*عجينة اللحام الديموجرافي التي يجري تحويلها إلى صدأ الحلقة الأولى
*استهداف الدول العربية بدأ بمصر .. واستهداف المحافظات اليمنية بدأ بتعز
*سيناء المصرية وتعز اليمنية ومخططات حرب الممرات المائية
عباس السيد
aassayed@gmail.com
لا يتساءل اليمنيون عن غياب الأدوار الوطنية لعدد من المحافظات التي يتخذ منها الغزاة قواعد لتنفيذ مخططاتهم في اليمن . لكن غياب تعز ، وانحدار مواقف بعض نخبها ، وتماهيها مع مواقف تحالف العدوان على اليمن ، أثار ولا يزال تساؤلات عدة وجدلا واسعا في الشارع اليمني . لكنه للأسف ، ظل جدلا سطحيا ، ولم يلامس الأسباب الحقيقية لهذا التغيير وحجمه الحقيقي ، ودور الداخل والخارج في هذا التغيير ، وتداعيات كل ذلك على اليمن بشكل عام ، وعلى محافظة تعز وأبنائها بشكل خاص .
نموذج محافظة تعز في اليمن ، يشبه نموذج مصر في الوطن العربي ، إذ لم يكثرث الشارع العربي لغياب العديد من الدول العربية التي تحول بعضها إلى قواعد إنطلاق للقوى الاستعمارية الغربية ، لكن غياب مصر وحدها وغياب دورها التاريخي في المنطقة العربية ، هو ما يثير التساؤل والاهتمام في الشارع العربي .
لقد ساهمت الأنظمة العربية في تغييب الدور القومي المصري ، وكان لهذا التفريط نتائج وخيمة على بقية الدول العربية حاضرا ومستقبلا ، وعلى مصر أيضا ، ونخشى أن يرتكب اليمنيون نفس الخطأ في سياستهم تجاه تعز وأبنائها ، لأن عواقب ذلك ستكون كارثية على اليمن بأكمله .
لم يكن أعداء الأمة العربية قادرين على تنفيذ مخططاتهم في المنطقة العربية مالم يبدأوها باستهداف مصر.. مصر التي قادت الأمة العربية في معركتها ضد الاستعمار والاحتلال خلال عقود . نجحت قوى الاستعمار والهيمنة الغربية في عزل مصر وشل دورها القومي في المنطقة العربية . بعدها ، بدأت الخطوات التالية في استهداف بقية الدول ، حتى وصل الحال إلى ما نحن عليه الآن .
ولأن تفكيك اليمن هو جزء من المخطط الدولي في المنطقة العربية ، كان لابد أولا من استهداف تعز ، بتغيير دورها التاريخي الوطني ، أو على الأقل ، تحييدها في المعركة التي يديرها الخارج في اليمن . ومن المؤسف أن يدرك الخارج أهمية تعز في المعادلة اليمنية ، أكثر من السياسيين اليمنيين .
عجينة اللحام الديموجرافي
خلال القرن الماضي ، وفي المحطات والمراحل التي كانت فيها بعض المحافظات اليمنية تعيش عزلة ، وأخرى تُدفع لتكوين دويلاتها المستقلة ، كان أبناء تعز يتدفقون نحو المحافظات اليمنية كما ينساب مصهور الحديد بين القطع المعدنية المفككة .
بدأت هجرتهم نحو الجنوب أوائل القرن العشرين ، وكانت ثورة 1962م موعدا لهجرتهم إلى محافظات الشمال .
وعلى مدى عقود ، كانوا بمثابة عجينة من اللحام الديموجرافي التي سدت الشروخ والفجوات ، وألغت الحدود المصطنعة التي رسمها الاستعمار البريطاني والتركي ، والأنظمة السياسية في الشطرين .
لقد جسدوا بهجراتهم إلى المحافظات وحدة اليمن أرضا وإنسانا ، وكسروا الحواجز والهواجس الشطرية لدى بعض السياسيين والقوى التقليدية ، وخلقوا الألفة بين الأخوة الغرباء في عهود الانعزال وسنوات الشك والإرتياب . وكان لهم الفضل في ربط النسيج الاجتماعي بين محافظات الشمال والجنوب ، بين اليمن الأعلى والأسفل ، بين الشوافع والزيود .
حاليا ، يعيش في محافظة تعز، نحو ثلاثة ملايين نسمة ، فيما يعيش عدد مماثل ـ على الأقل ـ من أبناء المحافظة ، في المحافظات اليمنية الأخرى ، معظمهم يستوطنون المدن الرئيسية ـ صنعاء ، عدن ، الحديدة ـ .
