التاريخ يصنع وعينا (18): مشروعية عيد الغدير الفقهية والتاريخية
حمود الاهنومي
يأسف المرء أن يَرَى من يفجّرون الأحزمة والسيارات الناسفة، ويزرعون القنابل المميتة في احتفالات الغدير، ويقتلون ويحرقون المحتفلين بذريعة كون الاحتفال به بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وهكذا يختصرون المسافة الطويلة التي وضعها الإسلام قبل الوصول إلى دم المسلم الحرام، بفقه ضحْل، وعقولٍ جامدة، وادعاءاتٍ لا أساس لها، مشكلة هذه الأمة في هذه العقول التكفيرية التي قدِمت من البيئة الصحراوية القاحلة المتأثرة بفكر شيوخ التكفير، وفقهاء التفجيرات الانتحارية، ومفتي طائرات الإف 16 التي تقصف الأطفال، وتدمر البيوت على رؤوس أطفالها ونسائها.
في ظل الهيمنة السابقة على القرار اليمني .. حاول هؤلاء وآخرون لتبرير هذا التعطش للدماء بادعاء أن اليمنيين لم يكونوا يعرِفون هذه البدعة (الشنعاء) على حد قولهم، وأنهم إنما تأثّروا بالشيعة الإمامية الإثني عشرية، وإذا نظر أحدهم في التاريخ ووجد أن اليمنيين كانوا يحتفلون بهذا العيد منذ وقت مبكر، ذهب ليجد أحد المؤرخين اليمنيين (السيد يحيى بن الحسين نموذجا) في القرن الحادي عشر الهجري وقد قال عبارة توحي بحدوث تعيّد اليمنيين بعيد الغدير في عصره، مع أن لها معنى آخر غير المعنى الذي أراد هؤلاء التكفيريون توظيفها فيه.
والمُشكِل الذي يحاول الكاتبُ الإجابةَ عليه: هل الاحتفالُ بالغدير بدعة؟ وهل هذه البدعة تسوّغ قتل المبتدِع بها؟ وهل توبق صاحبها وتجعله آثما عند الله؟ ومتى عرف الزيدية وأهلُ البيت عيدَ الغدير؟ ومتى عرف اليمنُ أيضا هذا العيدَ؟
في سياق التبرير لتبديع التعيُّد بالغدير، ومن ثم لتضليل المتعيِّدين به، والفتك بهم، فإن بعض منابر وقنوات الهيمنة الوهابية في اليمن، ادعي أن المحتفلين يُحيون عيد الغدير باعتباره “ذكرى تسلّم الإمام علي رضي الله عنه لزمام الحكم والخلافة”1، و أن هذا “الاحتفال بهذا اليوم مبتدَع في بلاد اليمن وبين الأوساط الزيدية، ولا يُعْلَم عن أحد من أئمة اليمن، أو أئمة المذهب الزيدي أنهم احتفلوا بهذا اليوم من لدن الإمام الهادي الذي أدخل المذهب الزيدي إلى اليمن إلى القرن الحادي عشر الهجري حتى مجيء المتوكل إسماعيل بن القاسم”، وذكر أن الاحتفال ظهر في عصر المتوكل إسماعيل بعد أن ظهرت صناعة الأسلحة والبنادق، بناء على بعض الروايات والمقولات التي تكرَّر ذكرها.
وعليه فإن هذه المقالة ستُعَرّف أولا البدعة من خلال ثلاثة تعريفات لأئمة مختلفين، ثم يبرهن على سُنَّية الاحتفال بعيد الغدير، ثم يرُدُّ على المؤرخين الذين حدّدوا بداية الغدير بكونه سنة352هـ، ليعرض نصوصا لأئمةِ أهلِ البيت القدماء في الحجاز، وفي منطقة طبرستان، وفي اليمن، تفيد تعيّدَهم بالغدير من وقت مبكر، من صدر الإسلام وما بعده، وأنه من أعيادهم وأعياد محبيهم.
أولا: ما هي البدعة؟
يعرّف الإمام مجد الدين المؤيدي من الزيدية البدعة بأنها “ما خالف الشريعة المطهرة، وهي تقابل السنة التي هي الطريقة المحمدية صلوات الله على صاحبها وعلى آله الطاهرين، سواء ثبتت بدليل المعقول أو المنقول”2.
ويتفق مع هذا التعريف أغلب علماء الإثني عشرية حيث يرون أن البدعة هي: “إدخال ما ليس من الدين فيه”، وأنها “لم تطلق في مصطلح الشريعة إلا مذمومة”3.
