طه هادي الحاضري
من الإشكاليات الشائكة المتعلقة بفلسطين تلك المصطلحات التي أصبحت سائدة ومتداولة حتى من قبلنا نحن – العرب والمسلمين – من ناحية، والتعامل مع الموضوع من أساسه بدون صدق وجدية من ناحية أخرى.
فمسألة المصطلحات للأسف التي ما زلنا إلى اليوم نرددها دون أن نتأمل مدلولاتها – وأشهر هذه المصطلحات “القضية الفلسطينية”- تؤثر سلباً في الوعي والشعور العام العربي والإسلامي، من خلال تداولها حيث أنها ترسخ معنى التحلل من المسؤولية؛ لأنها تُصور ما حدث ويحدث في فلسطين أنه شأن دولة فلسطينية لها علمها الخاص بها وحدودها الإقليمية وثقافتها القومية، ونحن لكل منا وطنه وأرضه الجغرافية ودولته ونظامه وحكومته وعلمه وبيرقه وقضاياه الخاصة به، مما يجعل الموضوع والاهتمام به هامشياً، فبصفة الشخص يمني وذاك سعودي وذاك مصري وذاك تركي و.. إلخ فكل لديه اهتماماته الخاصة في نطاق حدوده السياسية والجغرافية تحت مسمى الشعور الوطني أو القضايا الوطنية، وطالما لا يعتبر فلسطين وطناً له فكيف يهتم بها ويتحمل مسؤوليته تجاهها؟ وهذا على النقيض تماماً من الوعي الثقافي لليهود الصهاينة الذين يعتبرون “إسرائيل” وطنهم الأول والأم، فكل فرد ينتمي إلى الفكر الصهيوني مهما عاش في أي دولة أو انضوى تحت أي حكومة أو تقلّد أي وظيفة، فإنه يعمل لحساب ما يعتبره وطنه وهمه “إسرائيل” ويُجمع اليهود في شتى أقطار العالم على ذلك.
ثم إن كلمة (قضية) في عبارة “القضية الفلسطينية” تُهوِّن المسألة، ولا يتبادر إلى الذهن مفهوم المسؤولية والواجب والعمل المقاوم في شتى المجالات، من أجل استرداد الحق المسلوب خصوصاً فيما يتعلق بالمواجهة مع الإعلام الصهيوني المعادي، والذي أصبح في الفترة الأخيرة له إعلام ناطق بشتى اللغات ومنها وبشكل مكثف باللغة العربية، وهكذا أصبحت فلسطين وكأنها مسألة أرض أخذت في ظروف معينة، وانطوى تاريخها، ونحن أبناء اليوم وأمام الأمر الواقع يجب أن نرضى بذلك وأن نتعامل معه كحقيقة واقعة لا يستطيع أحد إنكارها، ومع مرور الوقت أصبحت كلمة إسرائيل كلمة مستساغة والنظر إليها ككيان مادي أصبح عادياً كأي دولة، وهجرة اليهود إليها واستيطانها أمر نحن نعرفه، وتشريد وتهجير الفلسطينيين واعتبارهم لاجئين بالملايين أيضاً أمر نعرفه ولم يعد كل هذا يُحرِّك فينا شيئاً، فالقتل والهدم وكل جرائم العدو الصهيوني السابقة والحاضرة والمستقبلية أمر تَعوَّدْنَا عليه، ولم يعد يخطر ببالنا أننا مسؤولون عن كل ما يجري، بل تنحدر المسألة إلى تبريرات أن هناك تفاوض وهناك جامعة عربية ومجلس أمن وأمم متحدة ولجنة رباعية ومبادرة عربية وإدانات وشجب وتنديد وو.. إلخ، مما ينم ذلك التأثر السلبي عن تأثر بكلمة “قضية” فلسطينية المفرغة من محتواها الدلالي الكبير بأبعاده القومية والمصيرية، ومن طبيعة القضايا أن فيها طرفين وهذه القضية فيها الطرف الفلسطيني والطرف الإسرائيلي، وهنا الكارثة اعتبار اسرائيل طرف له حق الأخذ والرد في القضية وأصبح التفاوض معها مسلمة من مسلمات القضية وكأن لها حقاً في فلسطين.
