أشقاهم من سيرث قلمي
عباس الديلمي
عندما زار والدي رحمه الله العاصمة المصرية القاهرة وأنا تلميذ في المرحلة الثانوية، كنت فرحاً بأن عودته ستجلب لي هدية من الملابس التي أتباهى بها أمام زملائي وزميلاتي، إلا أن فرحتي بعودته بالهدايا قد أخذت مسلكاً آخر حيث كانت هديته مجموعة من الكتب التي رأى أنها ستعجبني ومنها ديوان شعر لأمير شعراء عصر أحمد شوقي غير ديوانه المعروف بـ ” الشوقيات” الموجود في مكتبة والدي والذي كان يختار لي منه في طفولتي أبياتاً لأحفظها، كان هذا الديوان الهدية بعنوان “الشوقيات المجهول” أي غير المعروفة للناس لعدم نشرها في ديوانه الذي طبع في عصره.
تصفحت الديوان الهدية ولم أجد فيه أمير الشعراء الذي وقفت أمامه مبهوراً في ديوانه ” الشوقيات” وقلت لنفسي لعل أمير الشعراء ترك قصائد هذا الديوان ولم يضمنها ديوانه المعروف، لأنه لم يكن راضياً عنها كما هو حال كثير من الشعراء.
تركت ديوان الشوقيات المجهول نائماً في مكتبتي حتى كدت أنساه وقبل أيام أخذته لاتأمله، فوضعني أمام ما كنت أجهله، أو ما كنت أعتقده قبل الخلود إلى النوم وبعد ليلة كئيبة بالمحللين ونشرات أخبار، تناولت المجلد الأول من كتاب ” الضحك .. تاريخ وفن” للكاتب السوري نصرالدين البحرة ومما مررت عليه بين صفحاته هذه الحكاية ” تكلم رجل في مجلس عبدالله بن عباس فأكثر الخطأ – وكان بن عباس يضايق من تلك الأخطاء – وعندما ضاق به الحال، التفت إلى عبدالله وقال له: أذهب فأنت حرً لوجه الله فما كان من ذلكم الغبي إلا أن قال لعبد الله بن عباس: هل أعتقته شكراً لله؟ ولماذا؟! أجابه بن عباس نعم أعتقته حمداً وشكراً لله، لأنه لم يجعلني مثلك.
هنا توقفت وقلت لنفسي وجدتها، إن للفضول والغباء فائدة عامة، وهي شكر الله لأنه لم يجعلنا مثل المصابين به .. ثم تساءلت قائلاً:ترى لو كان في زمن الجواري والعبيد، كم عبد سيعتقه مالكه شكراً لله الذي جنبه ما يفعله ذلك المغفل أو ما يتلفض به، وكم جارية ستُعتق خاصة في المساء ونحن نستمع إلى نشرات وقرارات ومحللين ينطبق عليهم القول ” لعن الله المحلل والمحلل له”.
أليس لكل شيء فوائده ومضاره حتى الفضول والحماقة والغباء؟
هذا ما أراه لأنه أنجب ولدا وارتكب جناية ليست بالأولى في حياته إذ يقول
“صار شوقي أبا علي في الزمان (الترللي)
وجناها جنايه ليس فيها بأول ”
لم يكتف شوقي بهذا فلم يلبث بعد حين أن يعاتب ابنه على المجي إلى هذه الدنيا .. ليس لأنه ضاق بمقدمه بل لأنه جاء في الزمن والوقت الذي لا يسر وخاطبه بقصيده منها :
(وما ضقنا بمقدمك المفدى : ولكن جئت في الزمن الأخير)
وعندما بلغ علي أحمد شوقي سن الثانية خاطبه والده بقصيدة نصح بألا يحذو حذو أباه والذي لم يجن من شعره ومن الدنيا سوى التذكر حتى لحيائه وعفافه ومروءته قال فيها:
“لا تقل كان أبي , إياك أن تحذو حذوه
أنا لم أغم من الناس …سوى فنجان قهوة
أنا لم أجز عن المدح من الأملاك فروه..
أنا لم أجز على الكتب من القراء خطوة
ضيع الكل عفافي وحيائي والمروءة “.
هكذا قال أحمد شوقي , فتذكرت عندما سؤلت ذات يوم عن أولادي فقلت أشقاهم من سيرث قلمي كان الله في عونه.