الجذور التاريخية للصراع اليمني السعودي” 14 “
عبدالجبار الحاج
بعد تحقيق تلك الانتصارات التي تزامنت مع زيارة المشير عامر وبقيادته بدأت الدوائر العالمية تسعى لحل القضية اليمنية وأعلن يوثانت الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك وهو الرجل الذي كانت له وجهة نظر في ان تكون لكل دولة من الدول التي تطلب الانضمام للأمم ان تمر بفترة عدة سنوات كعضو مراقب قبل ان يقر قبولها كعضو في الأمم المتحدة .. وعلى كلٍّ أعود لموضوعنا وتقول وقائع الأحداث في تلك الفترة المبكرة انه بعد تحقيق الثورة ، بعد تحقيق تلك الانتصارات أعلن يوثانت عن مشروع لفك الارتباط بين السعودية والجمهورية العربية المتحدة وكان المشروع يقضي بأن توقف السعودية دعمها ومساعداتها للملكيين وتمنع استخدام أراضيها لمحاربة الجمهورية وفي المقابل تقوم الجمهورية العربية المتحدة بسحب قواتها تدريجيا من اليمن وفعلا جاءت قوة من الأمم المتحدة للاشراف على تنفيwذ الاتفاقية وبعد ستة أشهر من العمل غير المجدي قررت الأمم المتحدة إنهاء مأموريتها وقدم الجنرال فون هورن استقالته ونشر كتابه فيما بعد (الجندية من اجل السلام( وفيه فضح العراقيل التي كانت توضع في طريق السلام .
وبعد انهيار مشروع السلام وفك الارتباط بدأ بعض أطراف الصف الجمهوري وخاصة بعد انتصارات هجوم رمضان ففكروا بالالتقاء سرا ببعض الملكيين وتم لقاء سري في كرش ضم الزبيري والارياني ومن جانب الملكيين حضره احمد السياغي ..على رغم ان اللقاء لم يسفر عن شيء إلا انه مثل بداية مسلسل مشروعات التسوية المعبرة عن خط هذا الفريق نفسه … وظهرت مشاريع كثيرة سأعود إليها في سياق هذه الحلقات .
وأعود هنا لاستكمال صورة نقاط الضعف التي أخذت تتسع في صف الثورة لصالح قوى الثورة المضادة ..لان الالتباس بين مضمون الثورة ومعنى الجمهورية كان قائما فمن خلاله تسللت إلى جسد الثورة والجمهورية شخصيات ورموز لا ترتبط بالثورة بمفهوم التغيير الجذري فالارياني والزبيري والنعمان والعمري والأحمر وزعامات تقليدية ومشائخ كثيرون التحقوا بالثورة وقُرّبوا منها ثم طغوا على موقع القرار وقد أتوا إلى المواقع المتقدمة إنما من موقع خصومتهم القديمة للإمام وخاصة من بروزهم في أحداث 48 وليس من موقع الأهداف الثورية التي قررها تنظيم الضباط الأحرار بقيادة عبدالمغني .. من هنا استطاعوا ان يجعلوا الجمهورية شعارا بديلا للثورة من مواقعهم السياسية التي تبوأوها في مركز القرار..
باكرا اختلط المفهوم بين الثورة والجمهورية وبين الثورة والدولة فمع ان الثورة بمفهومها الجذري التغيير وتغدو في تحققاتها وانجازاتها مرحلة في التاريخ انتقالية ومرحلة من التغيير الجذري في حياة المجتمع الذي التف حول الثورة ..تنقله من واقع وحياة كانت بائسة يسودها العوز والتفاوت الطبقي والاجتماعي إلى مجتمع المساواة والعدالة الاجتماعية ..فكان إحلال معنى الجمهورية قد اخذ يحتل مساحته ليحل محل أهداف ومضمون الثورة قولا وفعلا اي غدت الجمهورية بديلا للأهداف الثورية وليست مجرد احد الأهداف الستة ثم أخذت مفاهيم الجمهورية ذاتها تفرغ من مضامينها الديمقراطية والاجتماعية لتنحصر الجمهورية في شعارات واسم فارغ.
