادس عشر، وقد سبق العثمانيون البرتغال الى السيطرة على اليمن.
في عام 1538م، أمر السلطانُ العُثْمَـاني “سُليمان القانوني” بتحريك حَملة بحرية كبرى لغزو اليمن بقيادةِ “سليمان باشا”، أبحرت من ميناء السويس في مصر الى البحر الأحمـر، ووصلت الحملة إلى قبالة ميناء عدن في العام نفسه. وكانت مدينة عدن جزءاً من الدولة الطاهرية اليمنية.
أرسل قائد الحملة العثمانية سليمان باشا في طلب أمير عدن”عامر بن داوود” للمثول أمامه على السفينة بعد أن منحه الأمان، وأنزل جنوداً عُثْمَـانيين إلى الساحل بحجة علاجهم من المرض، وبعد صعود الأمير اليمني عامر وعددٍ من مرافقيه إلى متن السفينة، غدر بهم العثْمانيون. وبدأ الجنود المرضى في الساحل يقاتلون بكامل عافيتهم وبعد مقاومة عنيفة، سيطر العثمانيون على عدن.
وبعد سيطرة العثمانيين على عدن، ارسلوا حملة جديدة الى الحديدة فوصلت ميناء الصليف وقصفت حامية الميناء بالمدفعية، ثم تقدمت القوات الغازية إلى مدينة زبيد وإخضاعُها للنفوذ العُثْمَـاني، وفي تلك الأثناء أرسل قائد الحملة العثمانية سليمانُ في طلب حاكم المخاء وغدر به وبذلك سيطر العُثْمـانيون على كامل السواحل اليمنية الجنوبية والغربية.
حققت اليمنُ أول استقلال وطني عن الامبراطورية العُثْمَـانية في العالم العربي، ففي القرن السابع عشر سنة (1045هـ – 1635م) ، قام اليمنيون بطرد الغزاة والاحتلال العثماني الأول بثورة شعبية يمنية ضد الولاة العثمـانيين، تزعمَها الإمام القاسم بن محمد، وكانت الثورة من حيث طبيعتها ثورة اجتماعيةً قامت على سواعد وأكتاف الفقراء اليمنيين من الفلاحيين والحرفيين وعُمَّال السُّخرة والمُعدمين من أبناء القبائل والمدن، وذات بُعد وطني مناهض للاحتلال الأجنبي.
لاقت الثورة اليمنية قمعاً ومواجهةً عنيفةً من قبل العثمانيين، في عهدِ السلطان العثماني “حسن الباشا”، وكان العثمـانيون حينذاك يملكون قوةً عسكريةً هائلة، قادرة على إخماد أي تمرد وفي مواجَهة الثورة اليمنية، أرسلت الامبراطوريةُ العُثْمَـانية، الجيوشَ والمعدات العسكرية، لكنها سقطت في أيدي الثوار.
اعتمد “الإمام القاسم بن محمد” في قيادة الحركة التحـررية اليمنية آنذاك، وفي الدعوة إليها، على الخطابات والرسائل التي كان يرسلُها إلى الأفراد والجماعات في شمال البلاد وجنوبها، جامعة لأوسع القوى اليمنية بمختلف مذاهبها الإسلامية.
يذكر الجرموزي مؤرخ سيرة الإمام القاسم، العلامة الجرموزي بأن الثورةَ ضد العثمانيين مَرَّت بأربع مراحل.
الأولى استمرت من (1597حتى عام 1635م) على مدى قرابة أربعين عامًا، بدأت بإعلان الدعوة وخروجه من (شهارة) حجة إلى جبال (برط) وأما الثانية فمن حين خروجه من برط، وعقد اتفاق مع “سنان باشا” أحد القادة العثمانيين الكبار، ثم معَ الوالي العُثْمَـاني “جعفر باشا”، وذلك بعد معارك طويلة.
أما المرحلة الثالثة فتمثلت بخروج الإمام القاسم على حكم الوالي العثماني جعفر باشا بعد موت الوالي إبراهيم باشا، والرابعة خروجه على حكم الوالي العثماني “محمد باشا”، وبعد وفاة الامام القاسم، تولى ولده الدور والذي عُرف بالإمام المؤيد.
في العام 1626م استعاد الإمام المؤيد المرتفعات الشمالية وصبية وابو عريش في جيزان، واتجه جنوباً الى عدن ولحج، وفي سنة 1043هـ / 1633م تجدّدت المعارك بين الغُزاة العثمانيين واليمنيين، فقد حاول العُثمـانيون فَكّ الحصار المضروب عليهم في الداخل، وقدمت سفينتان محملتان بالجنود العثمـانيين للسيطرة على عدن، وباءت المحاولة بالفشل، فأرسل العُثْمَـانيون حملةً أخرى إلى (جيزان) ولكنها فشلت أيضًا.
في العام 1634م تمكن الإمام المؤيد من تحرير مدينة زبيد من بقايا العثمانيين، وقضى على القوات العثمانية بقيادة قانصوه باشا، وفي تلك الحقب التاريخية تعلمت القبائل اليمنية القتال بالأسلحة النارية بحرفية عالية لأول مرة في تاريخها.
أسست الدولة القاسمية دولة يمنية مركزية حكمت حضرموت وظفار، وصولا إلى أقصى مناطق عسير على حدود الحجز غرباً وشهدت ازدهرا تجاريا وعمرانيا وأقامت علاقات تجارية وسياسية مع امبراطورية مغول الهند.
إلا أن النزعة الاستعمارية العثمانية ظلت تتربص باليمن. مستغلة الخلافات الداخلية بين أقطاب السُلطة الحاكمة، وعملوا على تغذيتها، وإشعالها، فبعد وفاة الإمام المتوكل إسماعيل حفيد الإمام القاسم، شهدت الدولة القاسمية مرحلة عدم استقرار سياسي أضعف كثيرا من مركزية الدولة الدولة وسمح للزعامات القبلية والاقطاعية بالاستقلال في حكم مناطقها، كل ذلك أدى في نهاية المطاف لانقضاض الغزاة العثمانيين من جديد في الحملة العسكرية الثانية عام 1872م، لتقع اليمن في الاحتلال كارتباط شَرْطي بين نجاح الغزو الأجنبي والعوامل الداخلية المواتية له.