*العدوان والحصار يفاقمها لمستويات كارثية
تحقيق/عبدالله كمال
أطفال ألقت بهم الحياة في معتركها دون سابق إنذار، ليجدوا أنفسهم مسئولين عن أسرهم بعد أن فقدت عائلها أو مصدر رزقها، فاندفعوا مكرهين إلى سوق العمل، ليزاولوا أعمالا قد لا تتناسب في كثير من الأحيان مع أعمارهم وقدراتهم الجسمية، بل واستعداداتهم النفسية.
محمد أمين.. طفل لم يبلغ الرابعة عشرة، توفي والده جراء إحدى الغارات التي يشنها طيران للعدوان السعودي على العاصمة صنعاء.. ولأن والده كان المعيل الوحيد للأسرة، حيث كان يعمل في مجال البناء، فسرعان ما لحق بالأسرة العوز والحاجة، لتدفع بطفلها محمد إلى الشارع كي يكسب ما يسد رمق الأسرة من عمله بائعا متجولا لألعاب الأطفال.
يرابط محمد في جولة القيادة بشارع القيادة في العاصمة صنعاء طوال ساعات النهار، ليختتم يومه وقد كسب بضع مئات من الريالات، تفي بالحد الأدنى للأسرة من متطلبات الحياة.
هو نموذج للأسرة العصامية، التي آثرت دفع طفل من أفرادها للعمل بدلا من الاستسلام للعوز والحاجة التي قد تدفع المرء في كثير من الأحيان إلى أن يسلك طرقا غير سوية من أجل كسب لقمة العيش، غير أن هذه الأسرة وطفلها محمد أثبتوا أن لا يأس مع الحياة، وأن العوز والحاجة لا يكونان مبررا للانحراف ومحاولة كسب العيش بطرق غير سوية، وعلى حساب القيم والأخلاق..
ليس محمد أمين حالة نادرة، فغيره الكثيرون ممن دفعت بهم أسرهم إلى العمل، تحت ضغط الحاجة، يوسف هو الآخر وجد نفسه في مواجهة مع قسوة الحياة التي ألقت على عاتقه بالمسئولية عن توفير لقمة العيش والحد الأدنى من متطلبات الحياة لأسرته المكونة من أم وأربعة إخوة، بعد أن فقد الأب عمله في أحد المصانع التي قصفها طيران العدوان السعودي، واتجه بعدها إلى جهة مجهولة ومنذ عام لم يعودوا يعلمون عن مصيره شيئا، فلم يجد أمامه إلا الاتجاه للبحث عن عمل يؤمن من خلاله متطلبات الأسرة للعيش.
يعمل يوسف الآن في بيع مستلزمات بسيطة للسيارات، في إحدى جولات المرور، ضاربا مثلا في العصامية، والاعتماد على النفس ليكسب من عمل يده ما يقيه وأسرته معاناة الجوع ومذلة الحاجة.
العدوان والحصار
عمالة الأطفال التي تعد مشكلة اجتماعية في بلادنا، من أبرز نتائجها تسرب الأطفال من التعليم وترك المدارس والاتجاه نحو سوق العمل، وكذا تعرض الأطفال للاستغلال بمختلف أنواعه، بالإضافة إلى ما ينتج عن هذه الظاهرة من مخاطر على سلامة الطفل.. لم تعد اليوم مشكلة، في نظر الكثير من الأسر التي وقعت تحت ضغط الحاجة، سيما مع ظروف الحرب التي تشهدها البلاد، وفقدان الكثيرين من العمال لوظائفهم وأعمالهم، بالإضافة إلى حالات النزوح للكثير من الأسر، لذا تدفع الأسر بأطفالها للعمل في سبيل الحصول على ما تيسر من المال، لتأمين الاحتياجات الضرورية لهذه الأسر.
لقد فاقم العدوان الخارجي والحرب التي تشهدها البلاد، وكذا الحصار الجائر برا وبحرا وجوا، ظاهرة عمالة الأطفال وهو ما ينذر بكارثة سكانية، يترتب عليها نشوء جيل منقطع عن التعليم، وفاقد للتأهيل وعاجز عن الإسهام في صناعة مستقبل البلاد.