من هنا سنلاحظ قوى الشعب الحية ممثلة بتنظيمات سياسية ومنها وفيها حركة القوميين العرب كانت حاضرة في الميدان وأحزاب أخرى طور التشكل على ما لديها من رؤى ثورية صادقة إلا أنها لم تكن جاهزة للحدث حين اندلاعه ولم تشرع قوى الثورة في إيجاد وعائها التنظيمي القائد فظلت في أدوارها متوجهة في الميدان في ساحات القتال دفاعا عن الثورة لكنها في موقع القرار ظلت هامشية وغائبة ومغيبة في آن واحد ..
ذلك ان مواقع القرار قد غدت بيد تلك العناصر التي قلنا أنها غريبة على الثورة وراحت في كل نشاط لها تتصيد أخطاء القوات المصرية وتزيد من تهميش وتشريخ قوى الثورة الشعبية العفوية من جهة وتلك القوى الحزبية الثورية المنظمة في جزء منها ولكن في ظل شتاتها جميعا وتباعدها عن بعضها التي كانت تتسع هوتها يوما بعد يوم ما سمح للقوى الثالثة ان تضطلع بدور فعال في تحريف المسار وفي إذكاء ممارسات ومشاعر مناطقية واجتماعية لتقبض شيئا فشيئا على مفاصل القرار وعلى توجيه المسارات والامزجة الشعبية .
ففي كل الحكومات التي توالت وتساقطت كانت مجموعة المشائخ ومجموعة 48 ومن أتت بهم المصالح الشخصية قد أصبحوا هم القوة الغالبة إلى الحد الذي وجد السلال نفسه مرات كثيرة وحيدا في موقع القرار ولا يستمد قوته إلا من تأييد شعبي وسياسي على مستوى القاعدة الشعبية وبعض العناصر القليلة في مواقع مؤثرة ولا أقول في مركز القرار كما سنرى في تناول صراع الفريق الجمهوري غير المتجانس ..
ومن خلال قراءة الأحداث في تلك الفترة من سنوات الثورة فإن السلال ظل مخلصا ووفيا للثورة إلا انه غاب عنه وعن إدراكه أهمية بناء التنظيم الثوري الذي غادره الشهيد عبدالمغني شهيدا من وقت مبكر فلم ينجز بناء تنظيم ثوري بمستوى يصل به إلى دور التنظيم القائد ..لكن للأمانة أيضا فإن الرجل استند في فترة بقائه إلى موقف الشعب الشارع الذي اسقط خيارات وتوجهات ما أسميت بمؤتمرات السلام مرات عديدة عبر تسيير المظاهرات والاحتجاجات في كافة المدن ومراكز المناطق اليمنية وأسقطت مؤتمر حرض 65 وغيره من المؤتمرات التي لم تكن في توجهها توحيدا لليمنيين كما ادعت بل المؤتمرات التي تدعو للسلام بتنسيق مع السعودية وتوصيف للصراع بأنه حرب أهلية وليس تدخلاً عسكرياً سعودياً وبأن اليمن واقعة تحت الاحتلال المصري واما السلام الذي كانوا ينشدونه فهو حكومات مصطنعة تابعة للخارج ولا مشكلة لديهم في ذلك .. وكل جهود هذا الخط الدخيل على الثورة الذي بدأ ينشط في إفراغ الثورة من مضمونها الاجتماعي والاقتصادي إلى اختزال الثورة بجملة جمهورية فحسب وقد راح يستأنف نشاطه في افراغ الجمهورية نفسها من معناها الشعبي الديمقراطي بتبني خيارات التسويات الجامعة للنقائض بالمناصفة أو المقاسمة للسلطة .وغدت مفاهيم التسوية والشراكة والسلام منذ ذاك م فهوما يعيد انتاج المشكلة اليمنية بوتائر صراعية اعنف تستبعد الإرادة الشعبية الصانعة للأحداث الكبرى وتختزلها في نخب الصراع ..
