الشهادة والشهداء (1- 6)
حمود عبدالله الأهنومي
ثمة سرٌّ عجيب، يَنبِعث من الشهيد عند شهادته في سبيل الله، يُعطي القضية العادلة التي قُتِل في سبيلها خلودًا مَضَّاءً، وحضورًا كثيفا ومُشِعَّاً، سرٌّ لا يدركه مَن غلبت على قلوبهم وأرواحهم وعقولهم حجُبُ المادية الكثيفة، وسواتِرُ البعد الغليظ عن الله، بل من صفت مرايا قلوبهم، فأشرقت بنور الله، بأشعة البصيرة النافذة، وأنوار الرؤية السديدة.
في 2004م عاد الرئيسُ السابق علي عبدالله صالح من قمة العشرين في واشنطن، متأبطا شرا أمريكيا خطيرا، وبدأ مسارا مدمرا للشعب وللأمة، فأعْلَنَ الحرب على صعدة اليمنية، في توقيتٍ أفهَمَ أن لأمريكا يدًا في إشعالِ فتيل تلك الحرب، وإن لم يشأ أحدٌ حينها أن يُصَدِّق هذا الافتراضَ إلا بعد مرورِ نظائرَ وأشباهٍ من الحوادثِ والأحداثِ اللاحقة.
وتغطيةً لحقيقة الأسباب والعوامل، وإثرَ صُدُورِ قرارِ الحرب، تحرّكت مطابخ التوجيه المعنوي، وغُرَف الإعلام المضلل، لإذاعة جملة من التناقضات، والسخافات، التي تشهد على سُخْفِ صناعها، منها أن القرار جاء لوأدِ نبوة (نبي في مران)، ثم يُعْلَن لاحقا أنه (المهدي المنتظر)، ثم قيل عنه (الإمام) الذي يُسَلِّم أتباعُه عليه في صلاتِهم، ويقولون: (السلامُ عليك يا سيدي حسين)، إلى غير ذلك من التُّرَّهات والافتراءات التي تسمَّم بها طباخوها لاحقا، واختنقوا بدخانها الغليظ والبليد.
انجلت تلك الجولة من الحرب الظالمة عن استشهاد ذلك المزعوم نبيا، ومَهديا مُنتظَرا، وإمامًا، ودُفِن في قبرٍ مؤقّت، مع سيول من الشائعات، والتضليل حوله، وحول قضيته، في ظروفٍ كانت كفيلة، بدفن الرجل وحركته وقضيته إلى الأبد، لكن سرَّ الشهادة سرعان ما حلَّق رُوحًا ينعش الأجسام الهامدة، ومُنطَلقا لميلاد حركة ثورية جهادية، بات العالم اليوم يَضْرِبُ أخماسَ بداياتها في أسداس النهايات التي وصلت إليها.
ما الأمر إذن؟
إنه مِصْبَاحُ المشروع الصادق.. حين يشتعل بزيت الشهادة الخالد، ووَقود التضحية المتأبِّد ..
ما هي الشهادة؟ ومن هو الشهيد الذي وهبه الله شيئا مما لديه، وهو العندية له، والحضور الحقيقي، والقرب منه تعالى، والخلود لقضيته، والبركة في تحركه وجهاده؟ وهل معناه الحاضر للمَشْهد أو المؤدِّي للشهادة؟ وهل ذلك في الدنيا أم في الآخرة؟ وهل تُفتَح للشهيد قنواتُ التعرُّف والحضور من مقامه الكريم إلى واقعه الذي استُشْهِدَ فيه؟ وما مصاديق ذلك من قضايا التاريخ؟ وأيُّ مقام خالد تسنَّم ذروته هذا الرباني الكريم؟! وما هي الدروس والعبر التي حريٌّ بنا أن نستلهمها؟
الشهادة في اللغة والقرآن الكريم
وردت مفردة (شهد) في اللغة العربية وفي القرآن الكريم على معنيين:
المعنى الأول: الحضور، ومنه قوله تعالى: (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة:185]، وقوله تعالى: (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ) [النور:2]، وقوله تعالى: (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً) [الإسراء:78]، وقوله تعالى: (وَبَنِينَ شُهُوداً) [المدثر:13].
والمعنى الثاني: إدلاءٌ بشهادةٍ مُنبِئة عن حضورٍ مادي أو حضورٍ معنويٍّ ببصرٍ أو ببصيرة، قال تعالى: (شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [آل عمران:18]، ، وقوله تعالى: (وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) [التوبة:107]، وهي هنا في حق أولي العلم مثلا: إدلاءٌ بشهادةٍ عن حضور معنوي في ساحة البصيرة، أما قوله تعالى: (قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ) [يوسف:26]، فهي إدلاء بشهادة منبئة عن حضور مادي بالبصر الحسي، ومثله قوله تعالى: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) [الحج:28].
ويتبيَّن أن بين المعنيين ارتباطًا هامًّا، وبعبارة أدق، يتبين أن المعنى الثاني يتركب من المعنى الأول وزيادة، أي من الحضور، وهو تحمُّل الشهادة، ومن القول بها، وهو أداؤها، وهذا يرجّح أن الشهادة في جَذْرِها الأصلي تعني الحضور، باعتباره أساسًا هامًّا في الشهادة بمعنى الإدلاء أو الإخبار بما علِمَه الشَّاهد، فالكثيرُ فرعٌ عن القليل.
