كمال البرتاني
كان عبدالله ينتظر أن يرسل له والده المبلغ الذي طلبه منه لاستئجار دكان آخر بعيد عن (عطان).
لطالما حلم في طفولته أن يكون لديه دكان؛ ليحصل على الحلويات والألعاب بالمجان، لكن نصف الحلم فقط قد تحقق.. دكان فارغ للسكن، لا للبيع والشراء.
منعه والده من مشاركة أبناء قريته الشقة التي يسكنونها ويتقاسمون إيجارها؛ بحجة أنهم سيلهونه عن الدراسة والمذاكرة.
هاتَفَهُ الساعة السادسة يتأكد أنه قد استيقظ وصلى الفجر، مجدِّداً له الوعد بأن يزوجه الخريف القادم. ابتسم عبدالله وقال إنه صلى، وسوف يكون الساعة الثامنة في الجامعة. لم يشأ أن يقلقه بشأن مرضه؛ فقد ظهرت عليه أعراض الإصابة بالكبد، بتأثير حالة من الفزع -وهو بين النوم واليقظة- مع أولى الغارات التي شنتها الأحقاد السعودية المجنّحة على جبل عطان.
انتهت المكالمة فأقفل الهاتف، وعاد للنوم. حالة الإرهاق جعلته يستمر في النوم، ويتخلف عن الجامعة التي قيل إنها ستغلق أبوابها لدواعٍ أمنية.
وحوالي الساعة العاشرة، استيقظ مفزوعا مكتوم الأنفاس، والدم يسيل من رأسه، فقد طيّره انفجار القنبلة الفراغية من فراشه فارتطمت كتفه ثم رأسه بالجدار المقابل.
لاحظ أن باب الدكان الحديدي قد التوى، وأن ضغط الانفجار أحدث فتحة يستطيع من خلالها رؤية الضوء في الشارع. خفق قلبه بشدة واستنتج أن الغارة أصابت هدفا في الحارة وليس في الجبل. ومع هذا، فقد شك بوجود قصف متبادل بالسلاح الثقيل، فثمة انفجارات متتابعة، وأصوات ارتطام القذائف والشظايا تأتي من كل مكان.
من أين له أن يعلم بأنها صخور الجبل المغدور، تتساقط كالمطر على المنازل والطرقات؟!
بالكاد استطاع استرجاع الإيقاع شبه المنتظم لتنفسه، وشيئا فشيئا قيّم الأضرار: التواء في قدمه اليمنى، وكسر في عظمة الكتف حيث يشعر بألم يشبه الحريق ويزداد لهبه استعارا مع كل ثانية تمر.
ولأنه عاجز عن الوقوف، زحف باتجاه الباب محاولا فتحه. لحظتها ارتطمت به قطع صلبة لا يدري ما هي، فأحدثت دويا مرعبا داخل الدكان.
صرخ بكل ما يمتلك من قوة، ثم زحف وهو يئن ليضيء المكان بكشاف يشبه تلك التي يستخدمها عمال المناجم. من فتحة الباب كان يتسرب الغبار محملا برائحة غريبة جعلته يسعل ويجد صعوبة في التنفس. قال: “كان للدكان باب آخر باتجاه الحوش الخاص بصاحب العمارة، وكان يعلوه عقد من الجص والزجاج الملون، من حسن حظي أنه تكسر مع نافذة الحمام، وإلا كنت سأموت من الاختناق”
وتذكر ما قاله له عاقل الحارة: “افتح المَنْور الذي فوق الباب يا ابني، حتى لا تتأذى إذا حدث انفجار قريب”، لكنه أبقاه مغلقا؛ تجنبا لضوضاء الشارع.
ربط الجرح في رأسه بشال ليخفف النزيف، وحاول الاتصال بأحد الجيران، بصديق يسكن في حارة مجاورة، من دون فائدة.
