خليل المعلمي
منذ بداية القرن العشرين وتظهر مؤلفات عن استشراف المستقبل خاصة بعد تطور الثورة الصناعية والوصول إلى القمر واختراع الحاسوب وظهور شبكة الأنترنت مع نهاية القرن الماضي، وتتنبأ هذه المؤلفات بالمستقبل وحياة الناس فيها، وكيف ستتغير في الكثير من الجوانب الاقتصادية والثقافية والحياتية وغيرها.
إن كل من يتابع إنجازات العالم المتقدم في مجال العلم والتكنولوجيا وهي إنجازات متسارعة في اطراد لا يملك إلا أن يسأل: ترى ما دلالة هذا التطور وما أثره في حياة الفرد والمجتمع والعالم”؟.
“الناس غداً” هو أحد المؤلفات التي تتحدث عن الحياة في المستقبل، ولهذا يبدو العنوان شائقاً ومثيراً بقدر ما هو عنوان واعد بالكشف عن إجابة شافية لمثل هذا التساؤل.
الكتاب من تأليف “سوزان جرين فيلد” أستاذة علم الأعصاب بجامعة أكسفورد، ومديرة المعهد الملكي في بريطانيا، وتتميز بكفاءة عالية كباحثة في علم الأعصاب وأصدرت قبل ذلك عدداً من الكتب المهمة أثارت الانتباه وجعلت منها نجمة ساطعة في هذا المجال.
المحتويات
الكتاب جاء في 256 صفحة ويضم عشرة فصول، يحمل الفصل الأول عنوان “المستقبل ما المشكلة” وتوضح المؤلفة فيه أن المشكلة الحقيقية ليست في ماهية التطورات العلمية والتكنولوجية او في سرعتها المذهلة، بل ما مدى تأثيرها وما سوف تحدثه من تغيير في القيم والثقافات وفي نظرتنا على العالم وانقسام الناس إلى فريق محب وآخر خائف، وثالث ساخر هازئ بالعلم والتكنولوجيا، ويتناول الفصل الثاني أسلوب الحياة وما الذي سنراه واقعاً حياتياً نعايشه، والثالث عن الروبوتات وكيف سنفكر في أجسادنا؟ والرابع عن العمل وكيف سنقضي وقتناً؟ والخامس عن التكاثر وكيف سنرى الحياة؟ والسادس عن التعليم وما الذي سنحتاج إلى تعلمه؟ والسابع عن العلم وما الأسئلة التي سنسألها؟ والثامن عن الإرهاب وهل سنظل نستمتع بحرية الإرادة؟ والتاسع عن الطبيعة البشرية وكيف ستكون طبيعة مفعمة حيوية ونشاطاً؟ والفصل العاشر والأخير بعنوان المستقبل ترى ما هي الخيارات أمامنا؟.
إطار حياتي إنساني
وهكذا تعرض المؤلفة رؤيتها داخل إطار حياتي إنساني واسع ابتداء من الحياة الشخصية والمنزلية وحتى قضايا الإرهاب والأبحاث بالحمض النووي الـ”DNA” وآثارها على الفرد والمجتمع والأبحاث المتعلقة بـ”العالم السيبيرني”، عالم التفاعل والتعامل عبر الشبكة الإلكترونية.
وتوضح المؤلفة أن ردود أفعال الناس إزاء هذه التحولات سوف تتباين بشدة بين إقبال وصدود أو إحباط، وتثبيط للهمم ونجد أن المؤلفة بحكم أنها عالمة أعصاب تتخذ المخ والتأثيرات العصبية محوراً للكشف عن التأثيرات المستقبلية المتوقعة.
أدب الخيال العلمي
إن ما ينتظر البشرية خلال القرن الـ 21 يفوق الخيال إلى حد الاستفزاز، وليس الأمر تخييلاً أو ضرباً من الفانتازيا مقطوعة الصلة بالواقع على نحو ما عرفنا في قصص الآن مثلاً ولكنه خيال مبني على أساس ما تحقق من إنجازات علمية وتكنولوجية وإمكانات واعدة خيراً وشراً يعدنا بها التقدم المطرد في تواتره السريع.
