أحمد بن علوان ..رجل الدين والسياسة الحلقة الثانية

غاص في ثنايا هموم الناس ولم يحتجب عن الواقع

تحقيق وإعداد/عدنان الجنيد

وكذلك قام بتوبيخ وتقريع أعوان الظلمة الذين باعوا دينهم بلُعاعةٍ من الدنيا، فاسمعه حيث يقول:
يــا بـائع التقــوى بـقيـمـة أكــلــةٍ وعصى الإله لقد ركبتَ الأخطَرا
بالـفلـسِ والقيـراطِ تصبح خـالــداً فـي نـارِ مـن كنزِ الكنوزِ وقنْطَرا
زقـومـها وحميـمـها وسمــومـهــا سيـّـان بـينـكـمـا تَقَـسَّــم أشـطـــرا
وقــرنـتمـا أســرى بـغــلٍّ واحـــدٍ تتــلاعنـان علـى الإحـالـة والمرا
وإذا أحـلت عــلــيه قـــال لأننـــي كنتُ الأمــير وكنت أنت المؤمَّرا
فخـرجت لا دنيـا ولا أخـرى معـاً انظـر لنفســك قبـل ذلك منـظـــرا
يـوم النـدا يـا بن مـن ظلم الورى والتـابـعيـن ومـن أمـرَّ ومـن بـرا
يُلقـون في التابوت كي يُرمى بهم فــي النــار سـيدنـا بــذلك أخــبرا
يـا مــستـحـَّـلاً للــمحـارم قــائــلاً أو ظــالمــاً أو جـاحـداً أو مُنـكِـرا
العدل خصمك في غدٍ فاحذر غداً مــادام يمـهلك الــنِـدَا أن تـحـــذرا
هـذا أخــوك أليـس ربـكمــا معـــاً أحــدٌ ألـيس نبيــكم خيــر الـورى؟!
فـأخـذت مـال أخـيك واستضعفته مـاذا تقــول إذا هــما لك أحضـرا؟!
وبـأي وجـهٍ فـي غــدٍ تـلـقـاهـمـــا وقــد استغـاث أخوك منك وأكثرا؟!
الـذنب يُغفـر إن سلـمت مـظـالمــاً إن المظـالـم ذنبـها لــــن يُـغْـفَـــــرا
طريقته الصوفية:
لم يُقلِّد شيخنا الأعظم أحمد بن علوان أية طريقة صوفية رغم انتشار الطريقة القادرية في عصره؛ وذلك لأنه صاحب مدرسة مستقلة، وطريقته تارة كان يسميها بالمحمدية، وتارة بالعلوية، وتارة بالصمدية، وكلها تندرج تحت هذا المسمَّى (الطريقة العلوانية)
قال ـ قدس الله سره ـ :
نبويةٌ رُفِعَتْ لها الأعناقُ عَلَوِيَّةٌ عَلِقَتْ بها العُشَّاقُ
وقال أيضاً:
عـَـلَوِيَّةٌ نَبــويّةٌ صَمَدِيــةٌ أنـــوارُها تستطلعُ الأنوارا
وقال ـ في موضع آخر عن الطريقة المحمدية وهو نفس مسمى المدرسة العلوانية وذات اللب والهدف ـ ما نصه: « واعلموا أن المحمدية قد أشرقت وأن سحائب صيفها قد أرعدت وأبرقت, وسفينتها قد صنعت, وقوائمها قد رفعت …. إلى قوله: وكونوا من الذين اختصوا بها, وأموا لسوحها »…إلخ. والعجيب أن بعض المتصوفة من الفقهاء يعترفون بولاية شيخنا الأعظم ابن علوان لكنهم يقولون إنه ليس شيخ طريقة,. والذي دعاهم إلى هذا القول هو خوفهم من اطلاع الناس على كتبه ـ قدس الله سره ـ بسبب أن فيها ما يخالف منهجهم لا سيما عقيدة شيخنا الأعظم,.. كذلك تجدهم ينفِّرون الناس عن قراءة كتبه بحجة أنها غير مفهومة…
ثم كيف لا يكون شيخ طريقة ومؤلفاته مليئة بالأوراد والأدعية والأذكار والتسبيحات إضافة إلى أنه رسم طريقاً ومنهجاً للسالكين ليسيروا على ضوئه, ومعلوم أن شيخ الطريقة سُمِّى بذلك بسبب ما خّلَّفه من أوراد وأحزاب لمريديه.. وشيخنا الأعظم أعظم من خلف من الأوراد والأدعية .. فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا.
