قراءة في أرشيف الذاكرة اليمنية


تطورات وأحداث زلزلت عرش الإمامة وجعلت مستحيل الثورة ممكناٍ

وهو يسدد طلقات بندقيته الآلية إلى صدر الطاغية أحمد حميد الدين آخر الحكام الأقوياء لدولة الأئمة في اليمن دشن الملازم الشهيد محمد عبدالله العلفي في ذلك المساء من شهر مارس عام 1961م حقبة جديدة من العمل والكفاح الوطني لتحرير الوطن اليمني شمالا وجنوبا وتخليصة من الحكم الإمامي والاستعماري فتلك المحاولة وإن كان قد كتب لها الفشل بنجاته واستشهاد الذين قاموا بها.. فإنها وبتأثيراتها الجلية الظاهرة قد أزالت كتلة الإحباط التي جثمت على نفوس أبناء الحركة الوطنية الذين صدمتهم مآلات حركة الانقلاب في عام 1955م بقيادة الشهيد الثلايا حين اسفرت عن مذبحة كبرى ذهب ضحيتها عشرات القادة والمثقفين البارزين من طلائع النضال ضد الحكم الإمامي وبما نتج عنها من تكريس لأسطورة الإمام الذي لا يقهر والذي يحبه شعبه خوفا من بطشه كأقوى تعبير لمقولة ميكيافيللي للأمير “عليك أن ترعبهم وتغرس في قلوبهم الخوف من بطشك ليبحثوا عن مزاياك فيحبوك”.

وبدقة أكثر تحديدا يمكننا القول أن محاولة الاغتيال من تنظيم الضباط الأحرار الذي تشكلت نواته مباشرة بعد فشل انقلاب 55م.. قد جاءت استجابة لأفكار ورؤى الرواد والقادة الروحيين للحركة الوطنية الذين تواجدوا آنذاك خارج الوطن وبدأوا منذ العام 1960م بإطلاق الدعوات لإقامة النظام الجمهوري على أنقاض الحكم الملكي لإنقاذ اليمن والانطلاق بها نحو المدنية والتنوير.
حيث مثلت هذه الدعوة نقلة نوعية في مسار العمل الوطني الساعي للتغيير بعد أن كانت محاولات التغيير السابقة تكتفي باستبدال شخص الإمام بإمام آخر وتنتهي كسابقاتها بالفشل.
وغير بعيد عنا ما أحدثته تلك المحاولة من إيقاظ لروح التحرر وبما جعل النظام الإمامي يستشعر مخاطر الانهيار فبدأ بالتخبط واتخاذ قرارات خاطئة ساعدت في إنهائه ولم تفلح في إنقاذه من مصيره المحتوم.
في الملف التالي لن نخوض كثيرا في تفاصيل تلك العملية أو المحاولة الفاشلة لاغتيال الإمام أحمد.. بل سنتطرق إليها في سياق بحث متعمق وقراءة تسلسلية لمجمل الاحداث والظواهر التي برزت على مسرح الأحداث في ظل الحكم الإمامي لشمال الوطن على مدى العامين 60 و61م والتي سارت باليمنيين إلى تفجير ثورتهم الخالدة في 26 سبتمبر 1962م.
الضباط الأحرار
في أعقاب حركة 1955م التي قادها المقدم أحمد الثلايا واستمرت أياما قليلة.. شهد الحراك الوطني في اليمن نوعا من السكون والهدوء على مدى خمسة أعوام.. حيث عمد الإمام أحمد حميد الدين إلى مداهنة الجمهورية العربية المتحدة في سبيل الضغط على رواد الحركة الوطنية الذين كانوا يتخذون من القاهرة وإذاعة صوت العرب منطلقا للعمل التحريضي والتنويري للجماهير في اليمن.
وهو ما حدث بالفعل حيث أفلحت هذه السياسة مؤقتا في إضعاف الجهود الثورية التي كان يقودها من هناك كل من النعمان والزبيري رحمهما الله.