ويعرّفها الإمام ابن حجر العسقلاني الشافعي الأشعري (ت852هـ) من أهل السنة بأنها تُطْلَق في الشرع في مقابل السنة فتكون مذمومة، قال: “والتحقيق أنها إن كانت مما تندرج تحت مستحْسَنٍ في الشرع فهي حسنة، وإن كانت مما تندرج تحت مستقبَحٍ في الشرع فهي مستقبَحَة، وإلا فهي من قسم المباح”4.
وقال الإمام الشافعي: “البدعة بدعتان، محمودة ومذمومة، فما وافق السنة فهو محمود، وما خالفها فهو مذموم”5.
ومع الاختلاف في إمكانية تقسيم البدعة إلى محمودة ومذمومة، إلا أن هناك إجماعا بأن البدعة المحرمة – والتي يأثم فاعلُها والقائل بها أيضا – هي تلك الأمور التي تخالف الشريعة المطهرة، وتناقضها. وهو أمر متفق عليه بين طوائف الأمة جميعا بما فيهم الوهابية، غير أنه يظهر أن الخلافَ في تطبيقِ هذا المفهوم على الوقائع والأحداث.
ثانيا: التعيُّد بالغدير سنة لا بدعة
وهنا يبرز السؤال عن الاحتفال بالغدير: هل هو بدعة؟ وإذا كان كذلك فهل هو من البدعة المذمومة؟ ثم هل هو مما يقتضي التكفير أوالتفسيق المبني عليه أحكام القتل والتفجيرات الانتحارية التي لا يمارسها إلا الجبناء والمتوحشون، ولعل السؤال يحمل بعض الإجابة.
وقبل ذلك ينبغي أن نعرِّف الاحتفال بيوم الغدير والتعيّد به بأنه: “تخصيصه بأمرٍ مميِّزٍ له عن سائر الأيام لكونه اليوم الذي تم فيه إعلان الولاية لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم وللإمام علي عليه السلام”، وقد يكون ذلك بالفرح والسرور، وإظهارهما بأي وجه، بلبس الجديد أو أفضلِ الموجود، وأكلِ الطيبات، أو بالصيام، أو بالخطاب الديني الذي يستذكِر الحادثة الغديرية ودلالاتِها وفضائلَ علي عليه السلام الصحيحة، أو البرع والأناشيد والزوامل، أو (النصَع)6 وتعلم الرماية، أو بجميع ما تقدم، أو ببعض منه.
وهناك أمور تدل على تخصيص يوم الغدير بأمور مميِّزة له؛ لكونه يومَ إعلان الولاية، وبالتالي تدل على سنية الاحتفال به ونفي بدعيته، منها:
* فعل رسول الله حين جمع المسلمين، وهم عشراتُ آلافِ الحجاج العائدين معه منقلبَه من حجة الوداع في غدير خم بالقرب من الجحفة، وأعاد سابقهم، وانتظر متأخّرهم، وأعلن فيهم الولاية، وفِعْلُ رسول الله لأمر ولو مرة واحدة يدل على جواز فعل ذلك الأمر منا، ويندرج تحت قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) [الأحزاب:21]، وحين يجتمع المسلمون ويسمعون من الخطيب نبأ حديث الغدير ودلالاته إبلاغا لما بلَّغه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وروايةً لما أراده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإن ذلك من صميم السنة؛ لأن الخطابة في هذا الموضوع، وحشد الناس، واجتماعهم لسماع الموعظة في ذلك، كلُّها أمورٌ فعَلَها رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعليه فالذي يتأسّى برسول الله من خلال هذه الأمور إنما يسلك سبيلَ البر والعلم وإبلاغ الحجة التي بلّغها رسول الله، ويشارك في نشر العلم الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نشْرَه، ولا ضير في ذلك ولا بدعة، بل هو مما يؤجَرُ عليه المرء، فيندَبُ إلى فعله.
وفي بعض الحالات كحالة جهالة الناس بموضوع الولاية، وتغلُّب أهل العناد بنشر أفكارهم المناقضة لهدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أوساط الناس فلا يبعُد أنه يجب إبلاغ حديث رسول الله بولاية علي عليه السلام على سبيل الكفاية، بالطريقة المناسبة سواء بالخطبة، أو بالندوة، أو بالدرس في الحلقة العلمية، أو بالإجابة على السؤال، أو بالتأليف والنشر، أو بأي وسيلة إعلامية، وربما يكون المرء مخيّرا في اختيار الوسيلة في حالة التعدد إذا استوى تأثيرها.