مخاطر حتمية
يقول شهاب غالب، باحث اجتماعي: يحز في النفس رؤية الأسر تدفع بأطفالها إلى سوق العمل، وذلك لما تمثله عمالة الأطفال من خطورة على الطفل نفسه وعلى المجتمع أيضا، فنتيجة للظروف الاقتصادية التي تشهدها البلاد في الوضع الراهن، فإن كثيراً من الأسر لم تعد تهتم بتعليم الأطفال وعدم الدفع بهم لسوق العمل، بل صارت ترى أن الأولوية هي لتوفير لقمة العيش، حتى ولو ترك الطفل تعليمه بشكل نهائي، وهو الأمر الذي كما قلنا يشكل خطورة على الطفل وعلى المجتمع، فالطفل يحرم أولاً من حقه في الطفولة وتوفير البيئة المناسبة له لقضاء طفولته كأي طفل في العالم محاطاً برعاية والديه ورعاية الحكومة والمجتمع، حتى يكون الطفل قد أشبع حاجاته كطفل أولاً وكذا حصل على حقه في الرعاية لينشأ نشأة طبيعية، بالإضافة إلى أنه سوف يحرم من حقه في التعليم والتنشئة الأسرية والتعليمية والاجتماعية، وهو الأمر الذي ستكون له آثاره السلبية مستقبلاً، بنشوء جيل جاهل وغير مؤهل ومعد الإعداد اللازم لمواجهة الحياة وهو ما يترك أثره السلبي على مستقبل المجتمع برمته.
ويضيف غالب: ولا تتوقف مخاطر ظاهرة عمالة الأطفال عند هذا الحد، بل إن الدفع بالطفل إلى الشارع لمزاولة عمل ما، أو إيكال أمره إلى أرباب عمل ما ليعمل عندهم، ذلك الأمر يترك الطفل عرضة للاستغلال والانتهاك بمختلف الأشكال والصور، فينشأ الطفل في بيئة غير مناسبة له عمرياً واجتماعياً، وقد يقع فريسة سهلة للاستغلال أو الانحراف.
لا بد من تضافر الجهود
ويختتم شهاب بالقول: لا بد من تضافر الجهود لمواجهة هذه الظاهرة، فمهما صور البعض عمالة الأطفال بأنها مصنع للرجولة فإن النظرة هنا تبقى قاصرة، والمفهوم مغلوط.. فالأطفال من حقهم أن يعيشوا طفولتهم، وأن يحصلوا على التعليم، مهما كانت الظروف، والعمل شرف وواجب للكبير سواء كان رجلاً أو امرأة، أما الطفل فإن دفعه للعمل يكون بمثابة جريمة ترتكب في حق الطفولة وفي حق المجتمع.
غياب دور المنظمات
في ظل الوضع الراهن، وما تشهده الطفولة من انتهاكات ليست العمالة سوى صورة من صورها، لوحظ غياب شبه تام لدور المنظمات المحلية والدولية المعنية بالطفولة، وكأن الأمر لا يعني تلك المنظمات من قريب أو بعيد، فيما انشغلت بعض المنظمات المحلية بأدوار الإغاثة كأولوية في أوضاع الحروب، وهو ما يعني أنه لن يكون ثمة التفات لقضايا الطفولة، وكانت منظمة اليونيسف أعلنت في وقت سابق أن طفلاً يمنياَ يموت كلّ عشر دقائق بسبب سوء التغذية والأمراض.
فيما التقارير الدولية تحدّثت عن مقتل مئات الأطفال اليمنيين وإصابة الآلاف منهم منذ انطلاق العدوان على بلادنا قبل عام وتسعة أشهر.
وقال بيان صدر عن مكتب المنظمة الدولية التابعة للأمم المتحدة يونيسيف في صنعاء: “يعاني حوالي 2.2 مليون طفل يمني من سوء التغذية الحاد ويحتاجون إلى العناية العاجلة، فحوالي 462000 طفل منهم يعاني من سوء التغذية الحاد الوخيم، وهي زيادة كبيرة تصل إلى 200%، مقارنة بعام 2014. كما يعاني 1.7 مليون طفل يمني من سوء التغذية الحاد المتوسط”.
وأضاف البيان الدولي “إن أعلى معدلات سوء التغذية الحاد تظهر بين أطفال محافظات الحديدة وصعدة وتعز وحجة ولحج، حيث تشكّل هذه المحافظات الخمس أكبر عدد من حالات سوء التغذية الحاد الوخيم في اليمن.
مستويات مخيفة
ما يعكس حجم المأساة التي تشهدها الطفولة هو عدم وجود إحصائية دقيقة بالنسبة لظاهرة عمالة الأطفال، إذ أنه منذ بداية العدوان لم تتبن جهة أو منظمة أي جهود فيما يخص هذه الظاهرة.
ووفق أحدث إحصائيّات وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، فإن ظاهرة عمالة الأطفال تزايدت، إلى مستويات مخيفة. وأشارت الوزارة إلى أن عمالة الأطفال ارتفعت من مليون و614 ألف طفل عامل في العام 2010، إلى أكثر من 3 ملايين طفل في العام المنصرم 2016.
ويعزو خبراء تفشّي الظاهرة على هذا النحو إلى تدمير المدارس، وزيادة أعداد النازحين جرّاء العدوان على اليمن، منذ مطلع العام 2015، وحتّى اليوم.