ما يجري الآن في تعز ، أشبه بعملية ” أكسدة ” لتحويل مصهور الحديد أو اللحام إلى صدأ ، كي يسهل تفكيك الآلة الكبيرة إلى قطع صغيرة منفصلة . و بالتزامن مع عمليات العدوان والغزو الخارجي لليمن ، بدأت عمليات التهجير ـ من وإلى تعز ـ التي بدأت في 2015م على خلفيات مناطقية وعرقية وطائفية ، كجزء من عملية ” الأكسدة ” لتحويل اللحام إلى صدأ .
مخطط إستهداف تعز بدأ قبل إنطلاق العدوان بسنوات ، وأتخذ أشكالا وأدوات عدة . وحينما حرك الخارج طائراته وبارجاته ودباباته ، في مارس 2015م، كانت الساحة في تعز مهيئة للغزاة . أو على الأقل مأمونة المخاطر .
وقد وجدت القوى الخارجية في الأخطاء التي ارتكبتها الأنظمة اليمنية المتعاقبة أساسا لبناء مخططها في استهداف تعز ، وسحق الوعي الوطني الوحدوي المتجذر في هذه المحافظة . وهو وعي بدأ بالسعي والهجرات لكسب الرزق ، وتطور إلى مبادئ وأيدلوجيات سياسية ، وثقافة وطنية ، اضطلعت النخب السياسية والثقافية التعزية بدور ريادي في تسويقها ـ سرا وعلنا ـ وترسيخها في جنوب اليمن وشماله .
بين تعز اليمنية وسيناء المصرية
لسنا هنا بصدد مناقشة الدور المصري في المنطقة العربية وما آل إليه خلال العقود الأربعة الأخيرة ، فقد كتب وقيل الكثير عن ذلك . ولكنني وجدت فيه نموذجا يكاد يتطابق مع الأدوار النضالية الريادية التي لعبتها محافظة تعز في تأريخ اليمن شمالا وجنوبا ، ثم انحدار هذه الأدوار مؤخرا ، رغم المحنة الكبيرة التي تعصف باليمن حتى الأن .
تعز ، المحافظة اليمنية الأكبرمن حيث عدد السكان ، والجسر الذي يربط شمال اليمن بجنوبه ـ كما تربط مصر شرق العرب بمغربهم ـ ينعقد الطرف الجنوبي للبحر الأحمر في باب المندب جنوب تعز ، كما ينعقد طرفاه الشماليان حول سيناء المصرية . وهنا ، يمكن القول أن تعز وسيناء تدخلان في إطار المخططات الدولية والحرب الباردة حول الممرات المائية .
ولذلك ، تعمل السعودية وحلفاؤها على تجاوز هاتين العقدتين وامتلاك مفاتيحهم الخاصة . وفي هذا سياق هذا المخطط ، أنتقلت إليها السيادة على جزر تيران وصنافير في مدخل خليج العقبة . وقبل ذلك ، تمكنت السعودية بمشاركة حليفها المصري ـ الذي يعمل تحت قيادتها في تحالف الحرب على اليمن ـ من إحتلال جزيرة ميون اليمنية في باب المندب ، في الأشهر الأولى للعدوان .
ولتعزيز نفوذها ونفوذ حلفائها في هاتين البوابتين ، أعلنت السعودية عزمها بناء جسر يمر فوق ” تيران وصنافير ” يربط السعودية بسيناء المصرية ، وقبل ذلك ، كشف مسؤولون سعوديون عن مخطط لبناء جسر فوق جزيرة ميون اليمنية لربط تعز بجيبوتي ، وهو مشروع مرهون بعملية التطبيع العربي مع إسرائيل ـ كما قال المسؤول السعودي أنور عشقي .
وهنا ، لا يمكن فصل أوضاع الفوضى وعدم الإستقرار التي تعيشها شبه جزيرة سيناء المصرية ، ومحافظة تعز اليمنية ، عن مخطط تدويل الممرات المائية العربية وإضعاف الدول المطلة عليها وتفكيكها ، وصولا إلى خلق دويلات ضعيفة هشة على هذه الممرات ، تكون مشابهة للنموذج الجيبوتي .
