ما أشبه الليلة بالبارحة
فهد الغنامي
حين يكون المولد استحضارا للنصر الإلهي يصبح ساعتها أكثر من مجرد احتفال ، خصوصا وان شعبا كاليمن ليس له وقت اليوم ليقرأ في مخاضات آمنة بنت وهب الطاهرة الزكية ؛ بقدر ما يحتاج إلى قراءة أعمق يستلهم بها مخاضات أمة صنعها محمد بعين الله .
إن شعباً كاليمن وهو يعيش وطأة حصار ظالم لقرابة ثلاثة أعوام يجد في سيرة محمد النبي الذي حوصر في شعب بني طالب بمكة ؛ أٌنساً لوحشته وملاذاً لغربته في عالم متوحش وجاهلية جهلاء .
فغربة الشعب اليمني لا تقل عن غربة المصطفى في شِعب مكة وطغاة قريش يساومونه على ترك مسيرة التوحيد مقابل فك الحصار عنه وعن عائلته ؛ إذ ظن القوم بكبريائهم أن محمدا إنما يبحث عن مكانة وسلطة وجاه فعرضوا عليه من أمور دنياهم ما يغريه فيرد عليهم بكل عزة وإباء لينقل إليهم على لسان عمه “يا عم والله لو وضعوا الشمس في يماني والقمر في يساري على أن اترك هذا الأمر ما تركته” .. وكأنه يقول لهم أن ما أحمله لا يشترى بأموال الدنيا كلها .. انه الحق الذي سيزهق كل طغيان الدنيا فحاصروا ما شئتم واعملوا ما شئتم فإن معي مالك السماوات والأرض .
وما التآمر الذي يعيشه شعب الإيمان والحكمة من أحفاد قريش الجاهلية وحلفائهم إلا صورة للتآمر الذي عاناه محمد من قومه ليفك ذلك الحصار بعد أن خرج متحدياً بحقيقة مفادها أن دودة (أرضة) قد قضت على وثيقتهم مستثنية اسم الله ليذعنوا أمام الحقيقة مؤقتاً ثم يعودون لسيرتهم الأولى إلى أن ظهر أمر الله وهم كارهون .
وها هو حفيدك يا سيدي يا رسول الله ومعه شعب الإيمان والحكمة ، وقد سار أحفاد قريش معه بسيرتهم معك وجعلوا من نفطهم وأموالهم مركبا لسطوتهم وتجبرهم .. ها هو اليوم يقول لأحفادهم : “والله لان نتحول إلى ذرات تبعثر في الهواء اشرف وأحب وارغب إلينا من أن نستسلم لكل أولئك الأنذال المجرمين القتلة المفسدين في الأرض الطواغيت المتكبرين”
وهم هكذا ينظرون إلى الضمائر والمبادي مجرد سلع رخيصة تباع وتشترى بالمال ولا يرون في الإنسان شيئا ثمينا أغلى من أن يباع ويشترى ، لذلك سمعنا حفيد هند بنت عتبة وهو يرددها أمام العالم بأنه سيشتري الذمم والضمائر في بلاد اليمن ، ناسياً ما يمكن ان يصنعه الإيمان الصادق بك يا رسول الله ومتجاهلا ما يفعله الاقتداء الأصيل بك ..
يا سيدي يا رسول الله إن في العالم بقعة آمنت بك حبا واقتناعا ورغبة وعلى بصيرة وها هي وقد عجزت جاهلية العالم اليوم عن اخضاعها لتسير بسيرة الذل التي كنت أنت أول من رفضتها تحيي ذكرك منفردة في شبه الجزيرة العربية وتحت قصف أحفاد شيبة وابو جهل وعتبة وتعاهدك بقول شاعرها اليماني :
لو حولونا لذرات مبعثرة لسبحت با سمك الذرات والنتف
لنا في ذكرك يا رسول الله دواء لجراحنا ويقين في الانتصار مهما بلغ كيد الظالمين ، فالمسيرة هي المسيرة ورب الكعبة والجاهلية هي الجاهلية تحاول بجاهليتها إطفاء نور الله وهو متم نوره ولو كره الكافرون .
وكيف لنا يا رسول الله أن ننسى يقينك بنصر الله وإيمانك بصدق وعده حين كنت وحيداً في الطائف وأحجار الجاهلية الأولى تنهال عليك من كل اتجاه حتى أٌدمي جسدك الطاهر لتلوذ إلى زاوية احد بساتينها بثقة بالله ارسخ من جبالها ؛ فتناجيه تضرعا وتشتكي إليه مطمئناً :
“اللّهُمّ إلَيْك أَشْكُو ضَعْفَ قُوّتِي ، وَقِلّةَ حِيلَتِي ، وَهَوَانِي عَلَى النّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرّاحِمِينَ ! أَنْتَ رَبّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبّي ، إلَى مَنْ تَكِلُنِي ؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهّمُنِي ؟ أَمْ إلَى عَدُوّ مَلّكْتَهُ أَمْرِي ؟ إنْ لَمْ يَكُنْ بِك عَلَيّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي ، وَلَكِنّ عَافِيَتَك هِيَ أَوْسَعُ لِي ، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك الّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظّلُمَاتُ وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَك ، أَوْ يَحِلّ عَلَيّ سُخْطُكَ، لَك الْعُتْبَى حَتّى تَرْضَى ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِك”
ولم يخب ظنك في الله فهاجرت وجاهدت ولم تستكن لك قناة حتى أتم الله نوره ودانت رقاب الطغاة لدينه الواحد محطمة الأصنام الحسية والمعنوية لتتحرر الدنيا بكلها من كل معبود سوى الله .
وما أشبه الليلة بالبارحة .. فو الله لكأن التاريخ يعيد التفاصيل باستثناء الأسماء فقط .
وكما كانت البدايات معك ها هي تتكرر اليوم .. وإذ تشابهت المقدمات فلا بد للنتائج أن تتشابه وليس ذلك مجرد رجم بالغيب ؛ فو الله لقد لاحت أماراتها بنصر من الله وفتح قريب وما ذلك على الله بعزيز.