رواية (بابنوس).. إدانة لحرب تجتاح الإنسان

الغربي عمران
الروائية سميحة خريس في روية قبح الإنسانية ..عمل مختلف قدمته في “بابنوس” عن أعمالها السابقة.
قرأنا لها أعمالا مشغولة بالمكان ببيئة تعرفها.. وأعمالا أسطرت فيها التاريخ.. وكلها في جغرافية شرق الأردن. في بابنوس نجد الكاتبة تبتعد عن شرق الأردن لتحكي لنا عن إنسان شرق السودان.. وهذا العمل يذكرنا برواية البريطاني……. وروايته “صيد السلمون في اليمن” وكذلك برواية “ساق البامبو” للكويتي سعود السنعوسي .. وصنع الله ابراهيم في “وردة” والأردني في “” وغيرهم ممن يحلقون بخيالاتهم ليسنجوا أعمالا عن انسان ومكان لم يعيشوا فيه أو أنهم زاروه لأيام.
مثل تلك الأعمال يحدى الكاتب نفسه .. أن يتخيل ويستحضر بخياله تفاصيل وتفاصيل حول شخصياته وحول المكان والأحداث. وفي تصوري أن هذه الكتابة من أصعب الكتابات إذ يحتاج الكاتب إلى أن يشحذ خيالة في كل وقت ليحلق في أفاق من الفنتازيا .. كما يحتاج إلى الجلوس كثيرا إلى إنسان ذلك المكان ليستمد منهم الكثير.. وكثيرا كثيرا من القراءات حول أحداث بعينها وشخصيات محددة كان لها دور في صناعة تلك الأحداث.
وأعتذر من نفسي حين تأخرت في قراءة بابنوس بعد أن أهدتني الكاتبة نسخة أثناء مشاركتنا في ملتقى الرواية في القاهرة 2015م .. ونتيجة للظروف في اليمن .. وقلة تواصل العالم باليمن فقد توقف وصول المجلات والكتب. ولذلك هنا من ينتظر ما أحمله من كتب من أعضاء نادي القصة في صنعاء .. فقد تنقلت الرواية ضمن روايات أخرى بين أيدي الأصدقاء ممن يعشقون الأدب حتى جاء دوري أشهر كثيرة.
بابنوس رواية تنحاز للإنسان.. فلم يغري الكاتبة الميل للون أو دين أو عرق.. فقط هي رواية الحرب وبشاعة أثرها على الإنسان ..
رواية الشخصية المحورية لها التطرف في العنف. وإن كانت “رسالة” أو الحكامة أبرز شخصياتها.. فأقول: صحيح أنها رواية ذلك الكائن المختلف.. لكنه العنف تجاوز كل الشخصيات .. وأيضا هي رواية المكان “الخربقة” ذلك التجمع المنسي الذي صنعته الحكامة والشبيه بحلة ” الحلة” في رواية “الجنقو مسامير الأرض” للسوداني عبدالعزيز بركة ساكن.. الذي صنع مجتمعا منسيا في أطراف السودان بالقرب من الحدود الأثيوبية .. وخريس صنعت مجتمعا مماثلا .. نائيا لا تتذكره السلطة تآلف فيه المشردون وتحول إلى واحة للتكافل والتعايش الإنساني من كل الأعراق.. بعيد عن المدن والقرى يعتمد على الشحيح من الزراعة والرعي.. عاش مجتمعه في سلام وتعاون فلم يكن هناك حاجة لسلطة .. وكان لهم عمدة إلا أنه عمدة صوري لا يتواصل مع أي كان.
الروائية اعتمدت في سرد أحداث روايتها على تعدد الأصوات.. وقد وزعت صفحات الرواية ألـ “275” صفحة على “9” فصول منها سبعة تحكيها شخصيات الرواية متخذة من أسمائها عناوين لها: رسالة.. بابنوس.. آدمو.. ست النفر.. حوا.. السر.. باسالم.. وفصلين ينتقل سرد الرواية من الراوي المشارك إلى الراوي العليم في “قوس الحياة” و “عاج وابنوس”. ما أعطى سلاسة الحكي بتنوع الأصوات من راو إلى آخر. كما جعلت القارئ يقترب من ذلك المجتمع المختلف في علاقاته وتكوينه وثقافته عما يألفه. فهذه امرأة “الحكامة” تديره دون أن تستند إلى جاه أو قبيلة أو سلطة دينية .. وبفضلها تحولت الخربقة إلى واحة سلام وأمان لمن يلجأ إليها. “في شبابي وصل “ديقو” صياد النمور إلى الديرة.. يحمل على ناقته بنتا مغبرة نحيلة ببطن بارز.. ظن كثيرون أنها خرساء قال صائد النمور الغريب أن لها اسما غريبا واسما هينا يمكننا مناداتها به”تركية” قدرت السبب وراء اسمها.. فقد كانت البنت بيضاء كأنها من الخواجات الذين نراهم يرافقون الصيادين وتجار الأبنوس والعاج…”.