وجاء العام 1960م ليشهد حركة نوعية داخل صفوف الجيش وذلك بتأسيس تنظيم الضباط الأحرار على يد مجموعة من الضباط الشباب الذين تقول المصادر وشهادات عدد منهم أنهم كانوا من المقربين لولي العهد محمد البدر والذي كان يعمل على استمالة الجيش لصالحه في صراعه مع عمه الأمير الحسن بن يحيى حميد الدين وعلى خلافة والده سنعرض له لاحقا بالتفصيل.
وقد كان لقيام هذا التنظيم على أيدي ا لضباط المنبهرين بتجربة أقرانهم في الجيش المصري الذين نجحوا عام 1952م في إنهاء الحكم الملكي في مصر.. كان له أكبر الأثر في إذكاء العمل الثوري والوطني في سبيل التغيير وإنقاذ اليمن من أوضاعها المزرية.
تقول الباحثة الروسية جلوبوفيسكايا كما نقل عنها الباحث اليمني الكبير سلطان ناجي في كتابه “التاريخ العسكري لليمن”:
“في هذه الفترة –بداية الستينيات- وفي شمال اليمن بالذات بدأت تتكون مجموعات ومنظمات سرية من ذوي الاتجاهات المعارضة لحكم الإمام.. وأكثر هذه المنظمات السرية نشاطا وتأثيرا كانت “منظمة الأحرار” التي قادها علي عبدالمغني وعبدالله جزيلان وقد تأسست هذه المنظمة رسميا في ديسمبر من عام 1961م في صنعاء واشترك فيها ضباط من صنعاء والحديدة وتعز كما اشترك أيضا فيها بعض ضباط البوليس.
وقد كان لمجموعة الضباط الأحرار اتصال وثيقاٍ بطلاب المدرسة الحربية بصنعاء. ومن الناحية الرسمية لم ترتبط مجموعة الضباط الأحرار بأية منظمة سياسية مدنية حتى الشهرين الأخيرين من قيام الثورة عندما قامت بالاتصال ببعض العناصر الوطنية والسياسية في البلاد.
على أن نشاط أعضاء هذه المنظمة قد بدأ منذ وقت طويل من أنشائها رسميا وذلك بعد فشل انقلاب عام 1955م.. لقد وضحت محاولة اغتيال الإمام أحمد لقد وضحت هذه المحاولة التي أعد لها “الضباط الأحرار” في مارس عام 1961م أنه لا يمكن أن تتكرر لأن فشلها يعني التصفية النهائية لهذه المنظمة: لهذا وضعت المنظمة نصب عينيها مهمة اسقاط عائلة حميد الدين وتأسيس نظام جمهوري في البلاد. “
وعلى امتداد الأعوام 60 و61 و62م جاءت الأحداث والمتغيرات والأخطاء الكارثية التي ارتكبها الحكم الملكي لتخدم هذا التنظيم وتتيح له الفرصة الثمينة لتفجير الثورة الشاملة ضد الحكم الملكي وإقامة الحكم الجمهوري الذي طالما حلم به أبناء الشعب.
الصراع داخل السلطة
كسوابقه من الأعوام بدا في العام 1960م أن الإمام أحمد بات مقتنعا بما قام به من خطوات سياسية للضغط على الحركة الوطنية بالقاهرة والحد من تأثيراتها على الداخل.. وبدأ بالبحث عن حلفاء في الداخل لمواجهة شقيقه الحسن ومن يقف بصفه لتنفيذ وصية والدهما ا لإمام يحيى والتي قضت بأن يكون الحسن وليا للعهد.. حيث إدعى الإمام أحمد لابنه محمد البدر بولاية العهد مما أدى إلى تفجر الوضع في صنعاء داخل الأسرة الحاكمة ونتج عن ذلك وقوع اشتباكات في العاصمة صنعاء نفي على إثرها إلى نيويورك وتعينيه مندوبا للإمام بالأمم المتحدة كما تؤكد ذلك صحيفة “القلم العدني” الصادرة في 3 مايو 1961م بقلم رئيس تحريرها علي محمد لقمان في مقال افتتاحي بعنوان “ما وراء استدعاء سيف الإسلام الحسن من نيويورك” حيث أشار إلى تلك الأحداث بقوله:
“وكانت اليمن قد مرت بتجربة قاسية في عام 1959م حيث تغيب جلالة الإمام في روما وبقي البدر وحيدا في صنعاء فقد وقع صدام بينه وبين بني عمومته وتتالت حوادث أوشكت أن تفلت زمام الأمن من أيدي السلطة “
.. وقد كان لهذا الصراع على ولاية العهد أثره الكبير في إضعاف السلطة وهو ما أشارت إليه صحيفة فتاة الجزيرة بتاريخ 25 ابريل 1961م العدد (2010) في مقال تحليلي كتب بعد محاولة اغتيال الإمام أحمد بالحديدة ..