وخلاصة طريقته ـ قدس الله سره ـ هو التعلق بالجناب الأعظم ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ واتباعه بالكلية.
قال ـ قدس الله سره ـ في فتوحه :ـ « واعلم ـ يا أخي ـ أن الله تعالى لا ينظر إليك حتى يكون الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم – بين يديك » .
وهو الباب الأعظم الذي منه الدخول إليه ، والنور الأكرم الذي هو الدليل عليه .
قال تعالى : [ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] .
وقال في توحيده :« ورسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ هو باب الدور السابع، ومن فلكه بزغ بازغ الضوء الساطع، وعلى يده فتحت خزائن الأسرار، ومن نوره تفرعت ثواقب الأنوار، فمن قصد الله من غير بابه، وتقرّب إليه بغير كتابه، ولم يتبع سُنّة سيد أحبابه، صدم رأسه حجاب الدور، وقطع نفسه سمو الطور، فطار مخ دماغه، وهلك دون بلاغه، وانقبض شعاع عقله، وسقط على مزبلة جهله، بدليل قاطع قوله تعالى: [فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ].
وقد صرف الله الوجوه إلى وجهه، وحضّ الخلائق على اتباعه، فلا يسلم لأحد ينتحل حبه، ويدّعي مواصلته وقربه، حتى يكون له متَّبِعاً، وبسُنَّتِه عاملاً مقتديا.
قال الله عز وجل: [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ]فحينئذ لا سبيل إلى أن تحب الله، أو يحبّك الله إلا باتباعه، والدخول في جملة أشياعه، فمن تابعه فكأنما بايعه، ومن واظب على سنته فكأنما فاز برؤيته.
وكل مقام وصل إليه شيخ من مشايخ أهل الطريق، من التحقيق والتدقيق، والهداية والتوفيق، فمجراه من عين حقيقة الاتِّباع، والتَّبتل إلى الله عز وجل والانقطاع، فاعرفوا،ثم على ذلك قفوا،و[لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ].
واليك قصيدة لشيخنا الأعظم أشار فيها إلى كثير من الأسرار المتعلقة بالحضرة المحمدية .
وإليك القصيدة:
نــفــسُ الـحـبـيــبِ الأكـــرمِ والــقــهــرمــانِ الأعـــظـــمِ
بــيــتُ الـحـطــيـمِ وزمـــزمِ والــركــنُ مــنــه الأســحــمِ
مـسـعـى الـهـدى عـــرفـاتـُه وصــفـــاه بـــل مـــرواتــُـه
ومـــنـــاه بــــل قــــربــاتـُـه فـــي الـمـهـرجــان الأقـــدمِ
وُضِـعَــتْ عـلــى أسـمــائــهِ فــــي أرضــــه وســمــائــهِ
مُـــــذْ آدمُ فـــــي مـــــائـِـــه أســــــرار مــــــا فــــي آدمِ
شــمـــراخُ سِــدْرَةِ مـنـتـهـى أهـــلُ الـتـنـاهــي والـنـهــىَ
تـــاجُ الــمـفــاخــرِ والـبـَهـا لاهـــوتُ شــمــسُ الأنــجُـمِ
كـــفُّ الـمـكـارمِ والـعـطـا مـا حـي الـجـرائـمَ والخَـطَـاَ
أعـلـى الـكـواكــبِ أرْسـُـطَا والـحـاجـــبِ الـــمـُـتــكــلِّــمِ
صــيــفُ الـمـراحـمِ والهدى حــرف الــمـنـادي والــنِــدَاَ
