التاريخ يصنع وعينا (11): مجازر بشعة ورسائل متوحشة
حمود الأهنومي
أكد منسوبُ العنف العالي، والوحشية المفرطة، والقسوة العارمة، في مجزرة الحديدة بحق الصيادين وملاحقة الجرحى في الطرق وأبواب المشافي يوم الخميس الماضي، ومن قبلها في مئات المجازر على طول هذه البلاد وعرضها، وخلال أربعة أعوام، أكد ذلك أن التوحُّش والتفنُّن في القتل منهجية معتمدة، وأن تجاوز الخطوط الحمراء في هذه الحروب هو استراتيجية مخطَّطٌ لها من قبل القائمين على هذا العدوان السعودي الأمريكي، بدءا من العقل المدبِّر له، أمريكا والصهاينة، إلى المنفِّذين له، الأعراب المنافقين، من آل سعود وآل نهيان، وانتهاء بمرتزقتهم التكفيريين والمنافقين على أرض الميدان.
في بداية العدوان راهن المنفذون له من أعراب النفاق أنهم – بهذه الطرق المتوحشة من القتل، وبهذا السقف العالي من الإجرام – سيقتلون الإرادة الثائرة والحرة في قلوب اليمنيين، وسيدفعونهم إلى الاستسلام، غير أن طول عمر صمود اليمنيين قلَبَ عليهم آمالَهم رأسا على عقب، وأخيرا باتوا يدركون أن استراتيجيتهم العنفية والمتوحشة لم تثمر أهدافهم، بل أصبحت تشكل عبئا أخلاقيا وسياسيا واستراتيجيا عليهم، وأن اليمنيين أبعد ما يكونون عن الاستجابة السلبية لها؛ لهذا ينحون في هذه الجرائم اليوم منحى الانتقام والغيظ والحنق.
في مراحل تاريخ المسلمين المختلفة ظلت الأنظمة والسلطات المستبدة تمارس العنف ضد معارضيها بشكل متوحش، لكي تجعل من أجساد أولئك الضحايا رسائل تحذير للمعارضين الآخرين، تشكل عنصر الإرهاب، والتخويف، وكي الوعي لمعارضيهم، بدءا من الأمويين والخوارج، إلى العباسيين، ثم الأتراك العثمانيين، الذين لا يخجل أحفادهم اليوم من التباهي بتلك الوحشية والقسوة والغلظة على أعدائهم، حتى في أعمالهم الفنية.
في بداية القرن العشرين وجدت بريطانيا العظمى عميلَها المناسب، عبدالعزيز ابن سعود، ودعمته بالمال والسلاح في السيطرة على أجزاء واسعة من الجزيرة العربية، فاستغل العاطفة الدينية الملتهبة بالعقيدة الوهابية لدى أعداد كثيرة من المجندين من فقراء نجد، وأنشأ معسكرات لهم سماهما بـ(الهجر)، وبث فيها معلمي العقيدة الوهابية، ليملأوا رؤوس أولئك المقاتلين المتدينين بالحقد والكره لكل من سواهم، حقدا مبنيا على أفكارٍ تكفيرية متزمتة وإقصائية وحادة التصنيف، أما تكتيكاتهم العسكرية فاتصفت بصناعة التوحش والرعب من خلال ذبح كلِّ الرجال والأطفال في معسكر العدو، وفي بعض الأحيان بذبح النساء، كما يروي ذلك المؤرخ البريطاني جون حبيب في كتابه (إسهام الإخوان في تأسيس المملكة السعودية).
لقد لاحظ هذا المؤرخ الغربي – وقد أثنى عليهم في مواضع من كتابه – أن التكتيك العام لمعارِكِهم كان عبارةً عن ضربةٍ أو خبطةٍ مباغِتة ومرَكَّزة دون أن تعطيَ للخصم فرصة للتفكير، وأنهم كانوا في حالة الهجوم المباغِت ينقضُّون على الهدف كنسيجٍ متوحِّشٍ من الرجال على الجياد والجمال والمشاة، ويحطِّمون كلَّ شيء في معسكر العدو، ويقتلون الجنود وكلَّ شخص هناك دون عطفٍ أو رحمة، ولهذا سقطت الطائف على وقع العنف المتوحش الذي أبدوه في معارك (تربة)، و (خرمة)، وفر أهل مكة وحامياتها بمجرد سماعهم عن المجازر الرهيبة التي ارتكبها جيشه في الطائف.