تلك الكلمات على لسان الحكامة .. لتلد تركية أو “لوسيا” ببنت خلاسية أسمتها الحكامة”ست النفر” التي أضحت عرابتهن .. وما أن شبت ست النفر حتى تزوجت من بقار “ماديو” زعيم عابر بأبقاره من ناحية إلى أخرى.. باحثا عن مراعي لأبقاره .. لتلد ست النفر بنتا نيلية سميت “بابنوس” .
ويحمل ماديو البقار في زيارة لاحقة لزوجته ست النفر فتاة “حوا” وهي الأخرى كانت حامل.. لتتكفلها الحكامة بالرعاية ضمن من سبقنها ..لتلد حوا ذكرا “آدمو” ذا بشرة تماثل لون بشرة أمه وعينين خضراوتين ما أبعد الشكوك عن البقار ماديوزوج ست النفر.
ونجد زينب العمياء تنضم إلى من ترعاهم الحكامة. ولم يكن اليماني “باسالم” الذي قاده أحد السودانيين إلى خربقة بينما كان قاصدا “الفاشر” أو “نيالا”. بغرض فتح دكان صغير.. لكنه يقع في هوى الحكامة رغم فارق سنها لكنها تحافظ على المسافة مع بعض الود لباسالم.. بعد أن نذرت نفسها لخدمة الناس.. ورفضت كل من طلب يدها للزواج.
الحكامة لها حكايتها فقد أختطف الموت أخواتها صغارا.. ثم توفى الدها الفكيه بعد أن اختطت الخربقة. لتحافظ على حبل الود مع الجميع دون استثناء.. ترعى كل فرد بدرجة واحدة وإن كانت زينب الضريرة وست النفر وابنتها أبانوس وحواء وابنها آدمو أقرب الناس بعد أن أضحوا ربايبها.
وهكذا نجد أن لكل نفر حكاياته المليئة بالترحال والجوع والتشرد: تاجوج فتاة تتيقن بأنها فاتنة بعد أن هام بها “السر” ذلك الشاعر الذي فقد عقله وهام بعد أن رفضت حبه لفقره وتزوجت من بخيت تاجر المواشي. الصوفي زين.. الشفيع العائد من الأراضي المقدسة وقد أضحى ثرياً نسبة إلى فقر سكان الخربقة. شيخ الخلوة اسماعيل .. المعلمة فاطمة ابنة المعلم النور.. أبكر ابن اليماني باسالم وأمه ثومة وإخوته بلقيس واروى وسيف وسلمى.. شديد كادوك …. وأسماء تتجاوز الأربعين اسما تعج بها الرواية. وبعددها تتداخل الحكايات لترسم لنا لوحة إنسانية من المحبة والتسامح والسلام.
وهذا ما يدعونا إلى ادراك مقدرة الكاتبة في جمع تلك الشخصيات على صفحات أحداث الرواية.. وإدارتها دون نسيان أي شخصية.. ودون الخلط بين أدوارها . ويضاف إلى ذلك براعة الكاتبة في تقديم شخصياتها بشكل مقنع ..فمن خلال اشراك سرد تلك الشخصيات لأحداث الرواية نجد حكي كل شخصية يختلف عن بقية الشخصيات.. فالحكامة وهي تسرد ترحالها ووالدها الراحل من جبل مرة حيث بلدة الفاشر.. يهيمون بحثا عن موطن آمن.. حتى مدينة “نيالا” لتقترح أن يخطوا عشتهم في ذلك الخلى القفر على مبعدة من مدينة نيالا .. ليتحول ذلك المكان بعد عدة سنوات إلى قرية سمتها خربقة. تتحدث الحكامة عن أيام طفولتها وصباها وفقدانها لأفراد أسرتها وتحولها إلى كائن مختلف عمن حولها “لا التباس في كوني امرأة .. ولست في عداد الإناث.. فأنا حكامة .. والحكامة عادة مخلوق مغاير.. فوق البشري.. أعلى من المرأة قليلا.. تصطف قريبا من موقع الذكورة ولكنها تتجاوزه.. وهي ليست ملاكا.. ولا خنثى ..تجمع في كفيها فراشات ملونة وتفيض على محيطها أمومة لا حدود لها.. تحل الإشكالات العالقة بحسم الرجل وحكمة الأنثى من دون سلطة غاشمة أو ثراء خادع… ” وتستمر في سردها المختلف عمن سواها من حيث الفكر.. والنظرة إلى الوجود.. والعلاقات مع محيطها .. يشعر القارئ بأنها إنسانة مختلفة بالفعل.. كما يتعرف إلى طبيعتها وخصائص شخصيتها الرزينة الحكيمة المتأنية قليلة الحديث غير المتسرعة.