فكر في ما يمكنه أن يفعل، وهو يسمع دوي الانفجارات مع صوت ارتطام صخرة بخزان الماء، وحركة سريعة في الشارع: وقع أقدام، سيارات مسرعة، صياح الجيران، كأنما يتابع مباراة عبر المذياع ويتخيل تحركات اللاعبين. . ماذا يحدث؟ لماذا كل هذه الفوضى؟
الغارات تتجدد يوميا، ولم يحدث شيء كهذا من قبل!!
غلب في ظنه أنها مواجهات مسلحة، أثارت الفزع في أوساط الأهالي.
بعد دقائق من الاضطراب والحيرة، حاول من جديد فتح الباب، برغم ألم كتفه والتواء قدمه، ثم أدرك أنه أصبح سجينا، ولا بد من طلب المساعدة.
“هل سأموت؟ شهور قليلة تفصلني عن نيل الشهادة الجامعية والزواج. أهذا عرسي أم حفل تخرجي من الحياة؟! يا ألله: لا أريد أن تكون هذه هي النهاية. إذا كان لابد من الموت قبل تحقيق طموحاتي، فليكن وأنا أحمل السلاح وليس هنا”.
تخيل نفسه مغسولا بالدم، محمولا على الأكتاف، ثم ممددا على “مُغتسل الموتى”. سار في جنازته، وعدّ الأشخاص الذين يذرفون الدموع حزنا عليه. سمع أصدقاء طفولته يتهامسون بألم: “مسكين، مات قبل أن يرجع بشهادة الجامعة- لو تعسكر مثل أخوته إن قده أب- الله يرحمه، كان عنده طموح، لكن كل الطموحات مقتولة في هذه البلاد”.
وقبل أن يخرجوه من النعش، ويدسوه في القبر، سمع سيارة صاحب العمارة تدخل الحوش فتنفس الصعداء.
زحف باتجاه الباب ودقه مستنجدا، ومع كل دقة يصرخ الألم في كتفه بصورة أشد وأعمق.
لاحظ أن الدم اخترق السماطة التي عصب بها رأسه وسال على وجهه وعنقه. “إذا استمر النزيف سأموت هنا”. فتح إحدى العلب في الزاوية التي يوجد بها “بوتاجاز” وعدّة مطبخ عزوبي، وسدّ الجرح بقبضة من ورق الشاي. “سيتوقف الدم لبعض الوقت فقط”. ركل الباب برجله اليسرى وهو يستند على الحائط، وتوالت صيحاته حتى سمعه صاحب العمارة الذي جاء لإجلاء أفراد أسرته.
– مالك يا عبدالله؟
أخبره أنه جُرح، ولم يستطع فتح الباب.
– صَبْرك صَبْرك يا ابني، أشلّ العيال بيت أخي وأرجع لك.
لم يدر عبدالله بم يجيب. “لن يعود إلا وقد نزفتُ آخر قطرة من دمي.. لا حول ولا قوة إلا بالله.”
ثم سمع حوارا سريعا بين الرجل وزوجته المنتحبة، بث في روحه الأمل قبل أن يُجهز عليه:
– أين مفتاح القفل حق الدكان يامَرَة؟
– ما تشتي منه؟
– عبدالله محبوس داخل وبابه ما رضي ينفتح.
– أسألك بالله هذا وقت أدور فيه المفتاح؟ قد نسيت اسمي من الفجيعة، والله ما أني دارية أين هو.
أدار الرجل محرك السيارة وانطلق مع زوجته وأولاده، تاركا الشاب المسكين يواجه قدره.
لم يكن أمامه إلا حل واحد، محاولة الخروج من العقد. حاول إلا أنه سقط، وشعر بدفقة دم ساخنة تسيل على جبينه. كان لحظتها يسعل من ضيق التنفس، ويتلوى من الألم، بينما يحس أن روحه تتسرب ومسرح الحياة يظلم شيئا فشيئا.