وجاء فيه تحت عنوان :هل تصبح اليمن ميدان صراع بين البدر والحسن¿ مايلي:
يشاع أن الأمير سيف الإسلام الحسن الأخ الأكبر لجلالة الإمام أحمد قد وصل إلى اليمن وهذا خبر غير مؤكد بالمرة غير أن الشعور السائد أن الأمير الحسن بن يحيى حميد الدين هو الشخصية الهامة البارزة بعد الإمام أحمد لما عرف عنه من الإقدام ولما جناه من الخبرة الطويلة في إقامته بالولايات المتحدة نائبا عن اليمن في هيئة الأمم المتحدة.
والأمير الحسن مزارع خبير وله إلمام بالتشريع الداخلي وبشتى القبائل اليمنية التي تنظر إليه بعين الاعتبار والتقدير.
وإذا ما تأكد لدى الحسن أن أخاه الإمام مريض لا يستطيع القيام بواجبات الدولة وأن الأمر سيفلت من يديه إذا ما مات الإمام وتولى زمام الأمر فريق يقع فريسة أغراض شخصية وأهداف تبعد عن مصالح اليمن وتقف حائلا بين الحسن وبين الإمامة فإن الحسن لن يتأخر عن المجازفة بالوصول إلى اليمن ليحاول ان يكون ملكا فيها بمساعدة أنصاره الكثيرين الذين تفرقوا خلال غيابه الطويل ويقال أنه على اتصال دائم بهم.
والأمير البدر يحسب لعمه الحسن ألف حساب وهو يعرف أن أمريكا قد تسانده إذا ما القيت إليه مقاليد الأمور في العربية السعيدة.
وكان قد شاع أنه وصل إلى القاهرة قبل نزوله في اليمن ولكن المعروف أن الجمهورية العربية المتحدة تؤيد سيف الإسلام البدر لأنه قد أعلن عنه أنه ولي عهد الإمام وللإمام بالجمهورية العربية ارتباط وثيق وإذا كان قد أعرب عن رغبته في ولاية عهد ولده فإن الجمهورية العربية قد تحقق رغبة الإمام وقد لا تسمح للحسن في إحداث اضطرابات في اليمن المعدودة أنها متصلة باتحاد فيدرالي معها.
وإلى الآن لم يظهر الروس ولا الصينيون أي ميل نحو الفرق المتكالبة على الحكم في اليمن ولكن المعروف عن الروس أن لهم تأثيراٍ قوياٍ على الجيش والكل ينتظرون ما يتم بشأن مرض الإمام.
وفي هذا الاسبوع زارت مدمرة أمريكية الميناء الأحمدي بحجة جلب 300 خيمة للحكومة وقد زارها البدر وتعشى على ظهرها مع ربانها وزيارة البوارج الحربية لميناء الحديدة أمر نادر الوقوع ولكن الأمور في اليمن ليست هادئة هدوءاٍ طبيعيا.
وقد قام الروس بعرض عسكري في أشخاص الطيارين اليمنيين في الأسبوع الماضي وبرهن عدد كبير من شباب اليمن على اتقانهم للهبوط من الجو بواسطة المظلات.
