واشنطن/
“المسخ” أو “فرانكنشتاين” العصر الحديث، هذا أقل ما يمكن أن نصف به “تنظيم القاعدة” الإرهابي الذي دمّر مدناً وأجيالاً من أبناء هذه المنطقة، ولكن هل استطاع هذا “المسخ” الذي أُلقي به في أحضاننا أن يستمر لولا الدعم وحالات الانعاش التي قُدمت له بعد أن كاد يتلاشى، نحن نتحدث عن قوى غربية ساهمت بشكل كبير في إبقاء هذا التنظيم حيّاً يُرزق من أموال العرب ليقتل العرب أنفسهم، وبالتأكيد لا نتحدث عن مؤامرة بل نتحدث عن وقائع ووثائق ضجّت بها الصحف الغربية قبل العربية حول كمّ الدعم والحماية الذي قُدّم لهذا التنظيم الإرهابي من قبل أمريكا ومحاربته في نفس الوقت عندما تقتضي الضرورة.
من الواضح جداً أن واشنطن لا تريد القضاء على هذا التنظيم وليس هناك جهود دولية مبذولة بشكل فعلي وعملي للقضاء عليه، ولو كان الأمر كذلك ماذا يعني أن تتحد كبرى دول العالم ضمن تحالفات دولية لمحاربته مع ابنه غير الشرعي “داعش” دون أن يتمكن أحد حتى اللحظة من تجفيف منابع انتشاره، هل يعقل أن أمريكا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وغيرها من الدول بكل الجيوش والأموال والعتاد العسكري الذي تملكه غير قادرة على إنهاء هذا التنظيم، بالتأكيد “لا”، ولكن إذا تم القضاء عليه ما هي الحجة أو الذريعة التي ستبقي دولاً مثل أمريكا في المنطقة.
محاربة الإرهاب عنوان عريض ومطاط ويحمل أبعاداً مختلفة يتم ترويجها وفقاً لمصلحة هذه الدولة أو تلك، ومن المستغرب جداً أن دولة مثل أمريكا بكل الإمكانات التي تملكها عاجزة منذ العام 2001م وحتى اللحظة عن تجفيف منابع الإرهاب، علماً أنها صرفت مليارات الدولارات على هذا الملف، وخسرت مئات الجنود، والنتيجة كانت ازدياد الإرهاب في العالم وظهور جماعات إرهابية جديدة أكثر فتكاً من غيرها، أدخلت المنطقة في أتون فوضى لا حدود لها.
لا تملك واشنطن في المنطقة استراتيجية واضحة سوى استراتيجية “الفوضى”، ولا تريد لشعوب هذه المنطقة أن تحيا بسلام، فكل ما تريده يتمحور حول مصالحها في إفراغ مشكلاتها الداخلية بعيداً عن حدودها وحلّ مشكلاتها الخارجية عبر استعراض العضلات في ظل غياب قانون دولي يحاكم هذه الفوضى ويضع حدّاً لها.
في سوريا: هناك غياب لاستراتيجية أمريكية واضحة، الاستراتيجية الحالية تتمثّل في إطالة أمد الأزمة، وبالتالي وضع العوائق أمام قوات الجيش السوري وحلفائه في التقدّم الميداني لإنهاء الأزمة.
هناك الكثير من الاتهامات لأمريكا بدعم الجماعات التكفيرية في سوريا عسكرياً ولوجستياً، ولكننا لسنا في وارد تفنيدها، فلنضعها جانباً، نريد اليوم الإشارة إلى جانب آخر من مسار الدعم الأمريكي للجماعات المسلّحة على مختلف انتماءاتها.
دانت المشرّعة الأمريكية الديمقراطية، تولسي غابارد، موقف الإدارة الأمريكية من الأحداث حول إدلب السورية، معتبرة أن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب “تحمي تنظيم القاعدة والقوى الجهادية” هناك.
وفي جلسة لمجلس النواب الأمريكي، أمس الأول، أشارت غابارد إلى أنه “قبل يومين، تكلّم الرئيس ترامب ونائبه مايك بنس حول الهجمات التي وقعت في 11 سبتمبر ، وتحدثا عن مدى اهتمامهما بضحايا هجوم القاعدة على بلادنا، لكنهما يقفان الآن لحماية ما يتراوح بين 20 ألفاً إلى 40 ألفاً من قوات القاعدة والقوى الجهادية الأخرى في سوريا، ويهددون روسيا وسوريا وإيران بالقوة العسكرية إذا تجرؤوا على مهاجمة هؤلاء الإرهابيين”.
أمريكا لم تجد أمامها سوى خيار دعم المسلحين في إدلب، لكونها خسرت أغلبية أوراقها في سوريا، فواشنطن خسرت حليفها التركي الأقوى على الأرض، وهناك تصفية حسابات مع أردوغان والعلاقة بينهما ليست في أفضل حالاتها، وهذا ما يجبر الأخير للاتجاه شرقاً نحو روسيا، ولكنه هو أيضاً لا يريد أن تعود إدلب إلى سيطرة الحكومة السورية، لذلك نجده يحشد قواته على تخوم إدلب، ليترك جميع الخيارات مفتوحة أمامه، ولكن أردوغان نفسه أصبح موقفه ضعيفاً مقارنةً مع سنوات الأزمة السورية الأولى.
الأكراد لم يعودوا يعوّلون على واشنطن كما السابق، وهناك محاولات من قبل القيادات الكردية لإعادة فتح العلاقات مع دمشق وإن كان هناك بعض القضايا العالقة بينهما، إلا أنهم اكتشفوا أن الأمريكي لا يمكن الوثوق به ولا مفرّ من التعاون مع دمشق، فخيار المواجهة معها لن يكون في مصلحة الأكراد.
ترامب يريد أن يخرج من أزماته الداخلية وفضائحه السياسية والجنسية ويريد أن يخلط السم بالعسل ويدّعي أمام شعبه أنه يدافع عن المدنيين في سوريا، لكن قصف المدنيين قبل أيام بالنابالم في دير الزور وحشد قوات ومعدات عسكرية جديدة هناك، هل يعدّ دفاعاً عن المدنيين أيضاً؟.
واشنطن لا تريد الدفاع عن المدنيين ولكنها تريد بوضوح الحؤول دون تحرير الجيش السوري لإدلب بغية إطالة أمد الأزمة، وتريد إبقاء الجماعات الإرهابية لاستنزاف الجيش السوري من جهة، واستخدامهم في أي مشروع آخر من جهة ثانيّة.
الاستراتيجية الأفضل للجيش السوري بغية القضاء على المشروع الأمريكي الأخطر في سوريا، هي كما فعلت في السابق أمام التهديدات الأمريكية، مواجهة الإرهاب والقضاء عليه، لسحب الذرائع من واشنطن التي تواصل بناء قواعدها العسكرية في سوريا.
أولويات الجيش السوري أولاً داعش، ولاحقاً بقية الجماعات الإرهابية والمسلحّة وثالثاً التحركات الكردية أو أي تحركات انفصالية إضافة إلى القوات الأمريكية المحتلّة.
الخلاصة، حتى لو وضعنا الاتهامات التي تطول واشنطن بدعم الإرهاب في سوريا جانباً، إلا أن سياسات ترامب اليوم هي في الحقيقة دعم واضح لتنظيم القاعدة في إدلب تحت شماعات تارةً كيميائية وأخرى إنسانيّة.