ومن هنا انحدر خطابنا نحو فلسطين وما يتعلق بها تدريجياً عبر أكثر من ستين عاماً، وانحط تحركنا تجاهها إلى الحضيض، ولم نعد نستشعر أونتذكر وجوب استعادة فلسطين وتحرير كل شبر فيها وكل حبة رمل منها على أساس أنها أراضٍ محتلة، وليست أراضٍ عادية بل أراضٍ مقدسة ومباركة، ومن واجب الجميع الشرعي والتكليفي الديني بصفتهم مسلمين أن يعملوا على تحريرها على هذا الاعتبار، بجانب اعتبار نصرة المستضعفين من الناس من أصحاب هذه الأرض، والذي لن يتحقق إلا بإزالة إسرائيل من الوجود ومحوها من على خارطة الأرض العربية والإسلامية، فغياب هذا البعد الإسلامي للقدس والأقصى وفلسطين، وقبلهما الإنسان المستضعف فيها عطَّل لدينا كل أجهزة الاستشعار الإسلامية، والاستقبال للتوجيهات الإلهية القرآنية الداعية إلى الحل الناجع والجوهري وهو المقاومة في أدناه والجهاد في أعلاه، وكل مقاومة جهاد، وأصبح الحديث عن ذلك محظوراً أو رجعياً، وإن تحدث البعض عن هذا الحل فمن باب الشعارات والمتاجرة – إلا من رحم الله – وكيف يكون صادقاً في ادعاءه الاهتمام بفلسطين من يكون ضد مصلحة بلاده التي هي مصلحة فلسطين، ويجعل مصلحته الشخصية أو الحركية أو الحزبية أو المذهبية فوق كل مصلحة، أو يبيع بلاده من أعدائها ويكون عوناً لهم في السيطرة عليها.
وهناك شواهد كثيرة على كل ما سبق لعل أبرزها شاهدان، الأول: هو “الثورات” الشعبية أو ما يُسمى بالربيع العربي، وكيف خرج الناس فيها إلى الشوارع والساحات وهتفوا ضد حكامهم الظلمة، وصلوا الجمع المتتالية، وكل جمعة بمسمى معين حتى أسقطوهم كما حصل في تونس وليبيا ومصر واليمن، وكم هتفت الجماهير بالشعار الشهير “الشعب يريد إسقاط النظام” وفعلاً سقطت الأنظمة، وكان لفلسطين نصيب هامشي في هذه الثورات في بعض الجمع والنزر اليسير من الشعارات، وكان من الناس من يقول من أجل فلسطين لأن الحكام عملاء لأمريكا الظهر الحقيقي “لإسرائيل” – وقد كانوا فعلاً كذلك – لكن النتيجة أن هذه الدول ازدادت عمالة وتماهيا في المشروع الصهيوني، ولم تَعِد الجماهير الكَرَّة وتخرج في ثورات شعبية من أجل فلسطين، كأن تخرج الجماهير العربية والإسلامية إلى الشوارع والساحات وتقيم الجمع لها، ويبقوا شهرا أو سنة أو أكثر ويستعيدوا الوعي ويصححوا المسار في هذا الاتجاه، خصوصاً وهم قد خاضوا تجارب لأكثر من ذلك ويرددوا شعار كـ(الأمة تريد إزالة إسرائيل) وهو شعار لا يختلف عليه الأحرار، وموضوعه وقضيته جامعة للجميع وليس فيه أي لبس، ولأن ذلك لم يحصل فهو يشهد على الوضع السيء الذي وصلنا إليه، وكم ستحيا فلسطين والقدس والأقصى في القلوب والعقول والأعمال والتحرك الجاد لو حصل باعتبار كل ذلك من الدين الإسلامي الحنيف.
