حروب أمريكا الخاسرة من فيتنام إلى سوريا واليمن (4)

 

احمد الحبيشي

لم أكن أتوقع ذلك الاهتمام الكبير من المتابعين للحلقات الثلاث التي نشرتها خلال شهر يناير المنصرم بعنوان (حروب أميركا الخاسرة .. من فيتنام الى سوريا واليمن) من خلال الرسائل والاتصالات المباشرة ، ناهيك عن قيام صحيفة (الثورة) اليومية بإعادة نشر تلك الحلقات ، واهتمام بعض الإذاعات المحلية بتداول فقرات موسّعة منها بصورة يومية.
في هذه الحلقة سأنتقل الى حرب أمريكا الخاسرة في سوريا قبل أن أنتقل الى اليمن لاحقاً ، حيث لا يمكن فهم أبعاد هزيمة أمريكا وحلفاءها في سوريا بدون أن نجيب على سؤال مركزي يتعلق بأسباب تعرُّض سوريا لحرب كونية شارك فيها تحالف دولي وخليجي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية؟
لا يمكن فهم الحرب الكونية على سوريا بدون العودة الى بداياتها في بيروت وحمص وحلب عام 1982م حيث تعرضت سوريا لحرب أمريكية واسرائيلية وسعودية خلال النصف الأول من الثمانينات ، استهدف إسقاط النظام السوري في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد الذي قاد توجها مُمانعا لتمرير المشاريع التصفوية للقضية الفلسطينية منذ التوقيع على اتفاقية كامب ديفيد في 26 مارس 1978م بين مصر واسرائيل برعاية أمريكية مباشرة ، والذي تزامن مع سقوط النظام الإمبراطوري الشاهنشاهي في إيران ، وقيام أول نظام جمهوري في هذا البلد الذي كان حليفاً استراتيجيا للكيان الصهيوني ، وشرطياً لحماية المصالح الإمبريالية في الخليج.
تأسيساً على ما تقدم .. أود الإفادة بأنني سأكتب عن بدايات الحرب الكونية التي تعرضت لها سوريا في عهد الرئيس حافظ الأسد ، بصفتي شاهدا على بعض وقائعها ، حيث شاء الله أن أكون بعد تخرجي من جامعة بغداد عام 1978م في قلب العلاقات التاريخية التي ربطت اليمن الديمقراطية بسوريا والثورة الفلسطينية من خلال عملي مع الصف القيادي الأول في الحزب والدولة ، وخاصة في عهد الرئيس السابق علي ناصر محمد.
تنطوي حقبة الرئيس السوري حافظ الأسد على محطات ساخنة من الصراع بين المشروع القومي العربي التحرري والمشروع الأمريكي الصهيوني الرجعي في الشرق الأوسط خلال ما كانت تُعرف بالحرب الباردة ، حيث كان جوهر الاستراتيجية الأمريكية بأبعادها السياسية والعسكرية والاقتصادية في هذه المنطقة هو خدمة مصالح وأمن إسرائيل والقضاء على المشروع القومي العربي الذي كانت تمثله حركة التحرر الوطني العربية بمختلف قواها الوطنية والقومية وعلى رأسها مصر وسوريا والعراق والثورة الفلسطينية.
لا يمكن فهم الخط البياني المتصاعد لمسار المؤامرات الخارجية والداخلية على سوريا منذ وصول حزب البعث العربي الاشتراكي الى السلطة عام 1963م، وقيام الحركة التصحيحية عام 1969م بقيادة الرئيس حافظ الأسد ، بدون مقاربة الدور الذي كانت تقوم به الإمبراطورية الإيرانية الشاهنشاهية بالتحالف مع أمريكا وإسرائيل ، في مواجهة سوريا والمشروع القومي العربي والقضية الفلسطينية ، حيث أدّى قيام الثورة الاسلامية والجمهورية الايرانية وسقوط النظام الامبراطوري الشاهنشاهي وعلى رأسه الإمبراطور محمد رضا بهلوي الى ولادة متغيرات نوعية في مشهد العلاقات السورية- الايرانية منذ سقوط شاه إيران وموقف سوريا الداعم للثورة الإيرانية ، مرورا بالعلاقات الاستراتيجية التي حرص الرئيس حافظ الأسد على بنائها وتطويرها مع الجمهورية الإسلامية في إيران ، وصولا الى الحرب الكونية على سوريا منذ عام 2011م.
