خطر السباق العقاري على الزراعة ؛ صعدة نموذجاً
عبدالجبار الحاج
خلال زيارتي لصعدة استوقفتني أثناء تحركاتي اليومية العديد من الظواهر وبقدر ما سرني اتساع رقعتها الزراعية قياسا بنسبة الأراضي البور في مناطق أخرى وكذا انتاجيتها العالية لأجود انواع الفواكه .. لاحظت مخاطر متعددة تتهدد هذا النموذج الزراعي في صعدة ..
من هذه المخاطر غياب أي شكل لمؤسسات الدولة .. الغائبة أصلاً وفعلا ..وهو غياب قديم ومستمر وغياب من اي دور يحمي المحصول ويخزنه ويسوقه بما يحافظ على سعر عادل له في كل المواسم .. هو غياب ليس وليد اللحظة بل غياب متعمد ويمتد الى عقود من الزمن .. ليست صعدة وحدها من غابت عن دائرة الاهتمام بل كل اليمن ..
الظاهرة الأخطر التي تجعلني أخشى فيها على حقول ووديان وقيعان ومزارع صعدة أن يصيبها ما اصاب حقول الذرة في محافظة إب جراء تمدد وزحف البناء العشوائي والمال العقاري ودوره الخطر في استبدال الطبيعة الخضراء والثروة السياحة الطبيعة بمبان اخذتها الزينة ..فارغة من الفائدة .. وتكاد تفني الحقول الخصيبة لإنتاج اجود انواع الذرة البيضاء والحمراء والذرة الشامية بأنواعها وذلك بإحلال المربعات والجدران الاسمنتية المثيرة للغثيان والمباني الجارفة للطبيعة والمشوهة للمشهد الذي كان جاذبا ومتنفسا في محيط مدينة إب مثلا .. اذ كثيرا ما تشوهت الطبيعة الخلابة التي عرفت بها محافظة إب ..
وبالمناسبة فإن هذا المال الذي أتحدث عنه في تجريف الطبيعة الجميلة في محافظة إب هو في الغالب مال المغتربين اليمنيين الذين ( حوشوها قرشا على قرش ) من كدهم وعرقهم في مهاجرهم في امريكا وبريطانيا وغيرها من بلاد الغربة حيث شهدت هذه المحافظة هجرة واسعة في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي هربا من بطش النظام وبالذات منذ عام 77م .حيث تحولت هذه المناطق آنذاك الى ثكنات ومعسكرات تلاحق كل وطني شريف بتهمة التخريب السياسي !! يعني مقاومة الحكومات المرتهنة للخارج القريب والبعيد .
كان من الممكن جداً أن يوجه هذا المال الى مجالات في التنمية والصناعة او الى تعاونيات زراعية وصناعية تسارع في التنمية لعموم البلاد وتعود بالربح الحلال للمشاركين لو كان توفر لدينا نظام وطني يتأسس عليه توجه سياسي اقتصادي متحرر من التبعية كذاك الذي علق الناس عليه أملا في عهد الحمدي على سبيل المثال …
و لما كان مال المغترب اليمني وكده وعرقه في خدمة تطور اقتصاد بلاده و مشاريع نماء دائم وليس من شغل الربح السريع الذي عادة ما يمتص الشعوب ومن ثم سرعان ما يهاجر للربح في بلاد اخرى. .
منذ زمن بعيد ظلت محافظة إب مخزون الذرة الغني والدائم تؤمها قوافل الطلب والاحمال من كل انحاء اليمن ..اليوم صارت اراضي إب الزراعية مجرد قطع يتسلى أهلها بزراعتها من باب حفظ التملك وانتظار عروض المضارب العقاري ليس الا .. وبات ملاحظا لمن يمعن النظر في الزراعة غالبا غياب العناية الفلاحية وغياب الالتزام الدقيق بمواسم الحرث وحتى بمواعيد الحصاد الذي نراه هذه السنوات يسبق موعده فلا يأتي المحصول بحده المعلوم .
توقفت أمام تدهور الزراعة المتزايد في محافظة إب لأخذ العبرة من أخطار مماثلة أخذت فيها سوق المضاربة العقارية تلوح بمخالبها للاقتراب والقبض على الارض الزراعية في محافظة صعدة .. ودائما ما تبدأ اسواق المضاربة في الأرض من على جانبي الطرقات .. لكنها سرعان ما تتمدد في اعماق الارض المزروعة وبعد فترات وجيزة ستحل الأعمدة الأسمنتية وأطنان الحديد محل الاشجار المثمرة ..