أقول ان السلال ظل وفيا وصادقا لمبادئ الثورة لكنه أسهم في تقريب وتولية هؤلاء مواقع القرار فحاصر نفسه ومن جهة أخرى على الرغم من انه كان من اصدق الرجال للثورة لكنه ظل معتمدا كليا على دعم عبدالناصر كليا والى النهاية في حين لم يدرك ان عبدالناصر لم يرد ان يمضي إلى آخر الأمر في المعركة بين الجمهورية الفتية وتكالب الأعداء ليس من الملكيين فحسب بل اتسعت رقعة العداء لمضامين الثورة من الصف الجمهوري نفسه ..
أدرك السلال أهمية الاتصال بدول العالم المؤيدة للثورة والجمهورية بعيدا عن مصر او من خلالها . وتحرك إلى الخارج لمرات وزيارات عديدة يريد ان يعدد مصادر الدعم للدفاع عن ثورته لكنه لم يتحرك لإيجاد المشروع الثوري المتكامل .. وظل موقعه الأول كرئيس يهتز مرارا من قبل الفريق الدخيل على الثورة والمحيط به ..
ومن ذلكw ان السلال قام في يونيو 63 بزيارة لبعض الدول العربية ودول المعسكر الاشتراكي للحصول على المعونات للجمهورية بطرق مباشرة وليس عن طريق الجمهورية العربية المتحدة. وفي مارس 64 قام السلال بزيارة للاتحاد السوفييتي لغرض الحصول على معونات مباشرة للجمهورية ..
علينا ان نسلط الوقائع على صورة الأحداث التي تكشف لعبة الفريق الدخيل على الثورة وعلاقته التاريخية بالسعودية وأدواره في شق صف الجمهورية في مراحل متتالية من الصراع اليمني السعودي في تلك السنوات عقب الثورة اليمنية هذا من جهة .
بدأ تفجر الصراع الطائفي بين هذا اللون من الجمهوريين ففي أغسطس1963 م جاء عبدالرحمن البيضاني من القاهرة إلى عدن ونشط نشاطا طائفيا وهو أول من فجر صراعا طائفيا بين صفوف الجمهوريين وكان غرضه الحقيقي إقامة دولة شافعية في المنطقة الوسطى وقد تعرض نشاطه ودعوته التي خطبها في احد نوادي كريتر بعدن إلى الرفض والاحتجاج من قبل المستمعين بل وقاموا برجمه ..
غادر السلال صنعاء نهاية ديسمبر إلى القاهرة وفي يناير عام 64 هو العام الذي عاد فيه السلال من الخارج فقد أنشأ مك تبا سياسيا للأمن الوطني برئاسته .. لكن في نفس الوقت من عام 64 تم انتخاب الغادر المعروف بولائه للملكيين رئيسا لاتحاد قبائل اليمن وكان ذلك بوهم ان هذا سيسهم في كسب ولاء القبائل ومن ثم تخصص ميزانية لشراء ولاء القبائل وتبدأ موجات الولاء والولاء المضاد تارة مع هذا وتارة مع ذاك وبحسب الأسعار التي أخذت في المزايدة وطابت اللعبة لشطار اللعبة في سوق الولاء وطالت وتضاعفت الميزانية حتى انها بلغت في صندوقها نهاية 66 إلى ستين مليون جنيه ولم يوقف هذه الميزانية ويلغي هذه المصلحة هذا إلا مع مجيء طلعت حسن الذي كان من اشرف واطهر من أرسلهم عبدالناصر في اليمن ولكنه جاء متأخرا وبعد نزيف لا يعوض .
إذا أردت ان تفسد ثورة فاغرقها بالمال كما يقول هوشي منه ….