تصادمت فكرة القومية العربية التي سادت في دول المشرق العربي ومنها سوريا طوال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، مع فكرة القومية الفارسية الإمبراطورية التي اتخذها الشاه السابق محمد رضا بهلوي عنواناً أيديولوجياً لسياساته الخارجية عموماً ، وتجاه الدول العربية خصوصاً. وكان الخصام بين الدول العربية المتأثرة بالأفكار القومية حاداً مع المشروع الشاهنشاهي ، على اعتبار أن الأخير مثل بالنهاية جزءاً من المنظومة الشرق أوسطية الموالية للغرب والمعادية لفكرة القومية العربية باعتبارها حركة تحرر وطني وقومي.
بعد وفاة الزعيم جمال عبد الناصر وظهور الفراغ الأيديولوجي والكاريزمي في المنطقة ، برز الصراع بين جناحي حزب البعث في كل من سوريا والعراق ووصل إلى مراحل متقدمة من العداء في أواخر عقد السبعينيات. وكان الصراع بين جناحي حزب البعث في سوريا والعراق دافعاً قوياً لصانع القرار في دمشق كي يفتح نافذة جديدة على العلاقات السورية – الإيرانية بسبب أن دعم العلاقات مع إيران، من وجهة النظر السورية، سيضع العراق بين فكي كماشة ، الأمر الذي يقلص من قدراته في المواجهة السياسية مع سوريا.
على هدي من هذه الفكرة تحول العداء الأيديولوجي الذي تبنته سوريا تجاه إيران الشاهنشاهية رويداً رويداً إلى علاقات سورية إيرانية موزونة بميزان الصراع مع العراق والوضع في المنطقة. وانعكست الخطوات السياسية بين سوريا وإيران على العلاقات الاقتصادية بينهما، فتم التوقيع على اتفاق اقتصادي بين البلدين في العام 1974م، وتتوج التقدم في العلاقات بزيارة الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد إلى طهران في ديسمبر من العام 1975م.
وفي هذا التوقيت كانت إيران قد فرغت من توقيع اتفاقية الجزائر مع العراق حول التنازلات المتبادلة في موضوعي حدود شط العرب ودعم الأكراد. وحتى سقوط الشاه في العام 1979 لم تبلغ العلاقات السورية – الإيرانية ما بلغته في العقود التالية ، ولكنها مثلت مؤشراً هاماً على إدراك الرئيس السوري حافظ الأسد للثقل الإيراني في معادلات التوازن الشرق أوسطية ، وعلى الرغبة الإيرانية الواضحة في تحجيم العراق وتنويع علاقاتها الإقليمية بدول المنطقة.
ويضاف إلى هذا العامل ظهور إمكانية للتعاون بين البلدين في الموضوع اللبناني، حتى قبل انتصار الثورة الإيرانية. وذلك نظراً للأهمية التاريخية التي أولتها إيران تاريخياً للبنان، حيث أعلن الشاه إسماعيل الصفوي في العام 1501م مذهب الشيعة الإثنى عشرية مذهباً رسمياً للدولة الصفوية. ولتكريس ذلك الهدف فقد استقطب الشاه إسماعيل الصفوي علماء المذهب الجعفري من جبل عامل في لبنان ، فارتبطت إيران وجبل عامل برباط تاريخي من يومها وحتى الآن.
أما الشاه المخلوع محمد رضا بهلوي فقد استمر في سياسة الاهتمام بلبنان، ليس من زاوية الأبعاد العقائدية المذهبية ولكن من زاوية توسيع النفوذ الإقليمي لإيران في المنطقة.
وبعد ظهور الدور المتنامي للإمام موسى الصدر، الإيراني الأصل والجنسية ، والذي هاجر إلى لبنان عام 1957م، ومساهمته الأكيدة في رص صفوف الطائفة الشيعية اللبنانية نحو المطالبة بحصة أكبر من الدولة اللبنانية ، فقد برزت نقطة التقاء مشتركة بين كل من سوريا، التي اعتبرت لبنان شأناً محلياً سورياً ، وإيران الشاهنشاهية التي لم تتخل – مثلها مثل كل حكام إيران- عن طموحاتها الإقليمية.
ومنذ بداية السبعينات كان لبنان ملتقى أطياف القوى السياسية الإيرانية، الإسلامية والقومية واليسارية ، حتى أن شريحة واسعة من رموز الثورة الإيرانية ارتبطت تاريخياً بلبنان سياسيا وعقائدياً.. ومن هذه الرموز القومية الإيرانية إبراهيم يزدي المتحدث باسم الإمام الخميني أثناء الثورة ، والسيد صادق قطب زاده الذي أعدم بتهمة التحضير لانقلاب ضد الثورة. وكذلك بعض الإسلاميين أمثال السيد صادق طباطبائي المتحدث باسم الحكومة الايرانية السابق وابن أخت موسى الصدر، والسيد مصطفى شمران وزير الدفاع في حكومة الثورة ومؤسس الحرس الثوري الإيراني ، والسيد محمد منتظري ابن آية الله حسين علي منتظري، والسيد جلال الدين الفارسي المرشح المفضل للإسلاميين من رجال الإمام لرئاسة الجمهورية بعد انتصار الثورة، والسيد علي أكبر محتشمي أحد مؤسسي حزب الله لاحقاً والسفير السابق في دمشق.
