ربيع التفتيت
محمد ناجي أحمد
في عام 1982م نشرت مجلة(الأهرام الاقتصادي )الصادرة عن (مؤسسة الأهرام)ترجمة إلى العربية عن الإنجليزية ،أعدها بدر الرفاعي ،لمقالة كتبها بالعبرية الصهيوني(أوديد بوفون)وترجمها إلى الإنجليزية (إسرائيل شاهاك)كانت المقالة حول (استراتيجية الهيمنة الإسرئيلية على العالم العربي.ص190أسرار سياسية عربية-عبد الهادي البكار .
وبحسب عبد الهادي البكار في كتابه آنف الذكر فإن الاستراتيجية الإسرائيلية على المنطقة العربية وفقا لمقالة (أوديد)تقوم على :التفجير الطائفي ،فالعالم العربي –وفقا للمقالة-يحمل الخطر الرئيسي على إسرائيل،ومشروع(إسرائيل الكبرى )في المنطقة .ولهذا طرحت استراتيجية التقسيم للدول العربي ،وشملت مقالة أوديد تقسيم السودان ومصر والعراق ولبنان ،وقد وضعت استراتيجية متماثلة للعراق ولبنان .تقول المقالة “أما دولة العراق فهي لا تختلف في المستقبل عن لبنان .وأما جميع إمارات الخليج والعربية السعودية فقد بنيت من بيت هش من الرمال ،حيث لا يوجد سوى البترول …”وتقسيم مصر يكون بإنشاء دولة مسيحية خاصة في مصر العليا ،على امتداد عدة دول ضعيفة ،ذات سلطات محلية للغاية .وتقسيم لبنان إلى خمسة أقاليم يصلح لأن يكون سابقة لكل العالم العربي ،شاملا بعد ذلك مصر وسوريا والعراق وشبه الجزيرة العربية.وهو شبه الجزيرة الذي يسير سيرا حثيثا على هذا الدرب.وتقسيم سوريا والعراق إلى أقاليم عرقية ودينية ومذهبية على غرار لبنان.
هذا هو هدف إسرائيل في المشرق العربي،وقد نفذته في اليمن من خلال مشروع الأقاليم الستة ،وفق معايير ثقافية ،أي عرقية ومذهبية وجهوية ،مع وضع خاص للساحل والممرات المائية ،ومدينة عدن ،والجغرافيات النفطية !
ومن أجل إنجاح هذا المشروع فإن استهداف الجيوش العربية بتفكيكها يظل مقدمة أساسية لنجاحه.
من الواضح أن تقسيم اليمن إلى ستة أقاليم ليس من بنات أفكار (مؤتمر الحوار) وإنما هدف استراتيجي تضمنته مقالة (أوديد بوفون)بداية ثمانينيات القرن العشرين.فإذا هي استراتيجية صهيونية تم تمريرها باسم مؤتمر الحوار…
“إن التوجه الإسرائيلي الهادف إلى تقسيم الدول العربية إلى وحدات صغيرة يطرأ مرة بعد أخرى في الفكر الإسرائيلي ،وعلى سبيل المثال فإن (زييف كثيف)المراسل العسكري لـ(هاآرتس)الإسرائيلية ،وربما هو أكثر الإسرائيليين اطلاعا في هذا المجال –يكتب عن أن أقصى ما يمكن أن يحدث لصالح المصالح الإسرائيلية في العراق هو “تفكيك العراق إلى دولة شيعية ،ودولة سنية ،وانفصال الأكراد.”ص193-أسرار سياسية عربية –عبد الهادي البكار.
تشتمل الاستراتيجية التي وردت في مقالة (أوديد) تقسيم لبنان دستوريا إلى عديد دويلات طائفية :دويلة في سهل البقاع عاصمتها بعلبك،ودويلة مارونية عاصمتها جونيه ،وبيروت تكون مدولة ،ودويلة درزية.
وتفكيك مصر إلى:دولة قبطية عاصمتها الإسكندرية ،ودولة إسلامية عاصمتها القاهرة ،ودولة النوبة عاصمتها أسوان.ولهذا تم الاهتمام بالثقافة والفلكلور النوبيطيلة في العقود الماضية على أساس قطيعته مع تاريخ مصر !وكذلك سنجد أن الاهتمام بالاسكندرية وخصوصية لها ظلت تطرح خلال السنوات الأخيرة.
وتفكيك السودان إلى دويلة النوبة المتكاملة مع دويلة النوبة المصرية ،ودويلة الشمال السوداني الإسلامي ،ودويلة السودان المسيحي ،وقد تحققت دويلة جنوب السودان ،في ظل حكم الجبهة الإسلامية ،وعمر البشير ،دولة مستقلة.