وهكذا امام سطوة المال العقاري الذي اخذ يرفع وتيرة مضارباته المتسابقة بسرعة وجنون غازيا ارض صعدة الخصيبة ابتداء باحتلال جوانب الطرقات ومن ثم سنجد عما قريب جرافاته غازية جارفة لحقول التفاح والرمان والعنب …
أما زراعة العنب فقد بدت اليوم قبل غيرها في واجهة الخطر الماثل والوشيك لإلحاق الاذى والهلاك بها لأسباب عديدة غير تلك الاسباب التي اوردتها في مقالي السابق فواحدة من الاسباب هنا إغراء المال العقاري وغياب مؤسسات القطاع العام في الشراء والتخزين والتسويق..
السوق المفتوح هو ما يجعل المال حرا طليقا في اكتساح كل مجال وكل ثروة عامة دون ضوابط او موانع وهو ما يجعل الاراضي الزراعية الخصبة في متناول جرافات ما يسمى بالاستثمار العقاري في بناء افقي سريع التمدد والاقتلاع لمنتوج الارض من عشب واشجار وزرع ..
إلى هنا أشعر بالقلق والخوف , حيث باتت صعدة في مربع الخطر الذي يحوم بنشاط محموم لا يخفى عن العين في ميدان المضاربة العقارية والتسابق على شراء الارض بنهم ..
سيقول قائل ممن يدافعون عن هذه الجائحة أن الزراعة والمزارع لايمسها سوء من هذا القبيل لان العملية في الغالب لا تتعدى سباق المضاربين العقاريين على جانبي خطوط الطرق وبعض المواقع التي تغري أصحاب المال في اختيار مساحات مرتفعة كالتباب والتلال لبناء الفلل الفارهة وهذا لوحده مجال خطر عم بالكامل كل المدن ومحيطها الجميل واستباح كل ملكية عامة وخاصة. ..
قبل أربعة عقود تنبهت فطنة الرئيس الحمدي للخطر وصاغ قرارا بمنع البناء وكانت مدينة اب ومحيطها الخصيب وغيرها هدفا لقراره
وقبل عقود أقل بدأ الخطر الذي خشيه الرئيس الشهيد يداهم الزراعة والطبيعة والمناطق الجميلة يزحف ويلتهم كل شيء من قبل رؤوس النظام ونافذيه ويعبث في طول اليمن وعرضه ودبت بحرية مطلقة آلات النهب الرسمي من جهة واسواق العقار من جهة بلا رقيب او حسيب أو ضابط تنهش في كل شيء ولكم في صنعاء أو إب أو الحديدة أو حضرموت وأبين ولحج أمثلة ..
أمام مصاعب ومصائب من صنع الحكومات تراكمت امام الملاك الصغار وتعطل في العمل والإنتاج كانت توازيها اطماع المال العقاري تضع النقود العديمة الثمن مجالا للإغراء وبثمن مضاعف لقيمة الارض الفعلية او بقياس حجم المبلغ المعروض لثمن قطعة الارض قياسا بمنتوج غلتها السنوية!! وبحسبة استثمارية تضع البائع امام اغراء لا يقاوم في مساحات اخذت تنضم الى قائمة البناء ونحن نتحدث الآن عن هذا اللون من الخطر الذي اخذ يتموقع حديثا في صعدة .
بعد الرئيس الحمدي لم يكن هناك من يحذر من خطر تحويل الأراضي الزراعية الى ميدان المضاربة العقارية ..عدا قرارات كانت قد صدرت في عهد الرئيس الحمدي وتعرضت للتصفية هي الأخرى تماماً كتصفية جسد الشهيد.
من المهم الإشارة إلى مساحة الأرض الزراعية او الصالحة للزراعة في محافظة صعدة عموما, فإجمالا وبقياس واضح الى الآن هي مساحات نجدها متوزانة قياسا مع عدد السكان على عكس محافظات اخرى مثل تعز واب تتزايد فيها مشكلة ضيق الاقتناء والتملك لدى شرائح واسعة فمع تجزئة الارض وتناقص مساحتها من جيل الى جيل بحكم المواريث والقسمة ومع غياب مساحات اخرى صالحة للإصلاح والاستزراع كحال تهامة وصعدة مثلا فإنني أستطيع القول أن مشكلات الأرض والزراعة في عموم صعدة لا تزال ذات مستقبل واعد ولكن شريطة وضع وانجاز حلول سريعة وجذرية تزيح شبح المخاطر التي اشرت اليها في هذا المقال وما سواه من مجموعة مقالاتي عن صعدة ..