يؤكد جون حبيب أنهم كانوا “الأداةَ الفريدة التي استخدمَها ابنُ سعود” لإخضاعِ شبهِ الجزيرة العربية لحكمه؛ بدليل أن جميعَ الأماكنِ الاستراتيجية والمهمة التي استولى عليها ابنُ سعود فيها سقطت في أيديهم، ومنها تُرَبة، والطائف، ومــكــة، والــمــديــنة، وحائل، والجوف، وكان الخوف من انتقام الإخوان هو الذي جعل كل المناطق الخاضعة وخاصة (حائل) خالية من العصيان أو التمرد العلني.
وبالفعل فقد أجاد ابن سعود من خلال أذرعه التكفيرية الوحشية صناعةَ الرعب، وإدارةَ التوحش، والحربَ النفسية، وبها استطاع إيصال رسائل نفسية جامحة إلى قلوب خصومه قبل أن يصلهم بجيشه، وكان في الوقت نفسه بارعا جدا في التمثيل والتظاهر بالسخط تجاه ما يرتكبه جيشه المدجَّج بعُقَد وعقائد الكراهية والتكفير والوحشية، ولم يمانِع من ذَرْفِ دموع التماسيح إذا استلزم الأمر.
في مجزرة الحجاج الكبرى قتل مقاتلوه ما ينيف على الـ(3000) من حجاج اليمن في تنومة وسدوان، لكن الذين ذُبِحوا منهم ذبحا وصل عددهم إلى (900) حاج بحسب جريدة القبلة المكية؛ لماذا كل هذا العدد؟ ولماذا ذبح 900 منهم ذبحا؟
لأنه كان يريد أن يبعث رسالة التوحش السياسية إلى عددٍ من الجهات، في اليمن، والحجاز، وبريطانيا، مضمخة بكل تلك الأرواح البريئة، والدماء المطلولة ظلما.
اليوم لا يختلف مستوى الجرائم التي يرتكبها العدوان، عن تلك التي ترتكبها أدواته التكفيرية الإجرامية على الأرض، بحيث لو هُيِّئ لتكفيري أن يقود طائرات الإف 16، لما كان بوسعه أن يزيد على ما يرتكبه جنود وقادة هذا العدوان، حيث يستقي الطرفان جميعا من عقيدة قتالية متوحشة، ونفسيات عدوانية بشعة، ونتاج عقائدي بغيض، ومأزوم، ومتطرف.
من الأمور التي توضّحت للعالمين العلاقة العضوية بين أمريكا والأنظمة العميلة والمنافقة في منطقتنا من جهة، وبين ما يسمى بالقاعدة وداعش من جهة أخرى، حيث العداء الظاهري، الذي يخفي وراءه التحالفات الاستراتيجية، ويُحْسَبُ لليمن أنها أكثرُ من عرّت هذا التحالف، وكشفت حقائقه، إنْ من خلال محاضرات الشهيد القائد رضوان الله عليه، التي سبق الجميع بفضح هذه العلاقة، أو من خلال ظهور الداعشي والقاعدي يقاتل جنبا إلى جنب مع الأمريكي والصهيوني والإخواني والجنجويدي والبلاكوتري في هذا العدوان العالمي على اليمن.
بشأن ما يسمى بالقاعدة وداعش .. اشتهر عدد لا بأس بهم من المنظرين، وكان لدى بعضهم مقدرة واضحة على التنبؤ ورسم الأحداث، ومنهم الشيخ أيمن الظواهري، والشيخ عمر عبدالرحمن، و الشيخ أبو محمد المقدسي، شيخ أبي مصعب الزرقاوي ورفيقه، ثم عدوه، وعدو خليفته البغدادي لاحقا، وهو المؤصِّل الشرعي الذي كتب لأتباع القاعدة مباحث كثيرة تهتم بالجانب الشرعي، ومعظم تأصيلاته أطلقها وهو في سجون الأردن، المرتبط بشكل حميم بالغرب، ولا سيما أمريكا. وهناك أبو مصعب السوري (عمر عبدالحكيم)، الذي قدم رؤى عملية للأنشطة المطلوبة من منتسبي القاعدة، ومن تلك الكتب، موسوعته المعنونة بـ(دعوة المقاومة الإسلامية العالمية).
أما المدعو عبدالله محمد، الذي له ارتباطاتٌ مؤكدة بالمخابرات السعودية والأمريكية، فقد كتب كتبا كثيرة، ومنها كتاب (المذكِّرة الاستراتيجية) بعد أحداث 2011م، وهو منظِّر متمكن، وذو مقدرة عالية في الاستفادة من أحداث التاريخ العالمي وفي توظيفها في سياق أسلوبي مثير، تحدّث فيها عن أهمية منطقتين هما اليمن والشام، أوجب أن يتم فيهما إعلان الخلافة، وذكر احترازات ثلاثة في العمل المستقبلي في المنطقة المستهدفة، وهي (التأمين الدعائي) وقصد به عدم الاصطدام مع الدعاة الآخرين، وصرّح في شرحه بقوله: “اتركوا الإخوان ما تركوكم”، وهذا بالطبع يأتي في سياق ترك الأبواب مفتوحة مع الجهات التي عادة تقف بالقرب من القاعدة فكريا ومذهبيا، والتي تشكل البيئات المزوِّدة للقاعدة بالكوادر المختلفة بحسب عواملَ يجب أن تنضاف وتتحقق، إنهم السلفية العلمية التقليدية، والإخوان المسلمون، ثم ذكر (التأمين الذاتي)، الذي يعني توفير الخدمات، والأمن، والاستقطاب، والردع.
