الهوية وتمايز اللغات

التفكير عبر اللغات”.. عنوان الكتاب الذي قدمه الفيلسوف الألماني والباحث في فقه اللغات هنز ويسمان. وهو يشير في كلماته الأولى إلى أن هذا العمل جاء كإجابة عن سؤال كرره عليه طلبته، حول مساره المهني والمعرفي، على خلفية استغرابهم، إلى هذه الدرجة أو تلك، حيال تعدد اهتماماته وتنوّع المشارب الفكرية والفلسفية التي نهل منها. وبعد أن تردد المؤلف.
كما يوضح، بين طرق عدة ممكنة للإجابة وتقديم المحطات الأساسية في مسيرة معرفته، قرر أن يفعل ذلك من خلال آلية “التفكير عبر اللغات”، وهو ما شكّل عنوان هذا الكتاب، وأيضاً من خلال المجال الذي تحدثه هذه اللغات فيما بينها والمشكلات التي تبرز من اختلافاتها، وأحياناً من أشكال التقارب بينها، الظاهرية أو الحقيقية.
يشرح هنز ويسمان في الكتاب، أن الأوضاع التي يوصفها فيما يخص التفكير عبر اللغات، تتعلّق بالصعوبات الكبرى التي ربما تواجه، عند الإبحار بين لغتين أو أكثر. وفي حالته يتحدث تحديداً، عن مثل هذا الإبحار بين اللغتين الفرنسية والألمانية، بالإضافة إلى لغة ثالثة لم يعد يتحدث بها أحد، هي اللغة اليونانية القديمة.
ويشير المؤلف إلى أنه أمضى حياته متجولاً بين الألمانية، لغته الأم، والفرنسية، لغته بالتبني. وكذا اليونانية، لغة الفلاسفة الذين تلقّى منابع المعرفة من أفكارهم. وبهذا المعنى يشكل الكتاب نوعاً من السيرة الذاتية الفكرية لصاحبه، وتأمّلاته حول ما يسميه خصوبة الأسفار الفريدة، التي تقود من جملة إلى أخرى.
ويرى المؤلف أن الانتقال من أية لغة إلى أخرى هو بأحد المعاني العميقة، انتقال ذهني وثقافي وسياسي، ذلك على غرار الانتقال من العالم اليوناني إلى العالم الروماني، الذي كان أيضاً بمثابة انتقال من هوميروس إلى فرجيل، ومن ديموستين إلى شيشرون، ومن أثينا، والمدن اليونانية الأخرى، إلى الإمبراطورية الرومانية.
وفي النهج نفسه، من التحليل، ينظر إلى الانتقال من لغة إلى أخرى كمغامرة لا يعرف صاحبها ما ينتظره من فرح أو معاناة. وعند الوصول إلى الضفة الأخرى، اللغة الأخرى، ومهما كان ذلك الوصول متواضعاً، فهو نوع من اكتشاف بلاد جديدة وعالم جديد.
وفي مثل هذا السياق، تغدو الترجمة اكتشافاً أيضاً، وربما إعادة اكتشاف، لنصوص حديثة أو قديمة. ويبين ويسمان، بالمقابل، أنه إذا كانت الأفكار لا تتبدّل فإن القاموس غير ذلك. وبذا فليس صدفة أن ترى إنيادة هوميروس ترجمة جديدة تضاف إلى الترجمات العديدة السابقة. وفي كل الحالات تغدو الأعمال المترجمة لكل لغة، رافداً لأدبها وثقافتها وفكرها.
كما تتداخل اللغة كثيراً مع مفهوم الهوية، والتي يرى المؤلف، أنها نتاج أشكال عديدة من التداخل بين الأنا والآخرين. وتلعب اللغات في هذا المجال دوراً جوهرياً من خلال التفكير عبرها. ونقل كل ما هو مشترك باعتباره يشكّل العامل الأكثر إنتاجاً في التاريخ الإنساني. ويؤكد المؤلف أن التباين بين اللغات لا يشكّل عائقاً للتواصل، بل على العكس، هو حافز للفكر وللتفكير، كما أنه يفتح آفاقاً جديدة لم تكن معروفة وتمثّل معرفة اللغات مدخلاً إليها.
يعتني مؤلف الكتاب بقراءة ماهية التمايز الأساسي بين اللغات، وليس بين المفردات. وبناءً على اختلاف “المسارات” في البناء اللغوي، تتطلّب عملية الانتقال، “الإبحار” كما يميل المؤلف للقول، من لغة إلى أخرى أن يضع من يقوم بالترجمة نفسه بين “مجالين” لغويين مختلفين، لا يمكنه أن يتواجد في كليهما بالوقت نفسه. بالمقابل يساعد وجود مجالين، عالمين، لغويين على الاكتشاف والاختراع.
يرفض ويسمان أي توقّع مبكر للمعنى الذي يحمله أي نص. ويؤكد في جميع الحالات ضرورة ترجمة أية جملة بالمعنى الذي يتناظر مع سياق استخدامها من قبل كاتبها. ويقدم المؤلف أمثلة عديدة في هذا الإطار، على التفكير عبر اللغات، بمعنى التمايز بينها، وإلى حد المجابهة بينها. والأمثلة التي يسوقها المؤلف مأخوذة عموماً، عبر المقارنة بين مدلول بعض الجمل في اللغتين الألمانية والفرنسية.

قد يعجبك ايضا