الشاهد الثاني: تفعيل الأمور العظيمة في ديننا الإسلامي كالجهاد – الفريضة الغائبة والحل الوحيد – والثورة على الظلم والخروج على الظالم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونصرة المستضعفين – للأسف – في المكان الغلط وبالطريقة الخطأ، مما شوه الدين الإسلامي بشكل عام وشوه تلك الأمور السامية والإنسانية على وجه الخصوص، وليس أدل على ذلك ما حصل ويحصل في سوريا العزيزة والبلدان التي حصلت فيها ثورات شعبية سواء سلمية أو تطورت إلى مسلحة، وكم رأينا في هذا الصدد من استخدام مغلوط للدين الإسلامي وتوظيفه للوصول إلى أهداف مشبوهة، ولا يعني ذلك إنكار جهود الصادقين والمخلصين وتضحياتهم من أجل التغيير إلى الأفضل، ولكن إذا تعلق الأمر بفلسطين ابتعدنا عن الإسلام، فكم سمعنا من خطب الجمعة في الساحات والاعتصامات واستشهاد بالآيات القرآنية والأحاديث الشريفة والسيرة النبوية وأقوال العلماء، وكم ترددت على مسامعنا الفتاوى الدموية وفتاوى تحريم الثورة والمظاهرات والاعتصامات في بعض الدول كالدول الخليجية، وتجيير الدين حسب المزاج السياسي لمن يملك المال خدمة لأعداء الأمة، والتحليل والتحريم وفتاوى الجهاد وخصوصاً في سوريا، واشتغال الإعلام وأغلب الحركات التي تصف نفسها بالإسلامية والتي استقطبت المقاتلين من كل بقاع الأرض وأرجاء الدنيا، وكل ذلك لأن الأمر لا يتعلق بالأراضي المحتلة في فلسطين، ولو كان لهذه الأراضي نصيب من كل ذلك ولو عشر ذلك لتغيرت أمور كثيرة، ولو تحرك العلماء في هذا الشأن وأفتوا بوجوب الجهاد في فلسطين ضد إسرائيل ومقاطعتها مقاطعة شاملة، وبضرورة الوقوف بحزم ضد كل من يدعم إسرائيل، والشحن والتوعية في هذا الاتجاه بكل الوسائل بما فيها خطب الجمعة والساحات والاعتصامات والمظاهرات ومشاعر الشباب الملتهبة والبيانات والتوعية والفتاوى الجهادية، وتحريض الناس على الجهاد هناك باعتبار إسرائيل أسوأ وأظلم وأقبح وأشنع من الحكام والأنظمة التي سقطت بهذه الطريقة، وتوضيح أن الأوامر الإلهية والقران الكريم والنبي العظيم وفلسطين والقدس ليسوا حكراً على دولة ولا مذهب ولا حزب ولا حركة، حتى الفلسطينيين أنفسهم ليست فلسطين حكراً عليهم وحتى لو فرط بعضهم فيها، فليس ذلك من حقهم ولا يعفينا من المسؤولية، وليس من حق أحد مصادرة حق التحرك والعمل من الآخرين في هذا الاتجاه ولا الادعاء أنها من اختصاصه .
إذاً يجب علينا الوعي بكل ما نقول، والمراجعة لكل ما نردد من مصطلحات، والتخلص من الرواسب التي تراكمت طيلة سنوات، ومعالجة الخلل الفكري والتوعوي والمسخ الإعلامي الذي تعرضنا له على مدى عقود، والتركيز على تفعيل الإسلام في حياتنا في الأماكن الصحيحة التي حددها الله لنا وليس علماء السياسة، وبالطريقة الأخلاقية الإنسانية التي تعبدنا الله سبحانه وتعالى بها.