بعد انتصار الثورة الإيرانية تغيرت الموازين في المنطقة وتبدلت الأوراق، وسقط الشاه أكبر حلفاء إسرائيل والغرب لمصلحة سياسة إيرانية راديكالية أخذت في الظهور بالمنطقة. وتجلى الظهور الإيراني الجديد في المنطقة في معارضة الغرب والاتفاقية المصرية – الإسرائيلية للسلام، والتطلع للعب دور أكبر على الساحة الإقليمية.
كانت هذه التطورات إيذاناً بظهور محور جديد في المنطقة ضم إيران وسوريا وليبيا والجزائر واليمن الجنوبي ومنظمة التحرير الفلسطينية. ويمكن رؤية هذا المحور على خلفية رغبة سوريا في الخروج من عزلتها المتنامية إثر إبرام القاهرة لاتفاقات كامب ديفيد، وما أدت إليه هذه الاتفاقية من اختلال في موازين القوى لغير مصلحة سوريا.
وفي نفس عام انتصار الثورة الإيرانية 1979م، كانت العلاقات السورية- العراقية قد بلغت أقصى انحداراتها، حيث اتهمت بغداد النظام السوري بتدبير محاولة انقلابية ضدها وحشدت قوات عسكرية على الحدود مع سوريا وهو ماسأتحدث عنه في حلقة لاحقة.
تحت تأثير هذه التطورات أصبحت السياسة السورية في مأزق بسبب فقدانها للعلاقات مع مصر والعراق مرة واحدة ، مما أفقد دمشق علاقاتها الإقليمية التي امتازت دوماً بتوظيفها لموازنة الحضور الإسرائيلي المتزايد بتحالفات معاكسة. ثم جاء الغزو العراقي لإيران في خريف العام 1980م ليزيد من ثقل سوريا في العيون الإيرانية من الناحية الاستراتيجية. فمن الناحية الأيديولوجية الإعلامية كانت العلاقات مع سوريا، من المنظور الإيراني، أكثر من هامة للحيلولة دون تحول الحرب العراقية – الإيرانية إلى حرب عربية – إيرانية أو حرب سنية – شيعية. وقامت سوريا بإغلاق أنبوب النفط العراقي كركوك- بانياس وحرمت العراق من موارده المالية، وتسلمت بالمقابل نفطاً إيرانياً رخيصاً.
استفادت دمشق أيضاً من تخوف دول الخليج العربية من الطموحات العراقية، لأن انتصار العراق الذي اضطرت هذه الدول إلى دعمه مادياً، كان سيجعل النظام العراقي في موقع القوة الأعظم في منطقة الخليج. وهكذا بنت سوريا جسوراً دبلوماسية متميزة مع اليمن الديمقراطية في عهد الرئيس علي ناصر محمد ودول الخليج العربية توصل إلى إيران وهو ما سأتحدث عنه لاحقاً.
صارت سوريا قناة ممتازة للتحاور غير المباشر بين دول الخليج العربية وإيران. واستخدمت دمشق هذه «القناة» لإسناد مجهودها العسكري وتحقيق توازن ما مع إسرائيل ورفد اقتصادها بالمساعدات الخليجية. كما مثلت العلاقات مع إيران بديلاً معقولاً، من وجهة النظر السورية، لغياب الشريك التاريخي لسوريا، أي مصر.
وفي مقابل التحالف السوري- الإيراني دفعت التطورات العسكرية على الأرض في نهاية العام 1982م، وبداية انكسار الهجمة العراقية ودخول القوات الإيرانية إلى أراض عراقية في العام 1983م، إلى قيام تقارب بين مصر والسعودية والأردن للحيلولة دون انهيار القوات العراقية، وبالتالي انهيار منظومة الأمن الإقليمي وقتذاك.
في هذا السياق، أدى احتلال بيروت في العام 1982م من قبل الجيش الاسرائيلي ، وانكسار القوات السورية في مواجهته إلى ظهور الوجود الإيراني في الأراضي اللبنانية، بموافقة سورية، ليجعل لطهران إطلالة جغرافية على الحدود الشمالية لتل أبيب للمرة الأولى في تاريخها.
وترجع الموافقة السورية على دخول العامل الإيراني إلى لبنان، وبالتالي قلب معادلة الصراع الجيوسياسي في المنطقة ، إلى اختلال موازين القوى أمام إسرائيل، وهو ما دلل عليه اجتياح بيروت بكل وضوح.
