“بروق” عنوان رواية للكاتب الفرنسي جان إشنوز وترجمها إلى العربية أبو بكر العيادي. وتأتي هذا الرواية ضمن سلسلة ترجمات الأدب الفرنسيّ التي يصدرها مشروع “كلمة” ويشرف عليها ويراجعها الشاعر والأكاديميّ العراقيّ المقيم بباريس كاظم جهاد.
والكتاب واحد من ثلاثة كتبٍ لإشنوز يقدّمها مشروع “كلمة” بصورة متزامنة، صاغ فيها الكاتب بلغة الرّواية وإجراءاتها سيَرَ ثلاثة من أعلام العصر الحديث: المؤلّف الموسيقيّ الفرنسيّ موريس رافيل (“رافيل”)، والعدّاء التشيكيّ إميل زاتوبيك (“عدْو”)، والمخترع ومهندس الكهرباء الصربيّ-الأمريكيّ نيكولا تسْلا (“بروق”). في كلّ واحدة من هذه الرّوايات البيوغرافيّة أو السِّيَر، يقيم إشنوز شعريّة خاصّة تقترن بمواصفات بطل كلّ رواية ونظامه الشعوريّ والإدراكيّ، وتجترح لغة قادرة على عكسه في خصوصيّته، لا بل في فرادته.
ما يمسك بنا في رواية «بروق» هذه من أقصاها إلى أقصاها هو، من بين أشياء أخرى بعيدة الدّلالة، حدّة هذا التباين الأليم بين سخاء المخترع وشحّة المحيط. بخل الرأسماليّة الصاعدة وحساباتها، وكرم الباذل الذي يريد إنارة المعمورة بكاملها مجّاناً، يضحكون منه ويسرقون براءات اختراعاته وعوائد مبتكراته حتى ينتهي وحيداً معزولاً، واجداً بعض عزاءٍ له في الهذيان الأنيق والسّلوك المُفارق، في محبّة الطيور ومعالجتها وتضميد جراحها، أي في الانغماس المتزايد في غرابة شخصانية بها يواجه غرابة عصره، غرابة ضدّ غرابة وتأكيد على شجاعة الذّات في مواجهة النكران.
هو إذن تَضادّ التوحّد الخلاّق والتكتّل الرأسماليّ. حقبة ظهور واستعراء ونفاجة معمّمة يواجهها تسلا بإبداعية كاسحة، نزقة إلى حدّ ما، ومنزّهة، تجرّد وعلوّ روحانيّ سيكون هو الباعث الأساس لمجده وبؤسه في آنٍ معاً. إنفاقٌ كلّي للطّاقة الفردية ولِذاتِ اليد، رفض للرّبح، تقشّف حتّى الامّحاء، وعبقرية تطوّع الجنون ثمّ تنكفئ أمام حقبة ترى في الكرم الباذخ والإبداع العلميّ المنقّى من فلسفة المنفعة والرّبح عدوّها الأساس. وهو ما يلخّصه ردّ الفعل المصعوق الذي يدلي به أحد مموّلي تسلا عندما يعلم بنيّته في ابتكار نظامٍ يمكّن من مدّ المعمورة بكاملها بالطاقة الكهربائية مجّاناً: «منظومتك لا تستقيم أبداً. فإذا أمكن للعالم كلّه أنْ ينهل من الطّاقة كما يشاء، فما يكون مصيري أنا؟ وأين سأضع العدّاد؟»
نلاقي أيضاً لغة سرديّة تلائم الشخصية المحورية وتعكسها في كلّ تنامياتها؛ موسوعيّة فاعلة وليست من النوع الذي يمكن نيله من الكتب أو جرائد الفترة المعنيّة، بل هي تُلزم بانخراطٍ وتفاعل وابتكار. فنٌّ للبورتريت في النهاية، رسمٌ نافذٌ لفرادةِ شخص. لا كليّة الشّخص، فهذا هو وهم السّير الذاتية الكليّة الذي تخلّى عنه إشنوز بادئ ذي بدء، بل تركيز نهائيّ على مُنحنىً أساسيّ في تجربة الشخص، على خطّ قوّة أو خطّ هروب يلخّص كامل عبوره واختراقه العنيف والصاحي لمصيره.
لا إعلاء لنمطٍ بطوليّ أو سواه، بل تمسّك بالعاديّ المفاجئ، وباليوميّ المفارق، والملموس العجيب. جهدٌ ومقاومة، صمودٌ وتعب، وحصّة عالية من الغرابة لا غرابة فيها في حقيقة الأمر، فما هي إلاّ اقتناصٌ لفرادة شخصٍ مقبوض عليه في مشهده الأليف. هذه الأشياء كلّها هي مسائل كتابة، ومجازات عن الكتابة الأدبية ومشاغل أسلوبية. فما يكون الأسلوب أو الاشتغال عليه إن لم يكن امتحاناً في المسارعة والإبطاء، بروقاً مفاجئة وصراعاً مع الذاكرة واستيلاداً للموسيقى من كثافة صمتٍ معبورٍ بشجاعة؟
جان إشنوز من أبرز الروائيّين الفرنسيّين الذين بزغ نجمهم في ثمانينيّات القرن العشرين، والذين ردّوا الاعتبار للسّرد التقليديّ، مفيدين في الأوان ذاته من منجزات الرّواية الحديثة. ولد في السادس والعشرين من ديسمبر 1947 في مدينة أورانج في الجنوب الشرقيّ من فرنسا، لأبٍ طبيبٍ نفسيّ وأمّ رسّامة. ولدى إنهائه الدراسة الثانويّة، بدأ بدراسة الكيمياء، ثمّ انعطف إلى علم الاجتماع، فالموسيقى، ثمّ عقد العزم على ممارسة الكتابة الأدبيّة. نشر حتّى الآن ثماني عشرة رواية، وكتب للسّينما عدداً من السيناريوهات. فاز في 1983 بجائزة مديسيس عن روايته “شيروكي”، وفي 1999 بجائزة غونكور عن روايته “أنا راحل”.
أمّا مترجم الكتاب، أبو بكر العيادي، فهو كاتب ومترجم تونسيّ مهاجر، ولد عام 1949 في جندوبة، ويقيم في فرنسا منذ 1988. نشر ستّ روايات وسبع مجموعات قصصية، ووضع كتباً بالفرنسية مستوحاة من التراث القصصيّ العربيّ والحكايات الشعبية التونسية، ونقل إلى العربية أعمالاً من الأدب العالمي منها: «أمراض الأدب القاتلة» عن الهيئة الثقافية العامة، بغداد 1990، ورواية «ذهول ورعدة» لأميلي نوتومب، القاهرة 2012، ورواية «مذكرات شيهم» لألان مابانكو، القاهرة 2015، عن الهيئة المصرية للكتاب. يعمل محرّراً بجريدة العرب، ومستشار تحرير بمجلّة «الجديد» اللندنية.