عبدالباسط النوعة
على امتداد الطريق الساحلي الجميل الذي يربط محافظتي الحديدة وتعز توجد الكثير من الأماكن السياحية ذات الثراء والتنوع البيئي والبحري الفريد فعلى هذا الطريق تقع مدينة الخوخة التابعة للحديدة ومدينة المخا التابعة لتعز وكلاهما مدينتان فاتنتان وموقعهما متميزان وشواطئهما بالغة الجمال وإن كانت المخا تتفوق قليلا عن الخوخة في موقعها وتحكمها بمضيق باب المندب ضاعف جدا من أهميتها فضلا عن احتضانها لمواقع تاريخية عديدة وهذا ليس بغريب على مدينة كان فيها أقدم الموانئ اليمنية التي اشتهرت على مستوى العالم بتصدير البن اليمني الأصيل .
وهو ما تدركه قوى العدوان الطامعة بثروات اليمن التي شنت حربا منذ أشهر للسيطرة على المخا وأسقطت طائرات العدوان الآلاف من الصواريخ على هذه المدينة غير مكترثة كعادتها لأي اعتبارات مدنية أو أخلاقية أو إنسانية .
ارتباط بالماضي
في هذه المدينة المفعمة بالحضارة والجمال يوجد معلم تاريخي ارتبط بالجانب الديني الذي يعتبره الأهالي ذا قيمة استثنائية يعبر عن الأصالة ويمثل لهم صورة من صور الوفاء للرموز الدينية التي أثرت فيهم وساهمت في صنع التغيير الإيجابي وزيادة ارتباطهم بالدين وتعاليمه السمحة، إنه جامع وضريح رجل الدين البارز في ذلك الوقت وتحديد في القرن التاسع عشر الهجري علي بن عمر بن إبراهيم الصوفي الشاذلي .
حطت بنا إحدى الرحلات السياحية جوار هذا المسجد والضريح الذي انجذبنا إليه لبنائه الفريد وقبابه رائعة البناء قصدنا المسجد مباشرة وأدينا فيه صلاة العصر مع إن الوقت كان قد تأخر علينا فقد كانت الشمس على وشك الأفول في ذلك اليوم ، وأثناء الصلاة كانت تتسامع إلى آذاننا أهازيج والحان وتسابيح غاية في الروعة أعجبتنا وإلى مستوى كبير جداً جعلتنا ننشغل بها أثناء الصلاة حتى قال أحدنا لابد أن نعيد صلاتنا عند وصولنا إلى مدينة تعز .
تتبعنا مصدر تلك الألحان والدفوف الشجية بلهف شديد حتى وصلنا إليها في مقام ذلك الشيخ الجليل مجموعة من الناس تغدوا بأصواتها العذبة موشحات بديعة جل كلماتها تسابيح وأذكار واستغفار للخالق عزوجل . أرادوا التوقف للترحيب بنا أشرنا إليهم بالمواصلة لنزيد أسماعنا طرباً وقلوبنا انشراحا وأذهاننا صفاءً .
بقايا نقوش وزخارف
ولعل ما زاد استمتاعنا لدرجة الاندهاشة هي تلك العمارة والقباب التي لا زالت بعض من نقوشها بارزة وتلك الأضرحة المرتفعة المزينة بزخارف وكتابات ونقوش نباتية خشبية فقد كان ضريح الشاذلي المرتفع الى نحو متر مسجى بالسجاد المكتوب عليها آيات من القرآن الكريم .
عندما سألنا عن تلك الطقوس من العادات وهل كانت هذه الأمسية لمناسبة معينة أم أنها عادة دورية لا زال الأهالي مرتبطين بها أخبرنا أحد المشاركين بهذه الأمسية أن هذه الطريقة الصوفية التي أرسى دعائمها الشيخ الشاذلي لا زالت حاضرة وبشكل دوري وسرد لنا أوقاتها وهي كثيرة ولم نعد نتذكرها .
وقال عن تاريخ المسجد والضريح (إن تاريخها يعود إلى الزمن الذي عاش فيه صاحبهما وتحديداً إلى 820 هجرية وتم توسعة وترميم وتعميد السطح بالأعمدة الخشبية حتى يرتفع أكثر وهذا كله حدث سنة 1399 هجرية .
وبالعودة إلى بعض المصادر التاريخية فإن القبة الضريحية بنيت في العصر العثماني وأن أحد وزراء الدولة العثمانية أمر ببنائها في سنة 1000 هجرية فتمت العمارة وتم تجديد قبر الشيخ وولده وكسوتهما ، كما تقول ذات المصادر أن نفس الوزير العثماني أمر ببناء مسجد جوار القبة وهذا الاهتمام بهذا الشيخ (الشاذلي) من قبل الدولة العثمانية ربما يعود لأهداف سياسية حتى يحظوا بتعاطف الأهالي سواء بالمخا وما جاورها فقد كان هذا الشيخ يحظى بحب واهتمام واسعين حتى بعد موته بعشرات السنوات وهو ما استغله الأتراك جيداً .
قباب متناسقة
وعلى بعد امتار من الجامع وجدنا بقايا مئذنة قديمة قيل لنا أنها كانت المئذنة التاريخية للمسجد ولا يعرف متى اندثرت أو تهدمت بشكل دقيق مع وجود مئذنة أخرى بين المسجد والقباب .
وعلى بعد امتار من المسجد تترآى للناظر تلك القباب المتناسقة على شكل صفوف متساوية فضلا على قبة أخرى غير ملاصقة للمسجد وهي مبنية وكذلك المسجد بالحجار والطوب المحروق وتضم القبة إضافة الى قبر الشيخ الشاذلي قبورا أخرى احدهما كما قيل لأحد أبنائه .
حقد العدوان
نجا هذا المعلم والقبة الضريحية التاريخية من سطوة وإرهاب أدوات العدوان من القاعدة وداعش التي فجرت الكثير من القباب والأضرحة التاريخية في المناطق التي احتلتها قوى العدوان وظلت المخا ومعالمها التاريخية في مأمن من تلك الأدوات بفضل رجال الجيش واللجان الشعبية الذين لا زالوا يشكلون الصخرة الصلبة أمام قوى العدوان ومرتزقته الساعين لاحتلال المخا ، ففي أواخر يناير الماضي عمدت طائرات العدوان إلى ارتكاب جريمة حضارية بحق هذه المدينة من خلال قصفها المباشر والسافر على معلم ارتبط به الأهالي ارتباطا تاريخيا وروحيا حيث استتهدفت بغارة جامع وضريح الشاذلي أدت إلى تدمير الضريح بشكل كامل .
هذه الجريمة التي سبقتها عشرات الجرائم البشعة بحق التراث استقبلها الأهالي باستياء شديد ورغبة جامحة على مقاومة قوى العدوان والتصدي لهم بكل حزم .
هذا المسجد كان يختلف بشكل كبير في شهر رمضان المبارك حيث يتحول إلى ورشة عمل لا تتوقف إلا في ساعات نوم الناس ما بين مجموعات لتلاوة القرآن وأخرى لتدارس العلوم الشرعية ولعل ما خلفه الشيخ الشاذلي لايزال حاضرا في تلك الورشة من خلال آرائه وأفكاره التي كان يغلب عليها الطابع الصوفي كيف لا وهو من أسس هذه الطريقة التي تعتمد على الوجدان والروح في العبادات بشكل كبير ، وفي الجانب الآخر تظهر قبة الضريح بشكل مختلف أيضاً من خلال الجلسات وسمرات المقيل التي يرافقها دقات (الدف) والأهازيج الصوفية بالحانها الشجية والروحانية..