كـالــبــدرِ مــن أفــقٍ بـــدا فــي جُـنْـح لــيــلٍ مُــظْــلِــمِ
فــجــرُ الـبـشـارةِ صُـبـْحُـها قَـــلَــمُ الـمَـشـيِـئـةِ لَـْــوحُـهَـا
نَـفَــسُ الـبــريــةِ رُوحُــهــا وســـــوارُ ذاك الــمِـعْـصَــمِ
أســفــارُ لـــيـــلٍ قـــدْ دَجَــا كـهــفُ الـمـطـالبِ والرجا
مــن شــام بـــارقـــه نــجــا من كُلِّ هـــول مـــعـــظـــمِ
صـافـي الصفات المصطفى مــيــثــاق إخــوانِ الــصـفـا
حــبــلُ الــتـعـلـُّـق والــوفــا مــفــتــاح قُـــفـــل الأنــعُــمِ
مــاءُ الــجــنــان الـكـوثـري شــمــس الـعـلا والمـشتـري
والـجـهـر والـسـر الــسَـرِي إنــعــامُ كَـــفِّ الــمُــنْـــعِـــمِ
طــور المقـــام الأشـــــرفِ هــاجــي رمــوز الأحــرف
أقــــــداره لـــــــم تُــعْــرَفِ وعـلــومُـــه لــــم تـُــعْـــلــمِ
مــحــرابُ قــــدسِ الـجـامعِ بــحــرُ الــبـــلاغِ الـسـابـــعِ
مـــرْجُ الــفــضــاءِ الـواسـعِ فــتـــح الــرتــاج الـمُـبْـهَــمِ
أقول ـ أنا كاتب هذه الأسطر عدنان الجنيد ـ بدون مبالغة: إنه لا يوجد من مدح الجناب الأعظم ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ من عهد زمنه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ إلى زمننا الحاضرـ بحسب إطلاعي بمثل هذه القصيدة العلوانية ـ التي ذكرناها آنفاً ـ فهي تحوي حقائقه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ العظيمة ومعارفه الكريمة، وأي سالك أو مريد أو شيخ جعل هذه القصيدة ورده اليومي، وجد الفتوح وحصل على المنوح وصار المصطفى له حبيب القلب والروح.
التصوف(شروطه ـ آدابه ـ أركانه ـ واجباته)عند ابن علوان:
قال شيخنا الأعظم ـ قدس الله سره ـ في فتوحه :ـ
اسلكوا أيها الاخوان على بركة الله سبيل الأخيار ، الماشين بقدم المختار إلى حضائر قدس الجبار .
وتفسير ذلك القدم أربعة أشياء :
ـ المحافظة على ما أمر الله به من الفرائض بفقه ومعرفة .
ـ المحافظة على ما سنَّ رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – باجتهاد وعزيمة
ـ الإخلاص فيما تحافظون عليه .
ـ الافتقار ممَّا تخلصون فيه .
وعليكم بالورع عن ثلاثة أشياء، والزهد في ثلاثة أشياء، والرغبة في ثلاثة أشياء.
* فالورع: عن الحرام والشبهة ، وعن الغضب والحدة ، وعن الطمع والشهوة .
* والزهد: فيما أوتيتم بالإيثار والمواساة، ثم في ما فضَّل الله به بعضكم على بعض من الغنى والزيادات ،ثم الزهد في حظوظ أنفسكم من الكبر والرياسات .
* والرغبة: في مجالسة الحكماء ، ثم في مجالسة الكرماء ، ثم في مجالسة أهل السماع ولا تحصلون على ذلك إلا بمجانبة الأضداد، والهرب من مخالطة أهل الفساد، الجهلة برب العباد،الغفلة عن يوم المعاد، واقتبسوا العلم من العاملين به لا من الحافظين له، لأن النفس لصورة الحال أعشق منها لِصورة المقال .
