د.إسماعيل عبدالله الوظاف
من المعلوم أن العرب في جاهليتهم لم يعرفوا نظام الوقف بمعناه الشرعي على وجه القربة، تبرراً وطاعة لله سبحانه وتعالى، بل كانت لهم تصرفات كانوا يمارسونها في حياتهم الجاهلية أنكرها عليهم الإسلام، فقد كانوا يحبسون أموالاً لهم من الأنعام كـ( البحيرة، والسائبة والوصيلة، والحام )[1] يتقربون بها إلى طواغيتهم وأصنامهم، لنحو برء من مرض أو نجاة في حرب أو بلوغ منزلة، ويُحَرِمون ظهورها فلا يحلبها أحد من الناس، فلا تركب، ولا تمنع من ماء ولا كلاء حتى تموت، وإذا ماتت أكلها الرجال لا النساء، وهو ما حكاه الله تعالى عنهم في سورة الأنعام في قوله تعالى{وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ، وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا، وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ }[2]
فلمَّا جاء الإسلام أبطل ما كان يفعله العرب في الجاهلية من تحريم ما رزقهم الله من الأنعام وعدم الانتفاع بها وذلك قضاءً على الوثنية بقوله تعالى:{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ }[3]
هذا وقد صرح الفقهاء على أنه لم يكن في الجاهلية وقف على الوجه المشروع الذي يقصد به القربة والطاعة لله سبحانه وتعالى، وينعكس بالخير على المجتمع، فقد قال العلامة الدسوقي “لم يحبس أحد من الجاهلية داراً ولا أرضاً ولا غير ذلك على وجه التبرير، وأما بناء الكعبة وحفر زمزم فإنما كان على وجه التفاخر لا على وجه التبرر”[4]
وقال الإمام الشافعي “لم يحبس أهل الجاهلية فيما علمت، وإنما حبس أهل الإسلام. وقال النووي: وهو مما اختص به المسلمون”[5]
وهكذا يتضح لنا الفرق بين الوقف في الجاهلية، وبين الوقف في الإسلام، أن الوقف في الجاهلية المقصود منه الفخر والمكابرة، أما الوقف في الإسلام فهو نوع من أنواع الصدقات، ومظهر من مظاهر البر والإحسان والتعارف على الخير الذي حثّ عليه الشارع الكريم، ورغّب في الإكثار منه.
فالوقف إذاً نظام إسلامي محض، وعمل من أعمال البر العظيمة التي أثبتها الإسلام في أرضه، ودعا إلى تطبيقها حرصاً منه على زيادة أعمال البر من المسلمين في وجوه الخير، وأنه ليس قاصراً على الفقراء وحدهم، بل يتعدى نظام الوقف في الإسلام إلى أهداف اجتماعية واسعة، وأغراض خيرة شاملة في شتى مجالات الحياة.
في المجال الاقتصادي يساهم الوقف في تحقيق التنمية الاقتصادية من خلال تخفيف العبء عن كاهل الدولة ،فهو يسهم في إقامة المرافق الاقتصادية النافعة التي تعود على المجتمع بالخير والنفع العام كبناء المساجد والمدارس والجامعات، وإنشاء الطرقات وحفر الآبار وغير ذلك من الجهات الخيرية التي تلبي حاجات المجتمع.
وفي المجال الاجتماعي تظهر مصلحة الوقف في مشاركته مع الصدقات والوصية والنذور في عملية التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع مادياً ومعنوياً، مادياً من خلال مساعدة المحتاجين والضعفاء والأيتام والعجزة والفقراء والمساكين، ومعنوياً من خلال تقوية الروابط العائلية والإنسانية وتسويد الحب والروابط الوثيقة بين الأغنياء والفقراء.
وسوف نتكلم هنا بشيء من الايجاز عن أنواع الوقف في القانون ووسائل تحقيق أغراضه.
أنواع الوقف في القانون
لقد نص قانون الوقف الشرعي اليمني رقم (23) لسنة 1992م على أنواع الوقف في المادة (3) منه حيث عبرت بما نصه ( .. وهو نوعان:
أ- وقف أهلي.
ب- ووقف خيري.
كما بين القانون اليمني للوقف معنى كل من الوقف الأهلي والوقف الخيري، وذلك في المادة (4) من هذا القانون إذ جاء فيها مانصه:
– الوقف الأهلي: هو ما وقف على النفس- أو الذرية.
– والوقف الخيري: هو ما وقف على جهات البر الخاصة والعامة، مثل كوائن زبيد والكوائن عبارة عن أوقاف من واقفين متعددين، جهل ما وقفه كل واحد منهم وجهات مصارفها، فمضت إلى الأوقاف العامة.