وفي اليمن كما نرى فإن مؤتمر الحوار وبقرارات أمليت ،فقد تم فرض تقسيم اليمن إلى ستة أقاليم بلافتة اتحادية ،بعد تفكيك الجيش وضرب مؤسسات الدولة ممثلة بالجيش والخدمات ،وخلق حالة إفلاس وانهيار اقتصادي وصولا إلى جعل التقسيم أمرا واقعا ،بعدوان واحتلال قادته السعودية طيلة الخمس السنوات الماضية،فبعد أن فشل تمرير التقسيم باسم الحوار الوطني ،جاء العدوان باسم التحالف الذي تقوده السعودية،كواجهة غربية صهيونية ،لتفرض التقسيم والتفتيت،وتخليق الأساطير المناطقية والمذهبية والجهوية بين أبناء الوطن الواحد ليصير اليمني عدوا لليمني، في تذرر يحقق الاستراتيجية الصهيونية في اليمن والوطن العربي.
لقد اشتغل الغرب تحت لافتات مراكز دراسات اجتماعية واقتصادية وثقافية وحقوقية ،ليتسلل إلى عمق التكوين الاجتماعي العربي ،مما يجعل استراتيجية التفتيت مبنية على وعي شامل بطبيعة المجتمعات العربية ،محولا الثغرات الهشة إلى استراتيجية تفتيت ،سواء بما يتعلق بالبربر وتحويل ثقافتهم ولغتهم المحكية إلى لغة مكتوبة ،وتأسيس أكاديميات تعزز من البربرية وتخليقها كأمة ،وفي اليمن لا زالت المحاولات مستمرة لتحويل وتخليق القحطانية والعدنانية ،في مواجهة واقتتال !أو بخصوص النوبة وتعزيز أوهامهم بأنهم ليسوا عربا ،وأن قضيتهم مع مصر والسودان ينبغي أن تكون قضية استقلال ومصير!أو بخصوص الأكراد في سوريا والعراق وتركيا وإيران ،واستثمارهم في جعل هذه الدول في قلق وجودي دائم!
ومع هذه الخارطة الاجتماعية الواضحة للغرب والصهيونية فإن الأبواب تصبح مفتوحة لتمكين (إسرائيل الكبرى ) لتسيطر وتتمدد في المنطقة العربية ،من خلال بوابة التفتيت العرقي والجهوي والطائفي للوطن العربي ،والأمة العربية ،فالأمة العربية والوطن العربي كيان حضاري يقتضي التنوع والتعدد ،لكن المشروع الغربي الصهيوني في ظل ضعف الأمة ،يحول عناصر القوة من تنوع وثراء إلى عناصر اختراق ،أو بحسب عبد الهادي البكار ،في كتابه آنف الذكر”لتكريس الصهيونية الإسرائيلية ،وتحويل شعوب ومجتمعات المنطقة إلى أسراب سوائم من الأغنام ،تعطي الراعي الأشقر المسيطر عليها :الحليب والقشدة والسمن واللحم والصوف ،ولا تأخذ بالمقابل سوى طعامها من العلف والعُشْب الغض المرصع أحيانا بألوان أزهار برية زاهية ما تلبث أن تتفتح حتى تذبل ثم تموت”ص206أسرار سياسية عربية –عبد الهادي البكار –دار الخيال –القاهرة –ط1-2000م.
بهذا السياق تصبح إقامة دولة للبربر ودولة للبوليساريو ودولة للنوبة الهدف منها تفكيك ليبيا والجزائر والمغرب ومصر !
وبخصوص العراق فقد تبنت الولايات المتحدة إقامة المؤتمرات والندوات من أجل إنعاش الآشورية وتحويلها إلى قضية مصيرية ،تبدأ بالحقوق اللغوية والسياسية الذاتية لتتحول إلى قضية تقرير مصير قومية تم بعثها من الرماد والهشيم!
لم تكن فكرة الربيع من مخاضات 2011م ،بل كانت قديمة ،ففي عام 1980م كان ما سمي بـ(الربيع الأمازيغي )في أعقاب الحوادث الدامية التي عاشتها مدينة (تيزي أوزو)الجزائرية وضواحيها ،ولم تكن بصمات فرنسا بعيدة عن ذلك (الربيع) فقد عملت منذ ستينيات القرن العشرين على إنشاء الأكاديمية البربرية في باريس عام 1967م ،وبدأ السعي الفرنسي لاختراع الحروف الأمازيغية على شكل الحروف اللاتينية …ومن (ربيع)الاستراتيجية الفرنسية تجاه المغرب العربي ،إلى (ربيع)الولايات المتحدة وبريطانيا والصهيونية في وطننا العربي خلال هذه السنوات والقادم الذي يقتضي تنبهاً ووعياً ومواجهة وجودية ،نعلن من خلالها إصرارنا وتمسكنا بكينونة هذه الأمة بوطنها الواحد ورسالتها الحضارية !