د/ أماني محمد الشهاري
كانت الريح تعوي فوق سماء المدينة الحالمة ….وترسل على شوارعها النحيلة منشورات ساخرة……كانت الريح تنبح على البيوت وتجتاح الأبواب والنوافذ ، واحيانا كثيرة تكسر الزجاج والأحجار والعظام……. قصة كتبها محمد السقاف بأنامل الإبداع وعبقرية المفكر وخيال الروائي ، سطرها بإحساس من يتملك الوطن كل وجدانه ويرى أن وجوده من وجوده ، جمع فيها التاريخ والفكر الأدب والسياسة في سرد خلاب يأخذ اللب ويجعلك تلتهم حروفه الشهية بنهمالجائع ، وانبهار المدرك لكل معانيها ، وبكاء الحزين لما جاء في سطورها من أحداث تحكي ماض وذكريات تخاطب كل قارئ وتهز وجدانه فهو يخاطب فيه اليمن وروحها. محمد السقاف هذا الساحر سرد روايته بحيث تستوقف كل عبارة القارئ الذي سيفاجأ أن في كل عبارة رواية وبأن كل كلمة في موضعها تلقي بثمرتها المنشودة ، جمال فني ، إبداع أدبي وعاطفة غامرة تبرز من ثنايا كل حرف. برأيي أجد أن ريح الشمال نص أدبي رائع ينبغي أن يدرس للأجيال ويزرع فيهم رقي الفكر وحب الوطن وعشق المدينة الحالمة ذات الشوارع النحيلة . سرد السقاف التاريخ الأحداث دون ان يخرج نصه عن إطار التشويق والإثارة وجمال صياغة القصة . فقد رصع روايته بشخصيات اختارها بتمكن ومقدرة وذكاء حاد فمثلا سعد اليتيم وهو الجيل الناشئ ، الجدة نجاة وهي الجيل المخضرم ، إبراهيم الجندي الذي كان أمل اليمن وحياته التي عادت إليه ، علي الذي غدر بإخلاص و هرع الى أحضان ريح الشمال والمآل الذي صار إليه عندما لفظته تلك الريح البغيضة، والتي جردته من كل آماله وطموحاته المادية ، وأخيرا بطلته إخلاص الرائعة المحبة الوفية التي يقصد بها الوطن الذي يموت كل يوم بسبب شقاء بنيه. يحكي السقاف تاريخ عدوان على بلاده امتد منذ القدم ولا يزال يعصف به حتى اللحظة. « ريح جلبت التعاسة والسموم والجحيم » « نفضت في سمائنا زوبعة من الغبار والشياطين » حكى عن الثورة المجيدة وتذكر اليمن السعيد « أميرة المدائن والأمصار» اختصر مجلدات في بضعة سطور في مقدرة فائقة حين تحدث عن الشهيد الفارس الفذ إبراهيم الحمدي في شخص إبراهيم الجندي الذي ازدهرت البلاد في عهده وعادت إليها الحياة ، ويبرز هنا مكمن الجمال في روعة الوصف والتصوير «بنى للقرية حاجزا روحيا لم تعثر ريح الشمال على طريقة لتهديمه …..اخضوضرت الحياة ونمت الاشجار ودبت الحيوية في مزارع القرية التي ظهرت مثل حورية ذات شعر نباتي مترامي الأطراف ولها بستان فارع من الأعناب والرمان » تحدث عن اليمن التي جسدتها شخصية إخلاص في بذلها وتضحياتها وحبها ووفائها العظيم « أخبره أني أصعد الى رأس الجبل، انتظره كل يوم وقت شروق الشمس وقبل الغروب ولن أهجر هذه العادة إلى أن يعود أو أهلك دونه » ، إنه الفن وجمال التصوير في عبارات وردية حالمة وضع فيها السقاف مقدرات أدبية رفيعة. لقد تمكن السقاف من قصته تمكن صائغ الذهب من حليته فقد أبدع نقشها وأحسن سباكتها وأودعها كل أسرار صنعته ففي كلمات وجيزة يصف بها السقاف الجدة نجاة وهي تتأمل ألبوم الصور الذي يحوي صور عائلتها « نزهه عائلية حول الارض و معراج الى السماء وهي ترتع بين أزهار شبابها الذابل تقلب الشموس الغالية التى أطفأها الموت عاجلا بينما كانت تشرق على الحياة …… » ذكر الأرض والمعراج الى السماء وتجنب كلمة الموت فشموس الجدة نجاة لم تمت ولكنها عرجت إلى السماء ، وتحدث في نفس العبارة عن حياتين وعن جيلين فنجد مثلا حياة الجدة المضنية والغابرة ، وحياة إخلاص الشمس الغالية التي انطفأت في بداية إشراقاتها. يشير إلى اليمن إشراقة الثورة وما عاناه جيل الجدة في سبيلها ، وكيف ضيعت هذه الإشراقة وكان الثمن حياة إخلاص ( اليمن )نفسها. كما يتناول السقاف يد الغدر التي طالت وطنه فيشبهها بالبحر اللطيف الغادر الحقير وذلك على لسان الجدة وهي تحكي حكمة بليغة « لأنه -أي البحر- ما ان يوقن أنك أكلت الطعم ومضغته جيدا …إلا وسرعان ما يفاجئك بعواصفه وفيضاناته الجارفة ….ثم يبتلع روحك إلى قرار أمعائه زاهدا عن جسدك الزهيد….راضيا بانتزاع أنفاسك وحسب بعد ان يلفظك عاريا من روحك فوق الرمال….» وتمضي أحداث القصة في سرد عبقري رائع وتناول موضوعي ذكي ، حتى إن كاتبها لم ينس أن يبعث رسالة للأجيال القادمة « فلنحترس إذن ولتحترس الأجيال القادمة ولنبق جميعا متيقظين في الآفاق، قادرين على التذكر…..