والعصر الذي نحن فيه هو عصر الثورات المتتالية عصر هياج الشعوب وتفززها ومطالبتها بالخلاص من الأحكام الجائرة وقد فشلت عدة ثورات ثورة الحبشة وثور ة كوبا وثورة اليمن وحادث الاغتيال ضد الإمام الذي كان يعتقد العلفي ورفاقه أن الشعب اليمني سيثور بأجمعه بمجرد الهجوم على الإمام ولكنهم منيوا بخيبة أمل غير أن هذا الفشل في كل هذه الثورات لا يدل على أن النار قد خمدت ومن الخير أن تعمل الحكومات على اسعاد شعوبها. “
ولعلنا نستكشف في تحليل فتاة الجزيرة مايؤكد ان الصراع داخل البيت الإمامي كان يؤثر بدرجة كبيرة على تماسك السلطة وقدرتها على البقاء امام الهبة الثورية التي اندلعت في السادس والعشرين من سبتمبر بعدها بأشهر قليلة.
تحالفات فاشلة
كان من تأثيرات الصراع بين البدر وعمه الحسن سعي الأول بتوجيه من والده الى عقد تحالفات مع عديد من القوى في الداخل ولعل من بين تلك التحالفات التي أقامها الإمام أحمد وابنه محمد البدر ما بدا أنه محاولة لإقامة “حرس حديدي” غير معلن داخل الجيش يتكون من الضباط الشباب البارزين والأقوياء للإمساك بزمام الجيش ومواجهة أي محاولة انقلابية من الحسن.
وقد كان بالفعل لذلك “الحرس الحديدي” أن شكل الغطاء الأمثل لعمل الضباط الأحرار الذين كانوا هم أنفسهم أعضاء ذلك “الحرس” المفترض به حماية عرش الإمام البدر القادم من اطماع عمه الحسن.
على صعيد آخر ولذات الهدف سعى الإمام أحمد في العام 1960م إلى استمالة العلماء ورجال الدين بإقامة هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل من تعز والحديدة كما اشارت لذلك صحيفة “فتاة الجزيرة” الصادرة بعدن تاريخ 7 أغسطس 1960م تحت عنوان ” النهي عن المنكر يمارس نشاطه في تعز والحديدة” بالخبر التالي:
“أصدر جلالة الإمام أحمد ملك اليمن المعظم أمرا شريفا بتعيين هيئة خاصة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الحديدة.
وقد نص المرسوم الإمامي على تعيين الشيخ عبدالله مكرم إمام جامع الحديدة والسيد محمد بن محمد شرف الدين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحديدة وقد اخذت الهيئة بالأمر عملها في الثغر اليماني المتطور.
هذا وسوف يعلن قريبا عن هيئة خاصة أخرى للأمر المعروف والنهي عن المنكر في عاصمة اليمن الثانية تعز.”
ولعل هذه الخطوة وإن استمالت الأوساط الدينية المتشددة فإنها قد أوحت بمزيد من الانغلاق والترويج للحق الإلهي في السلطة الذي اتبعه الإمام.. الأمر الذي أدى إلى تحطم آمال الكثير من جمهور المثقفين ودعاة التنوير في الداخل الذين ظلوا على تعاطفهم معه هذا فضلاٍ عن ماترتب عن هذا الإجراء من زيادة التوتر في علاقات الإمام بالجمهورية العربية المتحدة التي كانت مؤثرة بدرجة كبيرة في تفعيل العمل الوطني ضد الإمام كما سنرى لاحقا.
