التمايز الثقافي وحركة التوازن السياسي
عبدالرحمن مراد
بطبيعة الأحداث الكبيرة التي تمس بنية المجتمعات أن تعمل على التفكيك وتقوم بإعادة البناء وفقاً لظروف ومناخات المرحلة وتأثيرات الآخر وظلاله، لذلك فالقول بالشعارات السياسية قد لا يكون تعبيراً صادقاً عن التكوين البنائي الذي يأخذ مسارات عدة لم تكن تخطر ببال السياسي الذي يطلق الشعار على عواهنه ولا يدرك تأثيراته وتفاعلاته التي تنتج عنها معادلة جديدة تصوغها المنظومة العقائدية والاجتماعية والثقافية.
فالسياسي الذي ذهب إلى مناخات الربيع العربي بشعارات ثورية وشعارات تحررية وشعارات مكافحة الفساد والتداول السلمي للسلطة كان يبطن في كوامن نفسه الوصول الى السلطة تحت مبرر القاعدة البراغماتية الغاية تبرر الوسيلة ولكنه بمجرد أن وصل الى غاياته وأهدافه السياسية انقلب على عقبيه وأراد أن يفسح لتجارب الماضي كي تتكرر في واقعه فلم يستمر أمده طويلاً حتى وجد نفسه يغرد خارج سرب الربيع العربي ولم يدرك انه بشعاراته وبمظلاته الثورية قد ساهم في تفكيك البنى الثقافية والاجتماعية المساندة للاستبداد وانه أصبح يتعامل مع واقع أكثر تعدداً وأكثر تمايزاً ولا يمكنه أن يكون فيه حاكماً ابداً.
لقد كنا نسمع بالأمس القريب مثلاً أن الحاكم العربي المستبد يهيمن على أدوات السلطة، فالقوة بيده, والمال بيده, والاعلام بيده ,ومثل تلك التبريرات ظلت ردحاً من الزمن حتى ماج الربيع واستيقظت الشعوب فاذا بالجيوش لا تكاد تدفع عن الحكام شيئاً وظل تدفق الجماهير الى الشوارع هو الأقوى والأكثر فاعلية …, وتمايز الناس فأصبحوا جماعات وكيانات وأحزاباً وأصبح كل أولئك يملكون المال ,ويملكون الاعلام ,وما نكاد نرى جماعة دون أن تكون لها وسيلة اعلامية، فالكل أصبح يملك المال والاعلام وأصبح التعدد سمة مرحلة ما بعد عام 2011م , وحين تتمايز الجماعات والكيانات وتصبح ذات وجود وذات نفوذ وقوة وذات مال واعلام لا يمكن التعامل مع مجالاتها الانتقالية والمتغايرة الجديدة بنفس الثقافة القديمة، بل قد يصبح الاعتراف بالتعدد وبحقه في الوجود والتمثيل وفي صناعة التاريخ شرطاً جوهرياً واساسياً في الاستمرار.
القضية لم تعد في الشكل بل تكاد أن تكون قد تجاوزته إذ أن أكثر ما يهدد المجتمعات في الوقت الذي نعيشه هو حالات الانقسام وحالات التشظي في ظل ما تشهده المجتمعات من تحيزات فكرية ومن تخندق وادعاءات في امتلاك الحقيقة، ومن مشاعر الانتقاص وفقدان القيمة للآخر، ومن تسفيه المعتقدات والآراء …, والقارئ المتَمعِّن بجد أن ثمة جماعات تتربص بمن يخالفها الدوائر , وثمة جماعات ترى أن الاسلام في التفجيرات والعبوات الناسفة، وفي استهداف مصالح الناس العامة، فالذي كان يحدث في مارب والجوف وحضرموت هو ذاته الذي كان يحدث في سيناء أو في العريش في مصر، فالتناغم والتجانس حالة متصمدة لا تكاد تنفصل.
كما أن حالة من حالات التفكك تكاد ان تكون قد وصلت الى الجماعات المتجانسة، فالذين يرون جواز فتح عيادات التداوي بالقرآن أو عيادات التداوي بالسنة هناك من يرى تحريمها ويرى تحريم حالات التكفف وفرش الشيلان أو وضع المحصلات لدعم حلقات تحفيظ القرآن في حين يرى فريق من ذات الجماعة جواز ذلك، ومثل ذلك الجدل نتيجة طبيعية لحالات الفرز والتمايز الثقافي والاجتماعي التي بالضرورة قد تفضي الى التعدد .
ونحن ندرك أن حزب النور السلفي في مصر كان جزءاً من حركة الاخوان واصبح كياناً مستقلاً ومثل حزب النور حزب الرشاد في اليمن الذي كاد أن يعد العدة لتصدر المشهد الثقافي والسياسي في ظل ما يشهده اليمن من تشظٍ، ومثال آخر هو الحراك الجنوبي الذي يعاني الانقسام والتعدد في الكيانات وفي المنطلقات، فالمشهد السياسي والاجتماعي والثقافي لم يعد كما كان وبالتالي فالتفاعل معه بالأدوات والوسائل والآليات القديمة اصبح ضرباً من المستحيل..
ما حدث في مصر في 30 يونيو 2013م كان نتيجة طبيعية لمثل ذلك الاعتمال والتمايز، وهي حالة تراتبية كان يفترض أن لا تتجاوز نسقها.
إن مشكلة اليمن هي أن الخواتيم تسوء في حين أن بقية البلدان تحسن خواتيمها ولليمن في ذلك تاريخ طويل ,وما يحدث اليوم في عدن يحمل دلالة ما نذهب اليه من قول .
لم تكن الحالة اليمنية خارج السياق العام الذي حدث في عواصم الربيع العربي بكل ما تحمله من معانٍ ومن شعارات لكن كل هذا التشظي وتلك الانقسامات وكل هذه الصراعات قد تكون من الضرر الذي يحمل الخير في بواطنه فالصهر في أحيان كثيرة قد يجعل الشوائب في حالة فرز حقيقي وتمايز حتى تستبين الجماهير الرؤية فتعي مصلحتها خارج مدارات النعيق السياسي وهي قادرة في حالة الغليان النفسي على إدراك من يبغي نفعها من الذي يبغي نفع نفسه من خلال ما تراه من شيطنة للقوى الوطنية ومن واقع يكاد ينطق بحقائق الامور .
اليوم القوى العميلة في عدن وفي جناح ما يسمى بالشرعية أدركت أن العمالة لا تصنع وطنا ولا يمكنها ذلك وأن الالتحام بالجماهير الوطنية وبتطلعاتها هي السبيل الأمثل هذا الادراك جاء متأخرا بعد أن كادت الجماهير أن تقذفهم خارج سياج اهتمامها وتعرت أهدافهم أمامها من خلال ذلك الشلل الذي ظهروا عليه في تفاعلهم مع أحداث عدن .
لقد فقد هادي وشرعيته آخر علاقات تربطهم بالقضية وبالشرعية وبدأت حركة توازن سياسي تفرض نفسها في مسار الاحداث، وأصبح هو وزمرته الحلقة الأضعف فيها وسوف نشهد تبدلا وتغيرا جديدا بعد أحداث عدن .