ولهذا رأت مؤلفة الكتاب التي تعيش بوجدانها وعقلها واقع الحياة العلمية أن أفضل أسلوب للحديث عن الغد وعن حياة الناس في ظل إنجازات العلم والتكنولوجيا هو الكتابة من نوع أدب الخيال العلمي، وأن كتابتها لن تكون شطحات خيال نزق، بل واقع موضوعي يتجاوز حدود خيالنا الراهن الذي هو بدوره وليد مستوى علمي وتكنولوجي ستراه أجيال المستقبل غداً واقعاً متخلفاً.
تقول المؤلفة: “ولكنني بعد تأمل طويل واجهت سؤالاً: كيف سيكون وعي الناس وكيف ستكون حياتهم؟ وتحولت عن فكرة كتابة رواية إلى تأليف كتاب علمي عن مستقبل المخ البشري أو العقل بمعنى أدق وعن الثورة المرتقبة التي سيحدثها العلم في القرن الـ21 وما بعده؟ وتساءلت ترى ما الآثار المتوقعة لتكنولوجيا المعلومات، وكيف سيتغير معها أسلوب حياتنا وما أثر ذلك كله على المخ؟ وكيف سيعكس المخ بفضل ما يتحلى به من مرونة، خبراتنا كأفراد؟ وكيف ستغير التكنولوجيا من نظرتنا ومن ثقافتنا ومن أحاسيسنا وأفكارنا وشخصياتنا؟ وكيف سيؤدي هذا التحول العميق إلى نشوء متطلبات جديدة في مجال العلم الفيزياء والطب الحيوي وغيرهما وكيف سيتجلى تأثير هذا كله في مجالات الحرية: حرية الفكر والإرادة والشعور بالخصوصية الفردية”.
الواقع والخيال
خرج الكتاب في صورة رحلة استقصائية للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها في مجالات حياة المجتمع والحياة الخاصة لإنسان وبيان أثرها في العقل والاقتصاد والسياسة بل وصورة العالم ويوضح الكتاب أننا مع مطلع القرن الـ21 نقف على عتبة تحول كبير مثير يفوق كثيراً أي تحول سابق عرفته البشرية في تاريخها كله، إن العلم والتكنولوجيا وهما الآن جوهر وروح حياة العصر سيؤديان سريعاً إلى تغيرات جذرية ونوعية لن تقتصر فقط على أسلوبنا في الحياة بل وعلى أسلوبنا في التفكير والشعور ويؤكد هذا أن دينامية وحساسية نشاط المخ البشري سيتغيران درامياً وسوف يعني هذا القدرة المباشرة على التأثير في جوهر فردي وذاتية الإنسان، وسوف يكون عسيراً تحديد معالم فاصلة بين الواقع والخيال، كما سيكون عسيراً على المرء التأكد من حدود جسمه، أين ينتهي؟
هيمنة الذكاء الاصطناعي
وتقول المؤلفة: “سوف نعيش أسلوب حياة يهيمن عليه الذكاء الاصطناعي الذي سيكتسب طابعا شخصياً جداً، لذا تساءلتُ فيما بيني وبين نفسي: ترى لو تحققت هذه الاحتمالات، ماذا عسى أن يكون أثرها على المخ؟ كيف يمكن لكل هذه التكنولوجيا أن تغير نظرتنا؟ وأدركت أن التكنولوجيات الجديدة يمكن أن تؤثر فينا، شأن العقاقير، بحيث تضعنا في حال سلبية مشحونة ومثقلة بالتنبيهات الحسية والتي ستكون خلالها أمخاخنا أو قل عقولنا غير ذات صلة وثيقة وكبيرة بها، ولهذا فإن القضية المحورية هنا ليست التكنولوجيا الجديدة في ذاتها (التي صدر بشأنها فيض من الكتب) وإنما السؤال هو: كيف يمكن أن تتحول عقولنا وحياتنا في الاقتصاد والسياسة وفي الطب وفي التعليم، بل وفي حالة (العالم، الطبيعة، الواقع والخيال) وكيف ستزداد قدراتنا على التعامل والتلاعب بالميديا الإلكترونية والروبوتات والجينات وبيولوجيا التكاثر؟ وهذا كله يستلزم تحولاً جذرياً درامياً في أسلوب حياتنا”.