هذا والجدير بالذكر –أن الوقف على النفس أو على الذرية أو على الأولاد وأولاد الأولاد، لا يصح في القانون اليمني وإن كان القانون قد ذكرهما هنا فهو على سبيل التمثيل لا الإجازة ضمن تقسيمه لأنواع الوقف حيث عبر القانون على بطلان الوقف على النفس صراحة، وكذا على الذرية والأولاد، في المادة (33) منه بقوله :”الوقف على النفس خاصة أو على وارث أو على الورثة أو على الذرية أو على الأولاد وأولاد الأولاد باطل ما لم يكن المذكورون داخلين في عموم جهة بر عينها الواقف في الحال”
تحقيق أغراض الوقف:
من المعلوم أن الهدف العام من الوقف هو نفع الجهة الموقوف عليها وجزيل الثواب لفاعله ، ولتحقيق أغراض الوقف المقصود منه للانتفاع به ، واستمرار غلته على الدوام، وعدم تفويت منفعة من منافعه هناك عدة وسائل يجب مراعاتها والقيام بها، وهذه الوسائل هي:
أولاً: صيانة الوقف المادية
من أهم وسائل تحقيق أغراض الوقف صيانة الوقف المادية وذلك بتعمير ما يحتاج إلى تعميره وذلك بالصرف على الوقف من غلته ابتداء قبل صرف غلته على مستحقيها، لأن الوقف لو ترك من غير صيانة لم يحقق الغرض المقصود منه وتسارع إليه الخراب.
ثانياً: اختيار المتولي الصالح
اختيار المتولي الصالح ، واختياره كما قلنا سابقاً إما أن يختاره الواقف، أو يعينه القاضي أو الجهة التي لها ولاية النظر العامة على الأوقاف، والضابط في المتولي الصالح ما يستفاد من الآية الكريمة ” إن خير من استأجرت القوي الأمين”
ثالثاً: جهاز مراقبة في الجهة التي لها ولاية النظر في شؤون الأوقاف
وهذه المراقبة تكون لمتولي الوقف الذي عينه الواقف أو عينته جهة الأوقاف فيها، وأن تستمر الرقابة، وأنه اختير القوي الأمين لولاية الوقف، لأنه كما يقول الفقهاء “قد يخون الأمين ويفش الناصح” فاعتبار الأمانة فيمن أنيطت به الولاية على الوقف أمر لا بد منه وحق على الإمام والحاكم أن ينـزعا يد من لم يكن كذلك، فإنه وإن سعى في مصالح الوقف أبلغ سعي فإنه مظنة للخيانة لأن الأمور الدينية متساوية الأقدام ومن خان الله في بعضهما لا يؤمن في البعض الآخر.
رابعاً: تخصيص محكمة للنظر في شؤون الأوقاف
ومن وسائل تحقيق أغراض الوقف تخصيص محكمة للنظر في شؤون الأوقاف أو إنشاء محكمة ” ولاية المظالم ” التي جاء بها نظام القضاء الإسلامي، لأن هذه المحكمة من صلاحيتها النظر في قضايا الأوقاف والتعديات عليها.
أو اقتراح أن يكون للأوقاف مجلساً خاصاً من علماء البلد بعيداً عن تشكيلات الدولة، ويكون لهذا المجلس شخصية قانونية، وصلاحية للدفاع على الوقف، وإقامة الدعاوى اللازمة بشأنه في المحاكم المختصة، ويعين ولاة الأوقاف والنظر في شروطهم ومحاسبتهم في تنفيذ شروط الوقف.
خامساً: إقامة نظام الحِسّبة للنظر في التجاوزات على الوقف
ومن وسائل تحقيق أغراض الوقف إقامة نظام الحِسّبة للنظر في التجاوزات والتعديات على أموال الوقف الذي قرره نظام القضاء الإسلامي، ومن وظائف المحتسب النظر في المنكرات ومنها النظر في التجاوزات والتعديات على أموال الوقف.
ولذا يجب توعية أفراد الشعب، بأن لهم حقهم في إقامة دعاوى الحسبة في قضايا الوقف، وإقامة الدعاوى على غاصبي الوقف ، وهذا ما نص عليه الفقهاء وهم يتكلمون عن دعاوى الحسبة أو شهادة الحسبة.
سادساً: وضع تعليمات خاصة برعاية الأوقاف
ومن وسائل تحقيق أغراض الوقف وضع التعليمات الخاصة برعاية الأوقاف والنص فيها على ما يحفظ الوقف ومن ذلك:
أ– عدم سقوط دعاوى الوقف بمرور الزمن.
ب– تضمين غاصب الوقف قيمة منافع الوقف طيلة مدة بقائه تحت يده.
ج– إيجاد العقوبات التعزيرية لغاصب الوقف.
سابعاً: عدم المساس بشروط الواقف
ومن وسائل تحقيق أغراض الوقف، عدم المساس بشروط الواقف مادامت لا تخالف الشرع، وهذا هو معنى قول الفقهاء “شرط الواقف كنص الشارع” أي عدم التدخل في هذه الشروط ما دامت مشروعة ولزوم تنفيذها، كالتسوية والتفاضل بين المستحقين أو فيما يبدأ به الناظر أولا عند قسمة الغلة أو في المصارف التي ينفق عليها أو في طريقة استغلال الوقف ،.. الخ
أما لو شرط الواقف مثلاً للمتولي أن يبدأ في صرف غلة الوقف للمستحقين ويترك إصلاح الوقف إن احتاج للإعمار بطل شرطه.
ثامناً: استثمار أموال الوقف
ومن وسائل تحقيق أغراض الوقف استثمار الغلة (الوفر) في غير جنس الوقف بالمضاربة فيها والمتاجرة لتحصيل مردود أكبر للوقف، وذلك من خلال الاستعانة برجال الاقتصاد، لمعرفة أحسن الطرق لاستغلال غلات الأوقاف للقيام بتنفيذها من قبل مجلس الأوقاف المقترح.