سقوط الأسطورة
أشرنا سابقا إلى نتائج محاولة الاغتيال الفاشلة التي استهدفت الإمام أحمد أثناء تفقده لمستشفى الحديدة في شهر مارس 1961م.. وتروي لنا صحيفة الكفاح العدنية في عددها 20 الصادر يوم الخميس 28 ديسمبر 1961م تفاصيل هذه المحاولة بعناوين مثيرة جاءت كالتالي:
حقائق عن الضابط العلفي وزميله “اللقية” تذاع لأول مرة
وابل من الرصاص صوب إلى صدر الإمام.. وحركة أخيرة من العلفي للتأكد من وفاته
لماذا انتحر العلفي بعد أن أصبح يقينه واضحا¿
اللقية.. زميل للضابط المنتحر يقاسي الأهوال
وتورد الصحيفة تفاصيل العملية على النحو التالي:
من هو العلفي¿
الضابط العلفي شاب يقترب من العقد الثالث من العمر.. يتيم الأب عرف ألم اليتم ومرارته منذ بكورة صباه درس في “مكتب الأيتام” لتثقيف من فقدوا آباءهم ثم فاز إلى المدرسة المتوسطة فالمدرسة الثانوية ودخل الحربية.. وصار ضابطا طاف جميع أنحاء اليمن وعرف من حقائق الحياة ما لا يمكن أن يتوفر لشاب في مثل سنه
والذين يعرفون العلفي يؤكدون أن ثقافته الذاتية غرست في روحه الإباء والشمم وجعلته يحس دائما ذلك الإحساس الذي يخالج كل مثقف حر تؤلمه أوضاع بلاده ويرى محنتها جزءاٍ من محنته ومأساته الشخصية تماما كالقائد الثلايا سواء بسواء. ومثل هؤلا ء المثقفين الواعين الذين يبلغ درجة الوعي بينهم حدا يربط بين أزمتهم وأزمة بلادهم ربطا عضويا لا يتورعون عن أي عمل يعتقدون أن من شأنه إنقاذ أمنهم وبلادهم طالما أن حياة الأفراد لا قيمة لها بالنسبة لحياة هذه الشعوب التي هم منها وإليها.. فما بالنا والعلفي ضابط واع ومن تلامذة الضابط العراقي جمال جميل.. وأحد الذين أجبرهم الحسن على أن يشهدوا باعينهم مصرع جمال جميل فلم يزدهم هذا المشهد إلا تصميما على المضي في الخلاص من الحكم الفرد. الفرصة السانحة ووافت الفرصة العلفي حين عين ضابطا في مستشفى الحديدة.. وتفتحت الفكرة في نفسه أكثر وأكثر حين زار الإمام أحمد المستشفى وكان الحادث الكبير الذي تناقلته وكالات الأنباء العالمية
. لماذا انتحر¿
والسؤال هو: لماذا انتحر العلفي¿ هل انتحر كرها للحياة بعد أن بلغه عقب ارتكابه الحادث أن الإمام لم يمت بعد..¿
والجواب على هذا السؤال هو أن العلفي كان متأكدا بعد فراغ الرصاص من رشاشه أن الإمام أحمد قد قضي عليه.. وأنه لم يعد في عداد الأحياء.
ولكن العلفي يدرك أنه لن يعيش وكانت حياته قد نذرها لبلاده.. وحينها جاءه من يقول له أن الإمام لم يمت صوب إليه النار بعد أن عبأ رشاشه من جديد وقضى عليه ثم قضى على نفسه. ان الدافع النفسي لانتحار العلفي ليس هو إذن إحساسه بأن الإمام لم يمت بل لأنه لا يريد أن يموت بأيديد سلطات الإمام فإنه إن مات بأيدي هذه السلطات فإن ميتته هنا معناها أن السلطات تجعلها عبرة لكل من يعتبر.. والعلفي يأنف أن يكون عبرة سيئة بل يريد أن تكون نهايته بيده.
اللقية
وعقب انتحار العلفي وسحب جثته في الشوارع ألقت السلطات القبض على زميله ويدعى “اللقية” ولا زالت تعذبه حتى الآن لكي تجبره على الاعتراف.. ولكنه لم يعترف.. رغم ملاقاته الأهوال على أيدي السلطات لإجباره على الاعتراف.. فهو من نفس فصيلة العلفي ومن نفس تكوينه.
أجل.. إن الهمسات تشتد وتقوى: بأن جلالة الإمام أحمد لم يعد على قيد الحياة.. إذ ليس هناك دليل واحد على أنه حي.. بينما جميع الدلائل وأقواها صمت الإمام المطبق تشير إلى أنه صمت وإلى الأبد. “
بلا ادنى شك نستطيع بعد قراءة هذا العرض الخبري المشوب بلغة ادبية بديعة ذات صبغة جياشة نستطيع ملاحظة ان كاتبه حرص على اعتبار المحاولة فردية خالصة وانه ليس هناك تنظيم من أي نوع يقف وراءها ..وهو حرص له مايبرره والمتمثل في المحافظة على كيان تنظيم الضباط الأحرار واستمراره في العمل حتى اسقاط الإمامة .
وحشية القمع
كما يقال فإن الممالك الضعيفة الموشكة على السقوط تكون أكثر وحشية وأشد إيغالا في سفك الدماء من غيرها.