وتحدثنا المؤلفة في الفصل الختامي عن المستقبل والأزمة، حيث ترى أن الخطر الأكبر الناجم عن التحولات هو تزايد مظاهر الانقسام بين العالم المتقدم تكنولوجيا وبقية البلدان والتي تمثل بسكانها ومساحتها الغالبية الساحقة على كوكب الأرض، وتضيف: إن التحدي الأكبر الذي سيواجهنا في المستقبل هو: كيف نتجنب السقوط في هاوية الانقسام الخطير للغاية بين عالم صغير محدود متقدم ينعم بالرخاء الاقتصادي وإمكانات الهيمنة وعالم متخلف في تزايد سكاني مطرد، ويعاني فقراً يعزله أكثر فأكثر عن التقدم وعن العالم المتقدم”.
وتذكر بعض مظاهر الأزمة وتشير إلى أن الزيادات السكانية تطرد وتتسارع في عالم يتضخم سكانياً.
إنسان جديد
الكتاب يمثل تحدياً وعامل إثارة وحافزا للفكر والخيال معاً، قد يخرج الفكر من سباته ومن الاعتقاد بروتينية ونمطية الحياة، وأن ما كان في حياة السلف يصدق على الحاضر، ناهيك عن حياة المستقبل وإنما الكتاب يؤرقنا ويشيع فينا مشاعر القلق الوجودي والإحساس العميق بأن التطور شرط موضوعي وحالة أو قانون واقعي للحياة البشرية وأن هذا التطور في جوهره تعبير وتجل لدينامية باطنية، وأن التطور وإن كان أبدياً، إلا أنه تسارع وقوي مع حضارة عصر الصناعة والتقدم العلمي والتكنولوجي، لم يكن أبداً اليوم مثل الأمس، ولكن اليوم مرحلة إلى غد مغاير تماماً، إلى حياة جديدة في الفكر والأدوات والثقافة، وفي الفعل والهدف فردياً ومجتمعياً، إلى إنسان جديد وعقل جديد وعلم جديد.
مثير للفكر
ولهذا فإن الكتاب بقدر ما هو مثير للفكر، فإنه مثير للقلق أيضاً، خاصة إزاء مقتضياته وإزاء ما يطرحه من مظاهر حياة تتناقض، بل تتنافر مع ثقافة ترسخت في أذهاننا على أنها الثقافة الأمثل لحياة واقعية، وإن إنسان المستقبل أو حياة المستقبل في العالم المتقدم ستجعل لزاماً أن تكون القرارات على المستويين الفردي والجماعي قرارات فورية للتكيف مع تحديات آنية سريعة التحول والتغير، إلا أنها مع تحولاتها السريعة هي تحديات مصيرية بالنسبة للأجيال.
ولعل من أخطر وأهم مظاهر التحديات ما عبرت عنه الكاتبة بقولها: “الفكرة الأساسية التي ينبني عليها الكتاب هي أن الأنا الخاصة أو الخصوصية الذاتية الفردية، التي تعتبر أثمن ما حققته البشرية، أضحت الآن أشد عرضة للأخطار مما كان عليه الحال في الماضي، ترى إلى أي مدى يمكن أن يمثل التطور العلمي والتكنولوجي اعتداء جماعياً على الخصوصية الذاتية للفرد؟ وما هي احتمالات ردود الأفعال؟..