تعز في المعادلة اليمنية
بلغة الهندسة : تعز هي الزاوية التي تشكلت من تلاقي ضلعي اليمن ، الشمالي والجنوبي ، في باب المندب . وعند النقطة التي يتلاقى فيها ضلعا اليمن ، يلتقي البحران ، الأحمر والعربي، وهناك ، تتلاقى أطماع الخارج وتحاك مخططاته منذ امبراطوريات فارس وبيزنطة. وعلى اليمنيين أن يكونوا أكثر حذرا وحكمة في سياساتهم عند تلك النقطة .
ومن المؤسف أن يجري حاليا إختزال تعز بجغرافيتها وملايينها وأدوارها التاريخية ، بمواقف عشرات من السياسيين ، ومئات من الناشطين والمفسبكين ، وبضعة آلاف من الشباب الذين التحقوا ـ لأسباب متعددة ـ بالفصائل والمجموعات الموالية للتحالف الخارجي.
الحملة ضد تعز وأبنائها في وسائل الإعلام الوطنية اليمنية ومواقع التواصل الإجتماعي على خلفية مواقف تلك المجموعات ، بالإضافة إلى التكتيكات الخاطئة التي يعتمدها الجيش واللجان الشعبية في تعز ، هي ردود أفعال غير مدروسة ، لا تخدم الأهداف الوطنية الجامعة ، وعواقبها وخيمة ، ليس على تعز وأبنائها فحسب ، بل على اليمن واليمنيين كافة .
الأخطاء تتراكم
منذ حكم الأئمة ، وحتى الآن ، ارتكبت السلطات المتعاقبة أخطاء فادحة بحق اليمن واليمنيين في كافة المحافظات . ليس هنا متسع للوقوف على كل الأخطاء ، وسنكتفي فقط بتقديم تعز ودور نخبها السياسية ، وأحلام أبنائها في الوحدة والعدل والمساواة والحرية ، التي تبخرت بسبب السياسات الخاطئة ، وحمى الصراعات على كرسي السلطة .
كما أنني لست هنا بصدد التذكير بأوجاع الماضي وإخفاقاته ، وليس الهدف إدانة أشخاص وجماعات ، لكن اجترار نفس الأخطاء في هذه المرحلة الحرجة يهدد بكوارث وخيمة على الجميع . علينا الإبتعاد عن التعميم في إطلاق التهم والأوصاف ، فأبناء تعز لا يختلفون عن غيرهم من أبناء المحافظات الأخرى ، مثلما لا يختلف المصريون عن بقية العرب .
المظاهر المدنية التي ميزت تعز ومكنت أبنائها لأن يلعبوا أدوارا ريادية في السياسة والإقتصاد والثقافة ، لا تُعبر عن وجود فوارق فردية فسيولوجية أو سيكلوجية تميز أبناء تعزعن بقية اليمنيين ، لكنها تعود لأسباب تضافرت فيها الجغرافيا والتاريخ والسياسية والإقتصاد وعوامل أخرى ، من بينها : موقع المحافظة بين شطرين كانا على النقيض سياسيا طوال قرابة قرنين ـ الأتراك في الشمال والبريطانيون في الجنوب ، الإئمة في الشمال والسلاطين في الجنوب ، ثم شمال ” رأسمالي ” وجنوب إشتراكي ، قبل أن يتوحد الشطرين عام 1990م
ولأن أرض المحافظة ليست خصبة كجارتها محافظة إب ، هاجر مئات الآلاف من أبنائها إلى محافظات الشمال والجنوب ، بحثا عن الرزق ، فكانوا كما وصفهم البروفيسور أبوبكر السقاف ” ملح الأرض اليمنية ” . وبحسب إحصاء لسلطات الإحتلال البريطاني ، كان عدد الشماليين ـ ومعظمهم من أبناء تعز ـ هو الأكبر بين سكان مدينة عدن في الخمسينات من القرن الماضي ” 48 ألفا من مجموع 135 ألف نسمة ” .
تعز كما وصفها البردوني
في كتابه ” اليمن الجمهوري”، يقول الأديب الشاعر عبدالله البردوني : ” كان إتخاذ تعز عاصمة للحكم في آخر الأربعينات من عوامل اللقاءات الأوسع بين مختلف المناطق ، فتواصل اللقاء المحدود بين المجتمع الزراعي والمجتمع التجاري ، وكانت تعز شديدة الإختلاف عن صنعاء بنزوعها التجاري ، وكثرة خيوط إتصالها بعدن المحتلة يومذاك وبسائر الأقطار المنتجة للبضائع أو مصدرتها .