“بابنوس” وحديثها الشيق حول طبائع أمها ست النفر ومن حولها.. بلغة صبيانية مختلفة “يقسم الشين “بخيت” الذي كان صبيا يافعا حينها أن صوت أمي هز القطية.. وعم صراخها القرية كلها.. فقد كانت مختونة ضيقة.. وكان البقار وحشيا.. وضع بذرته ومضى…” من خلال تلك الكلمات يستطيع القارئ التعرف إلى أسلوب بابنوس وهكذا تسرد لينظر القارئ بعينيها إلى بيئة ذلك المكان.. ومن يشاركها في حياة أفراد لا يجمعهم غير المكان. وكذلك آدمو الذي أختلف عنها في سرده رغم تقارب عمريهما.. ونختار هنا عدة جمل من سرد آدمو لحكايته بعد ان نهرته أمه حوا من استمرار تناول ضرع الأتان “ياعفن .. خليك خاط رأسك بالعفانة.. أصلك حمار.
التغيرات الحادة في مزاج أمي تغري صبية الخربقة بي.. كان يستدعي أسم آدمو بوقعة اللدن سخريتهم.. لم يكن يسخرون منه إذا نودي به سواي.. فعلى حين يفخر أولاد كثر بالاسمين الرائجين أدم وأدمو.. يختارون لي تدليله الغريب”آدمو” أن يحمل الاسم رضيع الأتان”ترترة” ولد حوا السليطة.. الولد الوحيد في الخربقة الذي يفتح جفنيه عن حدقتين خضراوتين…يراودونني….”
“ست النفر” امرأة كسيرة.. تحب أن تشارك من حولها دون كلام.. مكتفية بالنظرات.. فنادرا ما تبوح بما يعتمل بداخلها.. شديدة الخوف كثيرة الحذر.. تعاني في صمت “أنا ابنة الصمت والاستعلاء على خفق الفؤاد.. راقبت أمي تركية تعيش وتموت مذعورة .. كرهت الخوف الذي حبس روحها.. كما حبس خطواتي في الطفولة المبكرة وأنا أسيرة حضنها.. ثم عايشت الحكامة وهي تمسك بتلابيب قلبها وتقصيه.. المرة الوحيدة والخاطفة التي لم أنكر فيها قلبي كانت حين التقيت بالرجل -البقار- الذي صار أبا لابنتي” . هكذا يصل القارئ إلى معرفة كل شخصية عن نفسها وما تعيشه وتشعر به.. تحكي عن مشاعرها بلغة مختلفة.
“حوا” – هكذا جاء رسمها- كائن نزق حتى في سردها.. حادة في ردود أفعالها.. صبية تربت في كنيسة ولم تفارقها إلا حامل من القس ايراكس.. ليحملها أمادو إلى خربقة وترعاها الحكامة كربيبة.. وحين تلد لا يدر ضرعها حليبا فيرضع آدمو حليب حماره.. فحوا كثيرة المشاجرة مع من حولها ولا تعرف المجاملة .. ودوما في عراك مع نفسها ومع محيطها. لا تنظر للأمس دوما تحذف ماضيها وتعمل بجد من أجل الغد “أنا بارعة في شطب ما فات من حياتي.. غفرت لنفسي وتناسيت عائلتي تماما.. حتى أمي فقد أدركت من لحظة سفرها أنها لن تعود.. فما انتظرتها ولا أملت في لقياها .. وما فعله إيراكس معي كافيا لامحوه من حياتي وإلى الأبدز. هكذا اردفني ماديو وراء سنام ناقة جهماء….” وحوا تركتها أمها صغيرة.. ثم ترحلت ووالدها وخواتها في بقاع المجاعة .. ثلاث شقيقات يموتن جوع واحدة بعد الثانية .. وحوا يكون حظها بين جدران الكنيسة.. صغيرة ترعرعت حتى أمست في أحضان القس صبية مدورة.