ولذلك لم يكن مستغربا أن يبادر الحكم الإمامي إلى التصرف بوحشية ضد التحرك القبلي الذي قام به في العام 1961م وعقب محاولة اغتيال الإمام في الحديدة مباشرة الشيخ حسين بن مبخوت شيخ حاشد آنذاك ..
حيث ظهر الدور السياسي للشيخ الشهيد قبلها بسنوات وتابع المنابذة للإمام يحيى وحدثت بينهم المعارك ثم عادت العلاقة إلى التحسن مع الحذر فكل متربص للآخر كما ذكر ذلك القاضي الأكوع في كتابه سالف الذكر :
ولما ذهب الإمام أحمد إلى إيطاليا للعلاج عام 1379هـ حدثت اضطرابات في تعز وصنعاء فاضطر ولي العهد محمد البدر أن يستنجد ببعض مشايخ اليمن فهب الشيخ حميد بن حسين الأحمر على رأس قوات كبيرة من حاشد وغيرها فدخل صنعاء في موكب مشهود والهدف من ذلك مناصرة ولي العهد . وتأكيد الولاء إلا أنها سرت في الناس إشاعة أن هذا مظاهرة وإرهاص لزوال الإمامة وقيام نظام جمهوري مما أفزع الإمام أحمد والهاشميين فأخرج الإمام أحمد فريقاٍ من الجيش بقيادة العميد عبد القادر أبو طالب بالذهاب إلى حاشد والتنكيل بقادتها وزعمائها º حتى يسلموا الشيخ حسين الأحمر وظلت الأمور متوترة بين الطرفين إلى أن انتهت بإعدام الشيخ حسين وولده حميد وحبس الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر إلى أن قامت الثورة اليمنية سنة 1962م .”
وعقب هذه الحادثة استمر مسلسل القمع للقبائل من قبل السلطة الإمامية وهو ما أدى إلى فرار الكثير من المشائخ إلى عدن كما تشير إلى ذلك صحيفة فتاة الجزيرة 4 سبتمبر 1962 العدد 2029 في خبر بعنوان (حكومة الاتحاد ترحب بالشيخ أبي دآؤود)
تقول في الخبر:
لجأ الشيخ صالح أبو داؤد الأرحبي إلى الاتحاد بعد أن تسلل عبر الحدود متنكرا في جنح الليل الأسبوع الماضي.
ورحبت حكومة الاتحاد الجنوبي العربي بأحد كبار مشائخ أرحب في أراضيها فالشيخ أبو داؤد يعتبر من أبرز رؤساء عشائر بكيل وزعيم مسموع الكلمة بين أتباعه الأشداء في أرحب.
ويقول مصدر له بأرحب صلات.. أن أبا داؤد يعد من أخطر رؤساء القبائل في أهالي اليمن وأنه يستغرب التجاءه بخارج الحدود وفي مقدوره أن يبقى في المنطقة يقاوم أي حملة ترسلها حكومة الامام أحمد.
ولا يعرف حتى الآن سبب خروج الشيخ أبي داؤد من أراضيه واختياره مناطق الاتحاد بالذات ولكن المعروف أن الإمام أحمد وولي عهده الأمير البدر كانا ولا يزالان يشعران بالقلق كلما بلغهما خبر من ابي داؤد أو عنه فإن اتباعه لا يقلون عن 25 ألف مقاتل!
ولم تصدر أي من حكومتي اليمن والاتحاد أي بيان حول الأنباء.. بيد أن مصادر عليمة أكدت لـ”فتاة الجزيرة” أن الشيخ موجود الآن في عدن.. في ضيافة حكومة الاتحاد.
وغير بعيد ما أثارته تلك الوحشية والعنف المفرط في التعاطي مع القبائل من سخط ونقمة من قبل أبناء هذه القبائل ومشائخها الذين كانوا ساخطين على الإمامة جراء نظام الرهائن الذي ضمن به الإمام ولاء تلك القبائل.. وهو ما أدى إلى تهيئة الطريق لإسقاط الإمامة بتلك الصورة السريعة في عام 62م.

قد يعجبك ايضا