لهذا كانت تعز أصح من غيرها مناخا لتتبع كل جديد الأخبار وجديد المعامل ، وبحكم طلب المنافع ، توافدت إليها الجموع من القواعد المحافظة : كصعدة وشهارة وحجة والقفلة وحوث ، وكان الوافدون إلى تعز أكثر ميولا إلى ما في تعز من حداثة مهما كان نوعها ، لأن الأكثر قروية أعنف استجابة لمغريات المدينة التجارية لغرابتها في منظوره ولكونها تخلق المفاهيم وتزيد من مدارك الفهم ، وكان الخروج عن التقاليد بأي طريقة يلتحق بالتحرر ويدل على المعاصرة عن أصالة أو محاكاة ، حتى إعتياد التدخين وتعاطي المسكرات “.
ويضيف البردوني : ” كانت أسواق تعز أقدر على جلب كل شيء، فعمرت المجالس مختلف الجماعات ، وكانت أخبار السياسة رابعة القات والكؤوس والغانية في بعض المجالس . ، كما كانت أفكار السياسة ثالثة الأكل والشرب في مجالس أخرى .
ونتيجة لهذا الإهتمام توافدت الكتب والمجلات والصحف على تعز من عدن ومن عواصم الثقافة مباشرة ، ثم منها إلى سواها ، كما انتشر المذياع عن طريق التهريب النشيط حتى وصل أقصى القرى بدون استئذان ولا ترخيص ، واكب هذا افتتاح المكتبات فأصبحت تعز كعدن في استقبال حصاد المطابع اللبنانية والمصرية والسورية ، فإذا بالكتاب يصل إلى تعز بعد نشره بأسابيع أو بعد ترجمته بشهور ” .
إلى المؤتمر الشعبي وأنصارالله :
للمؤتمر الشعبي الذي يرأسه صالح ، مئات الآلاف من المحازبين والأنصار من أبناء تعز ، ومنهم ” عبدالكريم ” الذي يعمل ويقيم في العاصمة منذ سنوات . و بسبب مواقفه المناهضة للعدوان والمؤيدة لمواقف السيد والزعيم ، لا يستطيع “عبدالكريم ” زيارة أهله في أحدى مديريات تعز التي تسيطر عليها عناصر ما تسمى ” المقاومة ” . يدرك عبد الكريم مخطط الخارج الذي يسعى بمساعدة جماعات محلية إلى تفكيك النسيج الإجتماعي و الجغرافيا اليمنية . لكنه يشعر بالقلق لغياب استراتيجية واضحة للقوى الوطنية الفاعلة في الداخل لمواجهة مخطط العدوان ، وتزداد مخاوف ” عبدالكريم ” كلما تكررت التكتيكات الخاطئة للجيش واللجان بتعز.
لم يقرر أهل تعز أن تكون محافظتهم أحد معاقل ما يعرف بـ ” المقاومة ” الموالية لتحالف العدوان ـ على الرغم من تشدق بعض الأدوات والدمى والأصنام التي صنعها التحالف في تعز ـ .
إختيار تعز كبؤرة للصراع قرار اتخذه التحالف ، وهيأ له كل الظروف المناسبة ، مثلما اختار الجوف ومارب والبيضاء والمحافظات الجنوبية . ومن الخطأ أن يعمل البعض على تصنيف المحافظات اليمنية إلى : محافظات مع العدوان وأخرى ضد العدوان ، وأن تكون ردة فعل القوى الوطنية تجاه تلك المحافظات بنأء على هذه التصنيف .
لا يمكن فهم ما يجري في تعز دون ربطه بالماضي ، كما لا يمكن للقوى الوطنية الفاعلة أن تتخذ السياسيات والقرارات المناسبة للتعامل مع الأزمة في تعز ما لم تعي هذه القوى أن هذه المحافظة بمثابة حجر الزاوية في البيت اليمني الكبير .
لقد وعد رئيس الجمهورية الأسبق ، رئيس المؤتمر الشعبي العام ، على عبدالله صالح ، في كلمة له أواخر يوليو الماضي بالعمل على إعادة الإستقرار إلى تعز . نتمنى أن يكون هذا الوعد مؤشرا لرغبة صالح في طي صفحات عقود من ” العلاقات المضطربة ” مع تعز ، و بدء صفحة جديدة تعزز مكانته في قلوب أنصاره من أبناء المحافظة ، بعيدا عن التكيتكات المرحلية والثأرات السياسية . وعلى الإخوة في أنصار الله ، أن يكونوا في تعز شركاء وطنيين ، لا كومبارس ، أو مجرد شماعة أو شهود زور .