● واعلموا أن الفقرـ أي التصوف ـ ليس بحلق اللحا، ولا بالإقراع والحفا، ولابسوء الخلق والجفا، ولا بأكل الحشيشة المخدرة المطيشة ، ولا بضرب الدفوف والمزامير، ولا برقص كل متواجد مستعير، ولا بالأحكام المخالفة لأحكام الملك الكبير المنافية لسنة نبيه الجليل الخطير، الذي ليس له شبه ولا نظير – صلى الله عليه وآله وسلم – إنما الفقرـ أي التصوف ـ العلم بالطريق، والمتابعة بالعمل على التحقيق، والإيمان والتصديق مع ما يمد الله به من العصمة والتوفيق .
● واعلموا أن للفقراء ـ أي الصوفية ـ إخواناً من الأغنياء ، أوجب الله سبحانه لهم من المحبة بما ثبت بينهم في سبيله من المباذلة والصحبة ، ـ بقوله تعالى ـ في حديثه القدسي ـ:(وجبت محبتي للمتحابين فيَّ، والمتزاورين فيَّ ، والمتباذلين فيَّ ، والمتجالسين فيَّ) .
وهم الذين بسطوا للفقراء أكنافهم، وجعلوهم شركاء فيما رزقهم الله، وأضافهم أولئك الذين يتحمل الفقراء ما ثقل من سيئاتهم ويزكون ما خمل من حسناتهم، ويعمرون ما خرب من أوقاتهم، فطوبى للأغنياء إذا كانت هذه صفتهم مع الفقراء، وطوبى للفقراء إذا كانت هذه صفتهم مع الأغنياء .
هؤلاء آثروهم بأموالهم، وهؤلاء نصروهم بدعائهم، ما أشبههم بأهل الصفة والأنصار – رضي الله عنهم – وجعلنا وأياكم منهم .
● واعلموا أن قصر التصوف بُني من جوهرين: أحدهما (كمال التقوى) والآخر (حسن السخاء) .
فكمال التقوى أساسه، وحسن السخاء رأسه .
* واستقر الفقرـ أي التصوف ـ الخاص، فقر أهل المعرفة والإخلاص، على عشرة أركان:
• علم ما لابد للسالك من العمل به من أصول الشريعة .
• علم ما لا كمال للسالك إلا به من آداب الحقيقة .
• معرفة النفس لأنه بمعرفتها ينحلها عملها ، فلا تـنـتحل من المناصب ما ليس لها .
• الورع عن الحرام ومخالطة الآثام .
• القناعة بالمقسوم من الملبوس والمطعوم .
• الزهد واليأس ممَّا في أيدي الناس .
• الصبر على جميع الأذى الصادر من جميع الورى .
• العدل في ملازمة الإخوان، والإراحة عليهم إذا وجدت بحسب الإمكان .
• النية في السياحة ، لطلب الفائدة لا لطلب الراحة .
● التواضع لله ، لا لثناءٍ ولا لعلة .
* وواجباته خمس وبها يكمل الإيمان :
• الفتوة والإيثار في الإعلان والإسرار .
• محاسن الأخلاق مع الخلق والخلاَّق .
• الرضا بالقضاء في المنع والعطاء .
• مؤاخاة النصحاء ومجالسة العلماء .
• مراقبة الرب وملاحظته بعين القلب .
فهذه درجات السالكين ومعارج الناسكين إلى الأفق المبين، الذي منه الوصول إلى مقامات المقربين، ومجاورة الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا .
وليعرض الفقير ـ أي الصوفي ـ نفسه المشتاقة إلى مرافقة هذه الرفاقة،على كل ركن من هذه الأركان المذكورة فيرتقيه، وعلى كل أثر من هذه الآثار فيصطفيه، فإن وجدها له موافقة، وعلى كل نكتة من هذه النكت مصادقة، وإلى رتب الفضل والإحسان مسابقة، فليعلم أنها فيما تدَّعيه صادقة. وإن لم يجدها له موافقة، ولا على كل نكتة من هذه النكت مصادقة، ولا لخصالها الذميمة مفارقة، فليعلم أنها منافقة وفي كل ما تدَّعيه غير صادقة ».

قد يعجبك ايضا