* يذكر كثير من المفسرين وأهل الحديث أن الله أنزل قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً) [المائدة: 3]، حين أبلغ رسول الله ولاية علي عليه السلام بغدير خم7، وإذا كان اليوم متعلقا بكمال الدين وتمام النعمة ورضاء الله عز وجل فإنه لموجب عظيم ومقتضى كريم من موجبات ومقتضيات الفرح والاحتفال، وهي قضية فطرية واجتماعية وإنسانية، يستعيد الناسُ فيها الذكرياتِ الموجِبةَ لفرحهم والمستدعيةَ لسرورهم، ولا يزالون يقفون عندها وقوفا خاصا، وهل هناك يومٌ أو أمرٌ ينبغي الاحتفاءُ به والإشادة مثلُ يوم إكمال الدين وتمام النعمة، ولهذا قال أحد أهل الكتاب بحضور الخليفة الثاني عمر بن الخطاب: لو نزلت فينا هذه الآية (اليوم أكملت لكم نعمتي …) لاتخذنا يوم نزولها عيدا، فأقره الحاضرون، وصدر من الخليفة عمر بن الخطاب ما يشبه التقرير له8.
* ومما يدل على كون حادثة الغدير مما يُفْرَح ويحتَفَى بها التهنئةُ التي صدرت من الشيخين وأمهات المؤمنين وغيرهم من الصحابة بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأمير المؤمنين عليه السلام عقيب حادثة الغدير، والتهنئة من خواص الأعياد والأفراح، وقد خرّج العلامة الأميني9 تهنئتهم من 60 مصدرا معظُمها من مصادر أهل السنة المعتبرة، وزاد محقق كتابه (عيد الغدير في الإسلام)10 تخريجها من 42 مصدرا أيضا، وكثير منه يتضمن التهنئة مشفوعة بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويذكر المصافقة بالبيعة المذكورة مع ابتهاج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (الحمدلله الذي فضّلنا على جميع العالمين). وهي حالات وظروف لا تكون إلا في الأعياد.
* يظهر بوضوح الفطرة ويقين التجربة أن الإنسان أيَّ إنسان يسعَد بالأمر المفرِح، ويميل إلى السعادة بالنعمة، لكن التعبير عن هذا الفرح وتلك السعادة قد يتخذ صورا عديدة وأشكالا مختلفة، وهذا أمرٌ معروف لا مكابرة فيه، فهذه عادة الناس جميعا شعوبا ودولا وأفرادا، فهم يتخذون لأنفسهم ولشعوبهم أعيادا ومناسبات شخصية ووطنية ودينية وقومية وثقافية وفكرية، حتى تلك الدول وتلك الجماعات المشار إليها سابقا والذين يحرصون على (تبديع) الاحتفال بالغدير، نراهم يحتفلون بأعيادهم الوطنية، ويبتدعون لأنفسهم أعيادا ومناسبات جديدة، فبينما هم يولولون ويضجون ويملؤون الدنيا صراخا وعويلا ومؤلفات وأشرطة في تبديع الغدير أو المولد النبوي نجدهم في اليمن وفي السعودية وغيرهما يحتفلون بالأعياد الوطنية والشخصية، ويهنئون قادة البلدان الأخرى في أعيادهم، بل ويهنئون القادة من أهل الملل المناقضة للدين الإسلامي من اليهود والنصارى والبوذيين والكونفوشيوس والهندوس والوثنيين واللادينيين، ولا تسمع لعلمائهم حسا ولا ركزا حينذاك، ولكن ترتفع عقيرتهم وتبُحُّ حناجرهم تحذيرا فقط من عيد الغدير أو المولد النبوي أو ذكرى الهجرة، وكأنهم يعيشون حالة عداء مع كل ما هو إسلامي، ويعيشون حالة من الانسجام والتناغم مع الجديد من الأعياد في هذا العالم كعيد الميلاد، وعيد العمال، وعيد الشجرة، وعيد الأم، واليوم العالمي للمرأة.