بعد زيارة وفد الملكيين برئاسة السياغي للملك فيصل لمناقشة إستراتيجية جديدة بعد انتصارات رمضان في المعارك التي اشرف عليها المشير عامر كما اسلفنا فقد تقرر رفع ميزاتية العدو السعودي في حربه في اليمن، وعلى أساس من قرار زيادة الميزانية ومضاعفة الدعم تدفقت الأموال والأسلحة الجديدة على رموز ومشائخ القبائل وأخذت لعبة تغيير الولاءات المزيفة وصارت تجارة مربحة على قاعدة من يدفع أكثر فكانت تتحرك من هنا إلى هناك وتنتقل سريعا ومن موقع إلى آخر على تلك القاعدة السيئة الذكر . هكذا وقعت الجمهورية وبهذا المنطق أوقعت نفسها في منافسة مالية مع السعودية لا تستطيع عليها ..
وفي تلك الأثناء بدأ المال السعودي يصل إلى جيوب الثوار المرابطين بالميدان وان بطريقة غير مباشرة ولحل مشكلة الملكيين في انقطاع طريق بيحان التي عبرها كانت طريق إمداداتهم وانقطاع هذا المنفذ بعد استيلاء الجمهوريين بعد معارك رمضان كان المال بديلا لتأمين طرق إمداد الملكيين وهي الطرق التي كانت واقعة تحت سيطرة الجمهوريين كما أوضحنا سابقا فهاهي الأموال تأتي للجمهوريين في نقاطهم مقابل السماح بمرور قوافل التموين للملكيين وهاهم قد ارسوا لأنفسهم بقناعات (عش وعيش) وصارت مسألة السماح بمرور سلاح العدو إلى حيث يريد هي مسألة مرهونة بحق العيش ولم تعد العيون التي تحرس الثورة في مراكز الطرق بل النقاط مصدر رزق وعيش وربما وفي حالات كثيرة تحولت الى مجال للثراء السريع ..
ان دخول الجمهورية على المنافسة في هذا النمط من ضمان الولاء قد جعلها تسقط في ممارسات أخلاقية فاسدة بل وتحتضن الفساد وترعاه في وسطها .فضلا عن انها معركة لا تقوى على منافسة آل سعود في النقطة التي تتفوق فيها السعودية وما كان ينبغي ان تفكر قيادة الث ورة والجمهورية في اللجوء إلى منافسته في ميزان لا مجال للمقارنة بين صحراء بات البترول يضخ فيها مئات براميل الذهب وبلد لا يكاد في ميزانيته ان يستطيع توفير قوته وموظفيه فوق انها أغرقت الميزانية في العبث من خلال مصلحة شؤون القبائل حتى بلغت في إحدى سنواتها ملايين الجنيهات الإسترليني وهو فوق ذلك ثقيل العبء وعديم الجدوى ومفسدة جمهورية تستهل بها الجمهورية عهدها في فتح أسواق تجارة بيع وشراء الولاء اما بالنسبة للسعودية فهذا سوقها فهو بأي رقم بلغ ، فهو مبلغ هين وبالنسبة لمن يتم شراؤهم فإنهم يعودون ثانية لبيع ولائهم للسعودية التي تدفع بأضعاف أضعاف ما تدفعه ثم ان الولاءات للثورات لا تشترى بالثورة ثم ان الشعب كله هب من شماله وجنوبه للدفاع عن الثورة .. أضف إلى ذلك ان كل وزير يطالب برفع مرتبات موظفي وزارته وتمت الاستجابة لوزير التربية والتعليم حينها كان محمد محمود الزبيري .. وبتقدير ان المعلمين يلعبون دورا لا يقل أهمية بل وأكثر من الجنود في المعركة ثم جاء بعده البيضاني مطالبا بزيادة مرتبات موظفيه وكانw الهيكل الإداري قد عبئ بمدراء بلغوا قياسا بعدد الموظفين بنسبة مدير واحد لكل أربعة موظفين .
ونظرا لضغط الالتزامات المالية على حكومة الثورة ألقت هذه الوضعية بثقلها وبدأت تبرز الانشقاقات في أوساط الجمهوريين من الموظفين ..ثم ان مرتبات القوات كانت تدفع بانتظام وكانت المتأخرات من نصيب الموظفين المدنيين ..