الردع الذي يظهر فيه تشابهٌ كبير بين مفهوم وأساليب الردع لدى القاعدة وأخواتها من جهة، ودولة إسرائيل من جهة أخرى، ثم (التأمين الاستراتيجي)، ويعني شلَّ قدرات العدو الفاعلة، وحرمانه من المميزات بفعل إجراءات استراتيجية، ومنها تهجير الأقليات، في منطقة التمكين.
ومنهم أبو بكر ناجي، وله كتاب (إدارة التوحش)، وعنى به التحرك النشط والفعال من العمليات الإرهابية وغيرها، والتي تؤدي إلى إضعاف الحكومات، إلى أن تحصل الوحشة بخلو البلدان من الحكام، فيقبل الناس في بيئة التوحش هذه أيَّ حاكم يحكمهم سواء كان من الأخيار أو من الأشرار، نزولا عند الضرورة، ومن ثم تكون الفرصة مواتية لمنتسبي القاعدة في إدارة هذه المناطق، وقد قسم مراحل (الجهاد) إلى قسمين (مرحلة شوكة النكاية والإنهاك، ثم مرحلة إدارة التوحش).
المثير أنه اقترح فيه طرقا وأساليب كثيرة في إدارة ما يسمى بمرحلة التوحش، وفيه عرّف الجهاد بأنه “شدة وغلظة وإرهاب وتشريد وإثخان”، واستدل فيه على نجاعة أسلوب الشدة وأهميته بالنجاح الذي حققه العباسيون ضد ثورة الإمام النفس الزكية محمد بن عبدالله (استشهد145هـ)، حيث أخذ العباسيون بمبدأ الشدة والقسوة العارمة، بينما سلك النفس الزكية مسلك الرخاوة على حد زعمه، وذكر أن من القواعد الاستراتيجية التي يجب استخدامها هو (اضرب عدوك بأقوى قوتك في أشد نقاطه ضعفا)، وشدّد على أهمية استراتيجية (تدفيع العدو الثمن)، كجزء من الردع ضد العدو، عقب أي اعتداء ينفذه العدو، ويجب أن يكون الردع في منطقة أخرى، لا يحسب حسابها، والعجيب أنه كثيرا ما استدل بسلوك الكيان الصهيوني العسكري على صحة تنظيراته.
إن هذا مثال فقط على ذلك التنظير والخطط والاستراتيجيات التي نتجت عنها تلك الجرائم البشعة، والسلوكات الوحشية، وهو التنظير الذي ينسجم مع سلوك العدوان ومرتزقته المنافقين في اليمن اليوم، وينسجم بشكل واضح جدا مع السلوك الوهابي النجدي العام في بداية القرن العشرين، في مناطق أخرى من الجزيرة العربية وفي الشام والعراق.
وبهذا يتبين:
– أن جرائم العدوان السعودي الأمريكي البشعة والقاسية والمتجاوزة للسقوف المعتادة هي جرائم مخطط لها، وهي جزء من استراتيجية العدوان، وجزء من تفاصيل المعركة التي يراد بها إخضاع البلد، وأهله، ومكوناته المجتمعية.
– أنه سلوك أيضا لا يختلف عن السلوك الصهيوني، وعن سلوك ما يسمى بالقاعدة وداعش، ومن قبلهم السلوك الوهابي، والذي مارسه عبدالعزيز ابن سعود على شكل واسع عند إخضاعه للجزيرة العربية، وهي كلها مؤشرات تبين أن منبع كل أولئك الفكري والعسكري واحد.
– لكن الجديد أن اليمنيين خلال هذا العدوان لم تؤثر فيهم هذه الاستراتيجيات البشعة بالشكل الذي أراده العدو، بل أثرت فيهم بشكل عكسي، وكشفت أن لا خيار لأبناء الشعب كل الشعب إلا بمزيد من المواجهة والصمود والثبات، وأن ذلك وحده فقط وفقط هو ما أثبت على مدى الأربعة الأعوام الجارية أنه الطريق الأسرع والأقرب إلى النصر، وإلى هزيمة هذه المشاريع الاستعمارية والصهيونية.