وبرغم هذه الاعتبارات لم يكن السماح السوري بالنفوذ الإيراني بدون شروط ، حيث توخت سوريا الاحتفاظ بحليفها اللبناني «حركة أمل» كطرف أول على الساحة اللبنانية في مقابل حليف إيران أي حزب الله.
وجسد الأخير ديالكتيك الوحدة والصراع في إطار التحالف الإيراني-السوري، باعتبار أن نشأته مثلّتْ محصلة الصراع بين إيران من وراء حزب الله ضد حركة أمل وسوريا في خلفيتها. وكان السبب الإعلامي وراء ظهور حركة أمل الإسلامية – الاسم السابق لاسم حزب الله – كانشقاق على حركة أمل، هو موافقة السيد نبيه بري وقتها على الدخول في حكومة الإنقاذ الوطني في لبنان والمدعومة أمريكياً.
ولئن عملت سوريا على معادلة تأثير الأطراف اللبنانية بعضها ببعض في إطاردور قيادي سوري ، فقد كان تشكيل جبهة المقاومة الإسلامية بقيادة حزب الله إيذاناً بخروج الشأن اللبناني من الهيمنة السورية المطلقة إلى الهيمنة السورية النسبية بسبب النفوذ الإيراني.
من نافل القول إن العلاقات الإيرانية – السورية تذبذت باهتزاز موازين القوى داخل لبنان بين حلفاء الطرفين، فأوقفت إيران شحن نفطها إلى سوريا أوائل العام 1986م عندما كان السيد على خامنئي رئيساً للجمهورية بسبب الديون المستحقة لطهران علي دمشق. ساعتها استجابت دمشق لمبادرة سعودية بتطبيع العلاقات بين دمشق وعمّان ، الحليف الأول للعراق وقتذاك، وهو ما دفع إيران إلى إعادة شحن نفطها إلى دمشق وتأكيد أهمية التحالف الإيراني- السوري.
استعاضت إيران بعلاقاتها اللبنانية عن علاقاتها مع الدول العربية التي لم تؤيد المواقف الإيرانية تجاه العراق وخاصة عندما عادت قواته إلى داخل حدوده ابتداء من عام 1983م.
ومن ناحيتها حرصت سوريا على إبراز حدود الدور الإيراني في لبنان سواء في موضوع الرهائن الغربيين أو المواجهة العسكرية لتحجيم حزب الله في العام 1987م. وظهر هذا الحرص السوري في موضوع الرهائن، حيث لم يستطع أي طرف إبرام اتفاقات بهذا الخصوص بشكل مستقل ودون المرور عبر البوابة السورية.
ولا يفوت في هذا المقام ملاحظة أن التسريب الأول لما عرف باسم فضيحة الكونترا، أو الأسلحة الأمريكية الإسرائيلية لإيران، جاء من مجلة الشراع اللبنانية ، التي كانت تمولها سوريا.
ثم جاء إتفاق الطائف الذي أنهى الاقتتال اللبناني الأهلي برعاية سوريا والمملكة العربية السعودية، على الرغم من معارضة أطراف شيعية لبنانية له، بسبب تجاهل الاتفاق لما أسموه «الأوزان العسكرية على الأرض».
وفتح هذا الاتفاق فصلاً جديداً في التوازنات اللبنانية الداخلية عكس النفوذ الإقليمي في المنطقة وقتذاك، إذ سحب الاتفاق بعضاً من صلاحيات رئاسة الجمهورية الماروني وأضافها إلى صلاحيات رئيس الحكومة السُّني ورئيس مجلس النواب الشيعي. وعلى الناحية المقابلة كان وصول حجة الإسلام هاشمي رفسنجاني إلى منصب الرئاسة في إيران عام 1989م وانتهاجه سياسات براغماتية تجاه دول الخليج، بمثابة الريح التي أطارت ورقة الوساطة بين ضفتي الخليج من أيدي دمشق، وهو ما عجل بالرغبة السورية في عودة العلاقات مع مصر.
وفي نهاية الثمانينيات كانت سوريا ما تزال الحليف العربي الأوحد لإيران، وبدت صورة التحالف الإيراني – السوري كتحالف بحكم الأمر الواقع ، حيث شرع كل طرف في تنويع علاقاته الإقليمية ، فيما كان القاسم الأكبر بين دمشق وطهران متمثلاً في الاتفاق على إبقاء المقاومة اللبنانية وسلاحها كورقة ردع ضد إسرائيل ، ولكن أدوار كل من طرفي التحالف في لبنان بدأت تتعدل لمصلحة إيران التي صارت شريكاً فعلياً لدمشق هناك .
يتبع….

قد يعجبك ايضا