فإذا انتقلنا إلى العرف الشرعي لكلمة (شهادة)، وجدنا أنها تطلق على ما يدلي به الشاهد من معلوماتٍ قاطعة رآها أو سمعها، أو تحمَّلها عن حضورٍ قطعي للمشهود فيه، كما وجدنا أيضا أنها باتت تُطْلَقُ عُرْفا إسلاميا عامًّا على القتيل في سبيل الله؛ حيث أُطلقت منذ أول الإسلام وإلى يومنا هذا على (القتل في سبيل الله)، وأطلق وصفُ (شهيد) الذي يُجْمَعُ على (شهداء) على (القتيل في سبيل الله)، وصار هذا مفهومًا مُجْمَعا عليه بين المسلمين جميعا، منذ صدر الإسلام وإلى يومنا هذا.
علاقة الإطلاق الشرعي باللغوي
ويترجَّح أن الإطلاق الشرعي لكلمة شهيد على القتيل في سبيل الله جاء منسجما مع الوضع والإطلاق اللغوي؛ فالقتيل في سبيل الله هو ذلك الذي حضَر الموقفَ الحقَّ، وشهِد به وفيه شهادةً قولية، وشهادة عمليةً، وهي الشهادة بماله ودمه وروحه، وهي أقوى من الشهادة القولية، وبالتالي فإنه يصدُق عليه أنه شاهِدٌ، سواء قلنا: إن كلمة (شهيد) على وزن (فعيل) إحدى صيغ اسم الفاعل، من صيغ المبالغة، أو قلنا: إنه على وزن فعيل، اسم المفعول، مثل قتيل، أي مقتول، وشهيد هنا أي مسْتَشْهَد، مطلوب منه الحضور والشهادة، أو حضرته العناية الإلهية؛ وفي كلا الوجهين يصدُق على موقفه أنه شهادة، وأنه لقوة ذلك الموقف، ولتكرُّره، ولفضله، ولخصوصيته، اختص باشتقاق (شهيد) على وزن (فعيل).
وإذا كان الله قد نهى عن الإضرار بالشهيد بسبب شهادته واعتبره فسوقا، حيث قال: (وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) (البقرة: 282)، فإن هذا الشهيد قدّمَ شهادته العملية على موقفه الحق، وقضيته العادلة، بأعلى درجات الحضور، وفي أعلى درجات الاستعداد لتبعات ذلك الحضور، وتبعات تلك الشهادة.
لقد قدّمَ روحه التي هي آخرُ ما يُمكِن أن يطاله إضرار الغير تعبيرا عن حضوره الواعي والأكثف في ذلك الموقف الحق.
ولعلَّ الله الكريم جازى الشهيد بأضعافِ ما قدَّم، فإذا كان الشهيد قدَّم روحَه بأن تنازل عن حضوره الزائف والمؤقت في الدنيا من أجل الله وفي سبيله، فإن الله أكسبه الحضورَ القويَّ والخالد والثابتَ في الآخرة، وهيَّأ له مقام الشهادة العظيم.
ارتبطت الشهادة إذن بعملية الموت قتلا، ولهذا لا تُطْلَق الشهادة على مَنْ حضر الموقفَ الحق إلا إذا قتِل فيه، فلا تُطلَقُ على المجاهد الذي حضر المعركة وقاتل فيها ولو أبلى بلاء حسنا؛ ذلك لأنه لم يلِجْ بابَ الخلود، ولم يستكمل عملية الحضور الحقيقي في الدنيا ولا في الآخرة؛ لأن حضوره المجازي في الدنيا، وهو البقاء في الدنيا، منَع عليه الحضورَ الحقيقي والكامل في الآخرة؛ ولأن الشهادة هي أيضا الحضور القوي والفاعل في عالم الحقيقة وهو العالَمُ الأخروي، ولا تكون إلا لمن اختاره الله شهيدا، وطاله القتل في سبيل الله ومن أجل إعلاء كلمة الله.
وبهذا يتبين:
-أن مصطلح الشهادة – كما يبدو – مصطلحٌ مُبتَكَر في الإسلام، ولم يكن معروفا في الجاهلية، وهو الذي يسمى عند البلاغيين بـ(الحقيقة الدينية)، ولما صار عُرْفا عاما في صدر الإسلام صار أيضا ما يعرف بـ(الحقيقة العُرفية العامة).
-وأن هناك علاقة معنوية واضحة بين هذا المصطلح الديني، والعرفي العام، وبين أصله اللغوي (شهد)، أي الحقيقة اللغوية لكلمة الشهادة، وهي علاقة من الأهمية بمكان الانطلاق منها لبحثِ نوعِ الحضور والإدلاءِ بالشهادة، ومظاهر ذلك الحضور والإدلاء بالشهادة، في واقع الشهيد الجهادي، وفي نتائج ذلك الواقع، وتبعاته، في الدنيا والآخرة.
-وأن على الطغاة والمجرمين والمعتدين أن يعلموا أنهم بطغيانهم وظلمهم وقَتْلهم للمصلحين وأعلامِ الهدى والشهداءِ الأبرار، إنما يساهمون – من حيثية الذمِّ لهم وتقبيحِ صنيعهم – في تثبيت حالة الحضور والاستمرارِ والرفعة والعلو للشهيد ولقضيته العادلة الذي يأتي في سياق الثناء عليه والإكرام والتبجيل والإعظام.
… وللموضوع بقية
Hamoodalahnomi1@gmail.com