“وصية” الملك عبدالعزيز وبندقيته !
علي حسين
منذ تأسيسها، الدولة السعودية الثالثة، على يد الملك عبدالعزيز آل سعود، وجغرافية هذا الكيان الجديد، الناهض من وسط صحراء الجزيرة العربية، تتسع. وعلى طول الخط الزمني للقرن العشرين، عصفت باليمن عشرات الحروب والنزاعات، وظلت بائسة طوال العهود الملكية، ولم تستقر اليمن في العهد الجمهوري طويلا، رغم الإنجاز النوعي والتحول، على صعيد الثقافة السياسية ونظم الادارة والحكم، والانقلاب الجذري الذي ألغى نظرية “الحق الإلهي” لصالح الأمة والشعب.
لقد حارب الملوك السعوديون اليمن وهي ملكية، ثم حاربوها جمهورية، وتصدوا لها جنوبية وشمالية، وموحدة!
لم تكن العربية السعودية، على جانب بعيد من هذه الحروب والاعاقات في طريق أجيال حركة التحرر الوطنية، سواء في الشمال أو الجنوب، فقد وقفت السعودية دائما على الضد في وجه أي تحول يجري في اليمن.
البداية، من موقفها الرافض لمشروع الدستور، الذي اعدته الحركة القضائية سنة 1948 بقيادة ال الوزير. ثم من رفضها القاطع لفكرة الثورة والتحول الى النظام الجمهوري، و قبل الثورة بسنتين، كانت “الرياض” قد أعلنت رفضها القاطع لفكرة برنامج الاصلاح الاقتصادي والسياسي، لولي العهد محمد البدر، كخطوة متحولة. وعندما ثارت اليمن على النظام الملكي وطردت البدر ليلا من صنعاء، تحولت السعودية عن موقفها السابق المعترض على سياسة البدر وإمامته، وأشهرت سيفها في وجه ثوار 26/9، وبدأت حرب الـ ثمان سنوات على “الجمهورية العربية اليمنية”، وهي في مهدها، لكن عجلة التأريخ مضت وباءت المملكة بالهزيمة.
ثم إنها قررت دعم “شيوخ” القبايل واعتماد مرتبات وامتيازات شهرية لهم، ليكونوا أصحاب السلطة الفعلية داخل سلطات ومؤسسات ووظائف الدولة اليمنية. ومعروف إعاقة المملكة للنهج التأسيسي الذي حاولت مرحلة الرئيس القاضي عبدالرحمن الإرياني إرساءه، فتضررت “الحركة الوطنية” ، وتعرض رجالها ورموزها للسجن والملاحقات والتشويه.
ورغم أن المقدم ابراهيم الحمدي، الذي تسلم الحكم ضمن مجلس قيادة، متفاهم مع المملكة، إلا ان سنوات الحمدي الثلاث، التي عززت الروح الوطنية لدى عموم المواطنين، مع سياسة خارجية منفتحة وغير منحازة، أزعجت الرياض، فقررت التخلص منه في “صنعاء” ، بالموازاة الزمنية نفسها: التخلص من الرئيس “سالمين” في “عدن”. وبدأت مرحلة جديدة، ملتهبة بين اليمنيين جنوبا وشمالا كانت السعودية، فاعلا اساسيا في إضرام نار الحرب، وتأجيج الاقتتال الداخلي بين الشطرين، من خلال دعمها لما عرف بـ”الجبهة الاسلامية”، في مواجهة ما عرف في حينها بـ”الجبهة الوطنية”، أو ما بات يعرف بأحداث أو حرب “المناطق الوسطى”.
وبصرف النظر عن توزع اليمن بين معسكري الحرب الباردة، الا أن لغة التحريض على العنف قد استنهضت هويات مناطقية ومذهبية ، على الضد من وعي الهوية الوطنية الجامعة التي كانت، رغم ذلك، توحد الوجدان الرسمي والشعبي عند طرفي القتال. توقفت الحرب، لكن العبث بـ”الهوية”، من خلال المعاهد العلمية (الدينية) في اليمن والقوى السلفية المتشددة، المدعومين من قبل هيئات رسمية وغير رسمية داخل السعودية، استمر في نهجه التجريفي الى مرحلة ما بعد الحرب الباردة.
والملاحظ أن اليمن التي افترقت بنادقها بفعل الانقسام بين الشرق والغرب، تركت السلاح في 22 مايو 1990، وذهبت الى الوحدة. وكان ذلك مزعجا “للرياض” ، استنادا الى منطق الوصية:” احذروا يمنا موحدا”. وقد عبرت المملكة، عن رفضها لهذا التحول، من خلال سياساتها أولا، وأيضا من خلال رفض القوى الرجعية، لفكرة الوحدة من الاساس، عشية اعلانها التاريخي، حيث رفضت تلك القوى بشكل قاطع بعض مواد الدستور، وتحفظت على فكرة الديمقراطية باعتبارها مستوردة، ويجب ان تستبدل بـ”الشورى”. كما انها اعترضت على المشاركة السياسية للمرأة، وعلت اصوات التكفير، والتحريض ضد قيادات الحزب الاشتراكي، وشخصيات ورموز ثقافية وسياسية.
“الرياض” لم تغضب فقط من الموقف الرسمي لدولة الوحدة تجاه احتلال العراق للكويت، وإنما عاقبت الشعب اليمني، واتخذت قرارات متهورة وجائرة تجاه كل المغتربين اليمنيين، معتمدة “نظام الكفيل”، وتعرض الكثير منهم للطرد، وكان لخروج مئات الالاف من المغتربين اليمنيين في المملكة، آثاره الجسيمة على الاقتصاد الوطني.
وانفجرت حرب صيف 1994، لتجد المملكة نفسها في خندق الانفصال، وضد “يمن موحد”. والملاحظ ، وعلى طول مراحل التحولات الكبيرة التي شهدتها اليمن، كانت “الرياض” تعترض وتواجه هذه التحولات دائما، غير أن الثابت من جهة اليمن، ان هذه السياسة الملتزمة بنص الوصية، كانت تنهزم أمام تصميم اليمنيين وارادتهم، بل أمام قانون حركة التأريخ.
لم تنزعج الرياض فقط من الوحدة اليمنية كقوة. ولكن “الوحدة اليمنية” جلبت معها، الى دنيا اليمنيين قيما ثقافية وسياسية جديدة. وتلك القيم في مجملها تعد إحدى اسرار قوة المجتمعات المتحولة : التعددية السياسية، وحرية التعبير، والمشاركة السياسية لجميع المواطنين، وحق الانتخاب والترشح لكل مواطن ومواطنة، وبث نقاشات مجلس النواب على شاشة القنوات التلفزيونية الرسمية للدولة، الشفافية ومكافحة الفساد، وغيرها من الامتيازات الثقافية للمجتمع اليمني، التي تخشى “المملكة” الانتقال اليها كـ”عدوى”.