وهكذا نجد “السر” مختلف في سردة لحكاياته.. و”باسالم” مختلف في لهجته وتفكيره للحياة .. فهو يجيد عمل التجارة.. والتعامل ببال واسع.. لكنه الغريب دوما بحنينه إلى موطنه يافع في اليمن.. ورغم تطور تجارته وزواجه بسودانية وانجابه أكثر من سبعة أولاد وبنات ظل إحساسه بالغربة يتفاعل بداخله.
الكاتبة أجادت تقديم الشخصيات بلهجاتها المختلفة.. فاليماني بلهجته والسودانيون والسودانيات بلهجاتهم المختلفة.. فالفور يختلفون بلهجتهم عن الزغاوية والجعلية والدينكا عن الفلاتة وابن وسط السودان عن جنوبه.. وعن شماله وشرقه ” تضحك بود وهي تمسح رأسي:
– أها! دخل القش ما قال كش. يبقى شنو؟
يصيح آجمو:
-الظل الظل.
أصر على أحزية ثانية لي.. تغمز بعينها قائلة:
– كان شلوه ما بنشال.. كان خلوه سكن الدار. ده شنو؟
أصيح واضع كفي على فم آدمو أمنعه أن يسبقني:
– الرماد.. الرماد ياحبوبة.
يأتي صوت حوا غاضبا من قطيتهاك
– سجم الرماد أنتي وهو..دايرين ننوم…”. كما أن تلك الأحداث التي رصدتها الرواية.. من بشاعة الحرب والتصفيات العرقية.. وتداخل المصالح مع قوى إقليمية ودولية.عرت وأدانت قبح الإنسان وانانيته.
هذا العمل المختلف عن أعمالها السابقة في كل شيء.. في المكان ومجتمعه وثقافته .. وكذلك المختلف فنيا.
وتنقلب أحوال مجتمع الخربقة من سلام وأمان وتكافل إلى خوف وقلق بعد أن ظهرت حوامة تحلق بالجوار.. “تذكروا بندقية شديد كادوك على كتفه وزهوه بانتسابه للمتمردين”.
هكذا كان ظهور أحد أفراد الخربقة متمنطقا بندق رشاش.. وهي القرية لم تر يوما سلاحا ناريا.. هكذا تأتي نهاية تجمع بشري ضم أشتات من مختلف سكان السكان بل وضم تركية التي يرجح أصلها بأنها من القارة الأوروبية وباسالم من خارج حدود السودان.
هي أيام بعد رؤية الحوامة في سماء الخربقة التي كانت الحكامة تعتقد بأنها منسية من السلطة ومن العالم.. لتظهر عربات عسكرية .. وعسكر يمتطون الجياد والأبل.. يحاصرون القرية.. يخرجون سكانها يفرزون الأناث عن الذكور. ..”لم ير الرجال الرصاص الذي حصدتهم من الخلف وان سمعوا صيحات الجنجويد: أقتلوا النوبا ..أقتلوا النوبا.
– تمام خلصنا قرية المتمردين كله تام”. ليجرو الفتيات ويغتصبن . وبقية النساء ” رأين رجالهن من كانوا بالأمس آباء وأبناء وعشاقا غارقين في دمائهم في كومات متفرقة ..شاهدن ألسنة اللهب تلتهم في ثوان اعواد البوص والقش التي كانت بيوتهن وسمعن أصوات زينب العميانة التي تموت احتراقا في مكانها…جر عسكر الجنجويد الموشي القليلة الى الشاحنة الاكبر… في حين قادوا آخر النسوة والصبية إلى الشاحنة الصغيرة… ” الحديث حول فنيات هذه العمل مهم.. لكن الحيز لا يسمح ولذلك أكتفيت بتلك الأسطر كتحية لعمل مدهش أضاف إلى معارفي الكثير حول قضية كنت أسمع عنها..قضية مشابهة لما يحدث في بقية أوطاننا.. إضافة إلى أن هذا العمل بذر فيَّ عدة أسئلة.. استقرت لتدفعني باحثا عن أجوبة لها.. أسئلة حول الأديان وعلاقتها بالعنف الذي يجتاح العالم.. وتلك الأفكار القومية والأفكار السلالية.
وتبقى لدي تمني .. لو أن الكاتبة أكتفت بنهاية الرواية عند نهاية الصفحة “248” فما تبعها لم يعد غير استرسال غير مجد موضوعيا وفنيا.. فمع نهاية الصفحة 248 انتهت الرواية بشكل قوي ورائع بعد إحراق عشش الخربقة .. وقتل ذكورها . وتشريد نسائها.. وما بقية الصفحات إلى تكرما بإدانة للمجتمع الأوروبي بلغة لا تخلوا من التهكم من مجتمع يدعي برقي أخلاقه.

قد يعجبك ايضا