يقولون: إنهم ينكرون كل ما لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، غير أنهم لا يتقيّدون بهذه المقولة تماما، صحيح أنهم حرّموا استخدام التلغراف حينما استفتاهم ملك السعودية أول ظهوره فيهم11، لكنهم سرعان ما عادوا لاستخدامه من دون فتوى، وكان من المفترض بهم بناء على المقولة السابقة أن يجتنبوا كل ما حدث بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنها بدعة، لا سيما وهابية اليمن؛ لأنهم قد ابتدعوا أشياء كثيرة فلديهم الأحزاب، ولها هيئات تنظيمية مختلفة، ولها اختصاصات وصلاحيات تحاسِب وتعاقِب، وتوالي وتعادي، ويوالون من أجلها ويعادون؛ ولأنهم يعتبرون المشاركة في السياسة أمرا دينيا، وبالتالي فما يتفرَّع عليها من العمل الحزبي والتنظيمي يكون عملا دينيا، إذن فهو بدعة لا سيما وهم يعتبرونها مشروعة دينا، ويقومون بتحليف الملتحقين بحزبهم وجماعتهم، وهو أمر مبتدَع أيضا، ولديهم الجمعيات، ويستخدمون السيارات والطائرات والأسلحة النارية، ويلبسون الألبسة المبتدعة والمختلِفَة عما كان عليه في عهد الصحابة والتابعين، وينشئون الجامعات، وهي بدعة؛ إذ أتى دهر الصحابة والتابعين ولم تكن الجامعات شيئا مذكورا، كما أن اكتساب شيوخها ودكاترتها هذه الألقاب بدعة؛ لأنها لم تكن على ذلك العهد، وهي بدعة أيضا في اسمها واسم كلياتها ومبانيها وأدواتها وهيئاتها واختباراتها.
وبعد أن شاركوا في حكومة الوفاق هناك بدعة طائرات الـ(drones) الطائرات بدون طيار الأمريكية، التي سمحوا لها بانتهاك السيادة اليمنية وقتل اليمنيين من دون محاكمة في مخالفة صريحة وواضحة لقواعد الشريعة الإسلامية وللقانون الدولي ولقيم الرجولة ومعاني الشرف التي تُعَلّمنا أن لا نسمح لأولئك الكفار بالدخول إلى أراضينا لضرب الآمنين فيها من أبناء الوطن!!!، وهناك عدة بدع تركَّبت في تلك البدعة منها (طائرات بدون طيار، وتحليقها في الأجواء اليمنية، واستخدامها تكنولوجيا متطورة لاقتناص ضحاياها، …إلخ)، وعليهم أن لا يقولوا: إن هذا ليس من الدين؛ لأنهم يعتبرون مشاركاتهم السياسية دينا، وبالتالي فكلُّ ما يتفرّع عليها يعتَبَر فرعا عن هذا الاعتبار.
أما قاصمة الظهر وأم الدواهي والبدع فهي دعوتهم وتصفيقهم لحلف العدوان الأمريكي السعودي الإماراتي، الذي يقتل الأطفال والنساء، والرجال، ويقصف المساكن الآمنة، والأسواق المكتظة، والمساجد، والمدارس، والمشافي، والآثار الوطنية، والطرق، والجسور، والموانئ، والمطارات، وكل شيء في هذا البلد، وبعض ذلك القصف نتيجة لبلاغات هؤلاء المبدّعين، وتحديدهم لإحداثياتها، ثم بدعتهم البلقاء التي لا يمكن مواراتُها شناعة وشنارا، وهي سيرهم في ركاب هذا العدوان، لتدمير بلدهم، وقتل مواطنيهم، والأنكى استمرارُهم في هذه البدعة الفظيعة، وهم يعلمون علمَ اليقين أن هذا الحِلف ما جاء إلا لتدمير البلد.
وهنا لا بد من الاعتراف أن هنا ازدواجية مضحكة يتعامل بها هؤلاء؛ وبالتالي فلا مناص من التسليم أن المستجدّات والمحدثات نوعان: فما كان مندرجا تحت عنوان عام وحسَنٍ من الدين فهو حسن، مثل الإشادة والتعظيم لنعم الله، والتبليغ لما أمر الله، والتحدث بنعمة الله، والفرح بها، وما كان يناقض دين الإسلام، أو يشرِّع في الدين ما ليس منه، أو يكون قتلا للمسلمين على يد الكفار المجرمين والتصفيق لهم في ذلك، وكذلك التفجيرات الانتحارية وقتل الآمنين بدم بارد فهو من البدعة الشنيعة والقبح المبين.
* وإذا أراد قومٌ تشجيعَ أمرٍ من الأمور ذهبوا إلى الاحتفاء به والدعوة إلى إكسابه صفة الرسمية، وحينما نريد أن نربي أنفسنا وأجيالنا على التأسي بعظماء الإسلام الذين ضربوا أمثلة رائعة في التضحية والفداء والقوة في الحق، والشجاعة والعلم والعدالة وإحقاق الحق وإبطال الباطل والأخلاق الحميدة فإنما نستحضر أيامهم التي تميّزوا فيها، وكذلك هذا فإن الاحتفاء بأمير المؤمنين في يومه هذا هو في الحقيقة احتفاءٌ وتخليدٌ للقيم التي حملها وناضل من أجلها، والاحتفال بالغدير دعوة قوية راسخة برسالة ماضية للجيل الحاضر وللأجيال اللاحقة إلى اكتساب تلك القيم والتخلُّق بها، وهذا مقصد عظيم دعا إليها الإسلام، والإشادة بأبطال الإسلام وقادته العظام وذكرهم والتذكير بهم من أجل الاقتداء وأخذ العظة والعبرة عنوانٌ عريضٌ في الإسلام، وغاية كبيرة من غاياته العظام، يندرج تحته الاحتفال بيوم الغدير.
* حدثت أعياد ومناسبات في القرون الثلاثة الهجرية الأولى وفي ما بعدها، ويأتي بعضها في إطار المباح، وهو الذي لا يخالف ما ورد في الشريعة، فتعامل معها الصحابة والتابعون والمعاصرون تعاملا طبيعيا وعاديا، ورأوها تعبيرا إنسانيا عن بواعث السرور التي تعتلج في النفوس؛ فهذا أمير المؤمنين علي عليه السلام أُتِيَ بهديةِ يومِ النيروز، فقال ما هذا؟ قالوا: يا أمير المؤمنين هذا يوم النيروز، قال: (فاصنعوا كل يوم نيروزا)، قال الشيخ ابن تيمية الحراني: “كرِه عليٌّ موافقتهم في اسم يوم العيد حيث نكّر (النيروز)12، غير أن الشيخ ابن تيمية هنا جرى في هذا على عادته في التلاعب بالألفاظ الصريحة، وتحريف دلالاتها، والصحيح أنه عليه السلام – كما هو صريح في عبارته – شجّعهم على أعمالٍ أخرى من هذا القبيل وتكرارها، ولو كره فعلهم لصرّح لهم بالنهي، لا أن يأمرهم بالمزيد13.
وبهذا يتبين:
-أن البدعة هي سلوك طريق لم يرتضها الإسلام لا جملة ولا تفصيلا، أما الأمور الجزئية التي تدخل تحت كليات إسلامية مشروعة فهو من السنة ومن الإسلام ومن العقل والمنطق أيضا.
-وأن عيد الولاية عيد سني لا بدعي، وأنه مشروع شرعية لا غبار عليها، وأن من يزعم خلاف ذلك فإنه إنما يناقض نفسه أولا، وما دلت عليه الأدلة الصريحة، والبراهين الصحيحة.
… وللموضوع بقية في الأعداد التالية.
هوامش ومراجع:
1 أخطأته العبارة هنا، إذ لا أحد يدعي أن يوم الغدير هو يوم تسلّم الخلافة، وكيف يتسلمها والرسول (ص) حي يرزق.
2 المؤيدي، لوامع الأنوار، ج2، ص446.
3 الباقري، جعفر، البدعة، دراسة موضوعية لمفهوم البدعة وتطبيقاتها على ضوء منهج أهل البيت عليهم السلام، ترقيم آلي، المكتبة الشيعية الشاملة.
4 العسقلاني، أحمد بن علي، ابن حجر، فتح الباري شرح صحيح البخاري، ج4، ص253، بيروت، دار المعرفة، 1379هـ.
5 العسقلاني، فتح الباري ج13، ص253.
6 النصع كلمة يمنية تعني وضع نصبٍ وعلاماتٍ يتم استهدافها بالعيار الناري أو بالنبل، وتكون في الأعياد والمناسبات الدينية والاجتماعية. ينظر في معنى ذلك الإرياني، مطهر علي، المعجم اليمني في اللغة والتراث، ص876، ط1، دمشق، دار الفكر، 1417هـ- 1996م.
7 ينظر الأميني، الغدير، ج1، ص275- 283، وفيه نقل عن 16 مصدرا.
8 رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي. ينظر ابن الأثير، المبارك بن محمد، أبو السعادات، جامع الأصول من أحاديث الرسول، حديث رقم593، ترقيم آلي، المكتبة الشاملة.
9 الغدير، ج1، ص321- 334.
10 الأميني، عبدالحسين، عيد الغدير في الإسلام والتتويج والقربات في يوم الغدير، تحقيق فارس يبريزيان، ص57- 66، مركز الأبحاث العقائدية.
11 جريدة الرأي العام الدمشقية الصادرة بتاريخ 19 ذي القعدة سنة 1345هـ.
12 ابن تيمية، أحمد بن عبدالسلام الحراني، اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، ص200،201، تحقيق: محمد حامد الفقي، ط2، القاهرة، مطبعة السنة المحمدية، 1369هـ.
13 العاملي، جعفر، المراسم والمواسم، ص98، إعداد مركز الأبحاث العقائدية.